تتطلع أوكرانيا لبناء علاقات مع تركيا تتجاوز الشراكة الاستراتيجية. وقد قال وزير الخارجية الأوكراني في تصريح له إن كييف وأنقرة بإمكانهما بناء شيء يتجاوز الشراكة الاستراتيجية، كما تحدث مجددا عن الصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ مؤكدا على دعم بلاده لوحدة الأراضي الأذربيجانية. ولطالما أظهرت كييف بالفعل اهتمامها بالتقارب مع أنقرة، خاصة في المجالين الاقتصادي والعسكري. وكانت الاتصالات بين قيادة البلدين دائما ما تتميز بالإشارات السياسية الإيجابية.
يعتقد دميترو وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا أن كييف وأنقرة بإمكانهما بناء تحالف تجاوز الشراكة الاستراتيجية. وقد صرح بذلك في لقاء مع شبكة بي بي سي البريطانية، مشيرا إلى أن أوكرانيا نجحت فعلا في إقامة علاقات وثيقة مع أنقرة، في عدة مجالات بما فيها العسكرية.
وقال كوليبا: “نحن نشتري من تركيا الطائرات المسيرة ونشارك في إنتاجها، وهذه مشاريع واعدة جدا. ونحن نخطط أيضا لتطويرها ودخول مجالات تعاون جديدة، لأن الوحدة بين تركيا وأوكرانيا ستجلب الكثير من الفوائد للبلدين وللمنطقة بأكملها.”
وقد أشار وزير الخارجية الأوكراني أيضا إلى أن بلاده مهتمة بتعميق العلاقات مع تركيا، بما أن التعاون بين البلدين يمكن أن يحقق لكليهما مصالح عديدة. حيث قال: “نحن مهتمون بهذا الحوار وبتعميق المشاورات والتفاعل بين الجانبين.”
والمثير للانتباه في هذا السياق هو أن كوليبا جدد تأكيده على دعم كييف لوحدة أراضي أذربيجان في ظل الصراع العسكري الدائر في إقليم ناغورنو كاراباخ. وفي نفس الوقت أعرب الوزير عن أسفه للتصعيد الذي شهده هذا الصراع والضحايا الذين سقطوا فيه.
هذا التصريح الذي أدلى به المسؤول الأول عن الديبلوماسية الأوكرانية يوم 30 أيلول/ سبتمبر الماضي، يعني أن كييف خرجت عن صف عدد كبير من اللاعبين الدوليين الذين فضلوا الوقوف على الحياد في هذا الصراع. ويأتي هذا في وقت تلعب فيه تركيا دورا نشطا في دعم أذربيجان، وقد كانت أرمينيا في أكثر من مناسبة قد اتهمت أنقرة بالتدخل المباشر في هذا الصراع، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل ذلك أن باريس لديها أدلة على وجود مسلحين سوريين يقاتلون في صفوف أذربيجان، تم نقلهم عبر تركيا.
يشار إلى أن وزارة الخارجية الأوكرانية كانت قد أصدرت بيانا في 27 أيلول/ سبتمبر، عبرت فيه عن حيادها تجاه هذه الأزمة. ولكن في الواقع فإن كييف تعمل بشكل جاد على تعميق العلاقات مع أنقرة، وينصب تركيزها على المجالين العسكري والتقني.
فقبل عام واحد كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أثناء مؤتمر صحفي قد صرح بأنه يرغب في نقل مستوى التعاون والتبادل التجاري مع تركيا إلى مستويات جديدة، تتجاوز مؤشرات التعاون بين أنقرة وموسكو.
حيث قال: “حاليا تجمعنا علاقات ممتازة جدا مع تركيا وحجم المبادلات التجارية بيننا مرتفع جدا. الآن نحتاج إلى زيادة هذه المبادلات وتحقيق تقارب أكثر، نريد أن تكون العلاقات بين أوكرانيا وتركيا أقوى من العلاقات بين تركيا وروسيا.”
وقد استذكر زيلينسكي أيضا لقائه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي اتفق فيه الرئيسان على تدعيم العلاقات في مجال الدفاع.
الأوكرانيون عبروا عن اهتمام خاص بإنتاج الطائرات المسيرة. بعد ذلك بأشهر قليلة أدى أردوغان زيارة إلى كييف تبعها اتفاق بين البلدين حول التعاون المالي والعسكري، إلى جانب توقيع مجموعة من الاتفاقات الثنائية.
وقد أكد الرئيس التركي حينها على دعم بلاده لوحدة الأراضي الأوكرانية، وكان قد حيا الوفد الأوكراني بالشعار القومي الذي يحبذونه وهو “المجد لأوكرانيا”.
أما الرئيس الأوكراني من جانبه فقد صرح بأنه سوف يهتم بشكل شخصي بقضية المعارضين الأتراك الذين يعيشون في بلده، والحديث هنا عن أنصار جماعة فتح الله غولن، الذين يتهمهم أردوغان بالتخطيط لمحاولة الانقلاب العسكري التي وقعت في العام 2016.
وقال زيلينسكي في المؤتمر الصحفي: “اليوم تكلمنا حول هذا الموضوع لوقت طويل، وناقشناه بتفاصيله. أنا أعلم أن هذه المسألة كانت منذ زمن على رأس جدول الأعمال بين أوكرانيا وتركيا. واليوم تحصلت على معلومات مفصلة من الرئيس أردوغان وهنالك عدة أسماء. لقد قمت بتسليم كل هذه المعلومات إلى رئيس جهاز الأمن الذي سوف يتعامل مع هذه المسألة.”
إضافة إلى ذلك فقد تعهد الرئيس التركي بتخصيص مبلغ 50 مليون دولار من المساعدات العسكرية لكييف. وخلال هذه اللقاءات قال الرئيس الأوكراني من جانبه أن بلاده تأمل أن يصل حجم الاستثمارات التركية إلى 10 مليار دولار. ومؤخرا ارتفعت وتيرة العمل على تعميق التعاون الاقتصادي بين الجانبين. ففي أيلول/ سبتمبر كان إيغور بيتراشكو وزير الاقتصاد الأوكراني قد أعلن أن الجانبين يعملان على إعادة إطلاق مفاوضات طويلة المدى لإيجاد حل مشترك بتوقيع اتفاق للتجارة الحرة.
وقال بيتراشكو: “أنا مقتنع بأن هذه الخطوة سوف تمثل دفعة لبلوغ الهدف الطموح الذي نسعى إليه، وهو زيادة حجم المبادلات التجارية بين الجانبين لتبلغ 10 مليار دولار، خاصة وأن أوكرانيا وتركيا تجمعهما روابط اقتصادية متينة.”
أحد أهم الموضوعات في هذا الحوار الثنائي بين البلدين كان زيادة تركيا للتعريفات الجمركية، في إطار ما يسمح به قانون منظمة التجارة العالمية، وهو ما أثر سلبا على الشركات الأوكرانية. ومسألة التعريفات التركية لا تمثل فقط جانبا مهما من فرص التطور المستقبلي للتعاون الاقتصادي بين البلدين، بل إن تركيا تمثل واحدة من أهم خمسة مشترين للبضائع الأوكرانية.
وبناء على حساباتها المالية والقانونية، تحرص تركيا على حماية أسواقها الداخلية وتعزيز موقفها في المفاوضات مع أوكرانيا. ولذلك فإن الأخيرة لا تبدو سعيدة بهذا الأسلوب، إلا أنها في نفس الوقت لا يمكنها الاستغناء عن الحوار مع أنقرة. وتواجه أوكرانيا معضلة في التعامل مع هذا الملف، لأن المعاليم الجمركية التي فرضتها أنقرة لا تتنافى مع قواعد منظمة التجارة العالمية. هذه الوضعية تدفع بالبلدين لفتح حوار جدي حول التجارة الحرة. وقد أكد وزير التجارة الأوكراني تاراس كاشكا أن بلاده تلقت عرضا محدّثا للتعريفات من أنقرة، إلا أنه رفض الإفصاح عن تفاصيله. وبعد أيام قليلة كشفت الصحافة أن أوكرانيا وتركيا اتفقتا على تعميق التعاون وإطلاق برنامج مشترك في الصناعات الفضائية.
ومن الطبيعي أن تكون الروابط الاقتصادية والعسكرية مع تركيا في غاية الأهمية لكييف. وفي نفس الوقت هنالك سبب وجيه يجعل كل طرف يرسل إشارات سياسية براقة إلى الطرف الآخر، إذ أن هذا الأمر يعكس الطبيعة الجيوسياسية للاتصالات بين قيادة البلدين. ومن غير الممكن عدم ملاحظة أن أوكرانيا ترسل هذه الإشارات لبلد باتت علاقته مع روسيا تشهد تعقيدا متزايدا.
فقد تمكنت أنقرة وموسكو من إقامة علاقات جيدة إلى حد ما، إلا أن المصالح المتضاربة بينهما دائما ما تلقي بظلالها، خاصة في الشرق الأوسط الذي شهد في عدة مناسبات أزمات وخطر اندلاع مواجهات مباشرة بينهما. ولكن في نفس الوقت كانت تركيا وروسيا دائما ما تتمكنان من التوصل لاتفاق.
وفي الأثناء يظهر الرئيس رجب طيب أردوغان نجاحا كبيرا في الحفاظ على التوازن، بين موسكو وخصمها الجيوسياسي واشنطن. إذ أن أردوغان كان قد زار الولايات المتحدة أولا ثم روسيا، لمناقشة الحرب الأهلية في سوريا، وبذلك استفاد من التواصل من كلا الطرفين.
ويمكن اعتبار أن المناورات الدبلوماسية باتت تمثل الورقة الرابحة التي يستخدمها أردوغان، ولا أحد سيكون متفاجئا من تمكنه من التوافق على اقتسام دوائر النفوذ مع موسكو في سوريا، وفي نفس الوقت الترحيب بالرئيس زيلينسكي عبر رفع الشعارات القومية الأوكرانية.
فمن خلال بناء علاقات مع الأضداد ، يظهر أردوغان استقلاليته ويعزز موقفه في طاولة المفاوضات. أما أوكرانيا من جهتها فهي تستفيد من المواقف الداعمة التي تتلقاها من اللاعبين السياسيين الدوليين، خاصة إذا كانوا من المقربين من روسيا. إضافة إلى ذلك فإن المفاوضات الطويلة بين زيلينسكي وأردوغان، تسعى من خلالها كييف لإقحام تركيا في الصراع مع روسيا، عبر منحها صفة الوسيط. وكان أردوغان في 2018 قد فاجئ الجميع بإعلانه أن أنقرة ترغب في لعب دور وساطة في الصراع الدائر بين البلدين.
المصدر: غازيتا