ترجمة وتحرير نون بوست
بلغت المواجهة مع الصين ذروتها في العديد من البلدان الغربية. توضح النزاعات حول التجارة وبحر الصين الجنوبي وكوفيد-19 ودور هواوي في تطوير تقنية الجيل الخامس رغبة متعطشة لشن حرب باردة جديدة ضد بكين. ورغم وجود العديد من الأسباب الوجيهة لانتقاد الصين، إلا أن هناك خطرا متزايدا من أن يولد رهاب الصين فهما مشوها للسلوك الصيني، تتبعها ردود فعل سياسية غير محسوبة.
على غرار ما قلته أنا وشاهار حميري في تقرير جديد لخلية التفكير البريطانية “تشاتام هاوس”، فإن هذه الادعاءات صحيحة عندما يتعلق الأمر بمبادرة الحزام والطريق الصينية. فالسياسة الخارجية المميزة للرئيس شي جين بينغ ومبادرة الحزام والطريق الخارجية تعزز ربط مشاريع البنية التحتية عبر أوراسيا وشرق أفريقيا. وعادة ما ينظر إليها النقاد وصناع القرار باعتبارها استراتيجية كبرى مصممة لتحدي الهيمنة الأمريكية، وهو الأمر الذي يتطلب مواجهة تصادمية بينهما.
كان للروايات المتعلقة بدبلوماسية فخ الديون، التي نشأت في خلية تفكير تتخذ من نيودلهي مقرا لها، تأثير كبير أيضًا. وهي تفترض أن بكين تتعمد إغراء البلدان الفقيرة من خلال إثقال كاهلها بديون لا يمكنها تحملها لتمويل مشاريع البنية الأساسية، الأمر الذي يمكّن الصين من الاستيلاء على هذه الأصول عندما يعجز المستفيدون منها عن سداد ديونهم، وهو ما يساهم في توسع الصين الاستراتيجي.
بينما انتقد وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون مبادرة الحزام والطريق بصفتها تندرج ضمن “الاقتصاد المفترس، اتهم نائب الرئيس مايك بنس بكين باستخدام دبلوماسية فخ الديون في سريلانكا لإنشاء “قاعدة عسكرية أمامية للقوات البحرية الصينية المتنامية في المياه الزرقاء”. كما يبين تقريرنا، فإن هذا ببساطة غير صحيح. تسيء هذه الرواية فهم الصين وتتجاهل مصالح ووكالات البلدان المتلقية.
في حين تتعرض الدول الغربية غالبا لموجة من الانتقادات بسبب عدم اتخاذها استراتيجيات شاملة والاعتماد بدلا من ذلك على الحوكمة الفوضوية، يُنظر إلى الصين على نطاق واسع – بحسد – على أنها العكس تماما. فهي تفرض تدابير رقابة صارمة وتعتمد على استراتيجيات محكمة ومنظمة جيدا. وفي الواقع، وثق علماء الحضارة الصينية على مدى عقود بما يطلقون عليه “الاستبداد المجزأ”، وحددوا الخصومات الشرسة بين الوكالات والأحزاب التي يكافح كبار قادتها من أجل إدارتها، حتى في عهد شي جين بينغ، الزعيم الأكثر الأهمية في الصين منذ عقود. وقد كان من السباقين لمبادرة الحزام والطريق من خلال حملة التنمية الغربية الكبرى، التي لم تكن مجرد شعار فحسب، بل سياسة محددة بوضوح.
إن ما يحرك تمويل التنمية الصيني هم المستفيدون، إذ تبدأ المدفوعات بطلبات من الخارج وليس من المخططين الصينيين
بهدف رفع مستوى التنمية في المناطق الداخلية الأكثر فقرا في الصين، كان معظم التمويل المخصص لذلك موجها من الشركات المملوكة للدولة وحكومات المقاطعات نحو مشاريع البنية التحتية التي ولدت فائضا هائلا من القدرات وساهمت في نمو الشركات والوظائف المحلية والكفاءات.
تُعبّر مبادرة الحزام والطريق عن السلطوية المجزأة. وعادة ما تنسب إلى خطابين ألقاهما شي سنة 2013، كما لو أن الفكرة انبثقت بالكامل من عقله الفريد استجابة للقيادة الأمريكية الفاشلة ونمو اقتصاد الصين السريع. في الحقيقة، نشأت فكرة مشاريع البنية التحتية الصينية طويلة الأمد تحت شعار أطلقته اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، التي تعد الوكالة الرئيسية المسؤولة عن التخطيط الاقتصادي. ولكن ما بدأ كخطة متماسكة إلى حد ما لتحسين الاتصال مع حوالي 60 دولة مجاورة سرعان ما تحول إلى مبادرة عالمية تتنافس من أجلها الوكالات الحكومية للحصول على الموارد.
قادت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح – وليس الاستراتيجيين – عملية تخطيط السياسات. ولكن المحتوى الحقيقي قدمته الشركات المملوكة للدولة والمقاطعات، التي أدخلت مشاريعها المفضلة في صلب مشاريع مبادرة الحزام والطريق. لا تهتم هذه الجهات الفاعلة كثيرا بالأهداف الدبلوماسية للصين (بل غالبا ما تقوضها على المستوى العملي)، ولكنها بارعة في تسخير مصالحها لأفكار وشعارات كبار القادة الغامضة.
بناءً على ذلك، تبدو وثائق التخطيط لمبادرة الحزام والطريق فضفاضة للغاية، وتستوعب مختلف المصالح والمشاريع، بدلاً من توجيه موارد الدولة نحو أغراض جيوسياسية محددة. ولا توجد استراتيجية كبرى مفصلة ولا حتى خريطة رسمية، ناهيك عن أنه تم حظر الخرائط غير الرسمية سنة 2017.
يبدو نظام تمويل التنمية المجزأ في الصين غير مناسب أيضًا لتوجيه مبادرة الحزام والطريق لتحقيق أهداف جيوسياسية، فضلا عن الوكالات الدبلوماسية والعسكرية والاستراتيجية بالكاد وقع تشريكها.
إن ما يحرك تمويل التنمية الصيني هم المستفيدون، إذ تبدأ المدفوعات بطلبات من الخارج وليس من المخططين الصينيين. إن الهيكل بأكمله – خاصة اليوم، مع تباطؤ النمو وانهيار الربحية وتوطُّن فائض الطاقة – يميل نحو مساعدة الشركات الصينية على التوسع في الخارج. يقع إعطاء الأولوية للمصالح التجارية للشركات، في حين أن الاهتمام بتحليل الجدوى وإدارة المخاطر والرقابة ضعيف.
ينتج عن ذلك موافقة جزئية وغير استراتيجية على العديد من القروض والاستثمارات المشكوك فيها. ومن سنة 2014 إلى غاية سنة 2016، حذرت وسائل الإعلام الحكومية بدورها من غياب الإشراف على الشركات، بينما ندد محافظ البنك المركزي بالعديد من المشاريع التي “لا تفي بمتطلبات سياستنا الصناعية” و”ليست ذات فائدة كبيرة للصين وأدت إلى شكاوى في الخارج”.
مع أن هذا أدى إلى تضييق الخناق قليلا على الاستثمار الخارجي، لا سيما فيما يتعلق بالعقارات، لا يزال حوالي نصف الاستثمارات الصينية في الخارج يتسبب في خسائر. لم يتدفق الاستثمار الخارجي حتى إلى “الممرات” الستة الموضحة في وثائق السياسة الرسمية، إذ تذهب 13 في المئة فقط من الاستثمار الخارجي إلى بلدان مبادرة الحزام والطريق. كما تظهر وثائق المشروع أن المصالح التجارية وفائض الإنتاجية على الصعيد المحلي هي المحرك الرئيسي للمشاريع، التي “لا تنظم أو تسترشد” بسياسة الحكومة.
بما أن مبادرة الحزام والطريق ليست خطة متماسكة ومشؤومة، فإن الدول المتلقية أيضًا ليست مجرد ضحايا تعساء لدبلوماسية فخ الديون التي تنتهجها بكين. فلا يمكن بناء أي شيء في أراضيها دون موافقتها، وهي تشارك لأسباب خاصة بها – سواء كانت حسنة أو خبيثة النوايا.
بحلول سنة 2016، وجدت سريلانكا نفسها في أزمة ديون خطيرة – ليس بسبب الإقراض الصيني الذي يمثل 6 في المئة فقط من الدين الخارجي لكولومبو
حسب تقديرات البنك الدولي فإن 97 تريليون دولار من الاستثمارات في البنية التحتية مطلوبة في جميع أنحاء العالم بحلول سنة 2040. وتعتبر البلدان النامية الفقيرة في أمس الحاجة إلى هذه الاستثمارات، لكن المانحين الغربيين تخلوا بشكل عام عن تطوير البنية التحتية لصالح ما يسمى بمشاريع الحوكمة الرشيد. لذلك من المنطقي أن تكون المساعدة الصينية جذابة للكثير من الدول.
لكن لا يمكن إنكار وجود النوايا الخبيثة أيضا، خاصة أن قطاع البناء والمقاولات قطاع اقتصادي يستفحل فيه الفساد بشكل لا يصدق. ويمكن للنخب الحصول على عمولات وتخصيص المشاريع لخدمة حملة انتخابية أو إدخال أصدقائهم في الأعمال التجارية عبر المشاريع المشتركة المربحة.
من السهل أن يطغى الجشع على التخطيط التنموي العقلاني، خاصة إذا افترض المستفيدون – خطأً – أن الصين ستبذل العناية الواجبة من أجلهم. لكن الضرر يتفاقم بفشل الحكومات في تنظيم عمل الشركات الصينية بشكل مناسب وإهمال استشارة السكان المتضررين أو تعويضهم. فعلى سبيل المثال، برزت فضائح فساد متكررة حول مشاريع الطاقة في كازاخستان، واندلعت احتجاجات تنديدا بالاستيلاء على الأراضي في كمبوديا، حيث يفعل كبار رجال الأعمال المرتبطين بالنظام وشركاؤهم الصينيين ما يشاؤون مع التمتع بالحصانة.
لكن هذه الممارسات المعتلة – على الجانبين الصيني والدولة المتلقية – هي التي تشكل عملية اختيار وتصميم وتنفيذ مشاريع مبادرة الحزام والطريق وتحدد نتائجها. بدلاً من الظهور من أعلى إلى أسفل في إطار “إستراتيجية كبرى” أحادية الجانب، تظهر المشاريع – وعيوبها – عادةً من أسفل، من خلال التفاعل بين مصالح النخبة المتلقية والأجندات التجارية للمطورين الصينيين. يمكنهم بسهولة استغلال مبادرة الحزام والطريق الغامضة للحصول على قروض وموافقات، لا سيما في البلدان التي يرغب كبار القادة الصينيين من تعزيز العلاقات معها.
اعتُبر ميناء هامبانتوتا في سريلانكا أبرز مثال على دبلوماسية فخ الديون، لكنه في الواقع يعد مثالاً على ديناميكيات العالم الحقيقي الفوضوية. لم يأت اقتراح بناء الميناء من الجيوسياسيين الصينيين، بل من عائلة راجاباكسا النافذة في سريلانكا. لقد كان جزءًا من استراتيجية تطوير ضخمة وقع تبنيها في سنة 2006 – قبل وقت طويل من إطلاق مبادرة الحزام والطريق – تهدف إلى تعزيز الدعم الانتخابي في المقاطعة التي تقيم فيها الأسرة وتهيئة معقل النظام نفسه. كما تضمنت هذه الرؤية المريبة مشروع مطار جديد ومركز مؤتمرات وملعب كريكيت وخطوط طيران.
لقد شُجعت عائلة راجاباكسا من قبل شركة “تشاينا هاربور إنجينيرينغ” الصينية المملوكة للدولة، التي كانت تتطلع إلى عقد صفقات مربحة في سريلانكا بعد الصراع. بالغت الشركة في المكاسب المتوقعة من المشروع وساعدت كولومبو في التقدم بطلب للحصول على تمويل صيني، إلا أن شركة “سينوهيدرو” المنافسة تدخّلت، لتقوم كلتا الشركتين بتجنيد أشقاء مختلفين للرئيس في محاولة لتأمين العقد. وافق المنظمون الصينيون على الصفقة دون تفكير، حيث تتحمل “كولومبو” عبء الدين السيادي الذي يعادل 1.34 مليار دولار؛ وستشترك كلتا الشركتين الصينيتين في العقد المربح؛ وتحصل بكين على تأييد حكومة صديقة.
لكن من الناحية العملية، أخذت الأمور منعرجا سيئًا. جرت أشغال البناء بسلاسة، لكن “كولومبو” أخفقت من الناحية التنفيذية وفتحت الميناء قبل الأوان للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس بينما لا تزال صخرة ضخمة تمنع الدخول، وفشلت في توفير خدمات الموانئ أو جذب المستثمرين. ومثل المطار القريب – أكثر المطارات فراغا في العالم – سرعان ما تكبد ميناء هامبانتوتا خسائر فادحة.
هناك أيضًا مجال للتعاون مع الصين، حيث يُظهر البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية كيف يمكن لوكالات التنمية الغربية والصينية أن تتعاون لتحسين نزاهة ومعايير المشاريع الصينية
بحلول سنة 2016، وجدت سريلانكا نفسها في أزمة ديون خطيرة – ليس بسبب الإقراض الصيني الذي يمثل 6 في المئة فقط من الدين الخارجي لكولومبو – بل الاقتراض المتهور في الأسواق الدولية المقومة بالدولار وسط التيسير الكمي للولايات المتحدة.
لم تستغل بكين الأزمة للاستيلاء على الميناء مقابل تخفيف الديون. وبناءً على حث كولومبو لها، رتبت بكين “استثمارا” لشركة أخرى مملوكة للدولة “تشاينا ميرشانت بورتس” بمبلغ 1.1 مليار دولار مقابل عقد إيجار مدته 99 سنة. لكن القروض الأصلية ظلت قائمة.
خصصت دفعات الأموال لسداد الديون للدائنين الغربيين وتعزيز الاحتياطيات الأجنبية لسريلانكا. لذلك شكر وزير الموانئ السريلانكي “الصين على تهيئة هذا المستثمر لإنقاذنا من فخ الديون”. والآن، تكافح “تشاينا ميرشانت بورتس” لإرباح هذا الفيل الأبيض لتسترد استثماراتها.
كان من المفترض أن تستولي الصين على “هامبانتوتا” لتوسيع نفوذها البحري، لكنها في الواقع لا تستطيع استخدام الميناء لأغراض عسكرية، حيث يُمنع ذلك بعبارة صريحة في نص اتفاقية الإيجار. ما زالت القوات البحرية السريلانكية مسؤولة عن أمن الميناء، وتقوم بتحويل قيادتها الجنوبية إلى هامبانتوتا. لم ترسُ أي سفن بحرية صينية في الميناء – رغم قيام بعض السفن الحربية الأمريكية واليابانية والهندية بذلك. باختصار، إن الكثير مما يدعي النقاد معرفته عن ميناء هامبانتوتا هو في الواقع مجرد خرافات.
إن الفوضى أكثر شيوعًا من المؤامرة في ممارسات الاستثمار الصيني في الخارج. لا ترشد الروايات الاستراتيجية مشاريع مبادرة الحزام والطريق بقدر ما تخلق فرصًا يمكن للجهات الفاعلة ذات المصلحة الذاتية استغلالها. كما أن الدبلوماسيين والمنظمين في بكين لا يلهمون مشاريع محددة بقدر ما يقومون بتنظيف الفوضى عندما تسوء الأمور.
يمكن القول إنه بدلاً من التنديد بمبادرة الحزام والطريق ومحاولة إعاقتها، سيكون من الأفضل لصانعي السياسة الغربيين تشجيعها، حيث يؤدي الإفراط في التوسع وضعف الرقابة إلى خلق معارضة شديدة ضد الصين في العديد من بلدان مبادرة الحزام والطريق، دون أي تدخل خارجي.
لكن إذا كان الغرب يرغب في مساعدة سكان جنوب الكرة الأرضية، فهناك خيارات أفضل. يمكنهم توفير خيارات تمويل بديلة، والمساعدة في تعزيز قدرة الدول المتلقية على تقييم جدوى المشاريع، والمساومة بقوة أكبر مع المقرضين والمقاولين الصينيين، ويمكنهم دعم حملات المجتمع المدني المطالبة بالشفافية ومشاركة العامة في الخطط والمشتريات والرقابة.
هناك أيضًا مجال للتعاون مع الصين، حيث يُظهر البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية كيف يمكن لوكالات التنمية الغربية والصينية أن تتعاون لتحسين نزاهة ومعايير المشاريع الصينية. يمكن أيضا تعزيز التمويل بزيادة التعاون بشكل أكبر. لكن ذلك سيتطلب التخلص من رهاب الصين، الذي يعيق عملية وضع السياسات بشكل متزايد، وتنمية فهم أكثر واقعية لطبيعة وحدود القوة الصينية.
المصدر: فورين بوليسي