عرف التاريخ الإسلامي ثلاثة من النساء اللائي حكمن دولة في العالم الإسلامي، الأولى هي أروى بنت أحمد الصالحية التي تولّت عرش اليمن بعد وفاة زوجها الملك المكرم سنة (477هـ / 1084م) وظلت بالحكم قرابة 55 عامًا، وكانت تلقب بالحُرة والسيدة السديدة، كذلك شجرة الدر التي حكمت مصر سنة (648هـ /1250م) ولم يستمر حكمها إلا 80 يومًا فقط.
ثم تأتي السلطان راضية الدين التتمش التي جلست على عرش مدينة دلهي بالهند لمدة 4 سنوات (1236 – 1240م) نجحت خلالها في تقديم نموذج مشرف للملكة القادرة على إدارة الدولة وتصريف شؤونها على أكمل وجه، هذا بخلاف شغفها الكبير بالعلم ورعاية العلماء، فأسست المدارس والجامعات ومراكز البحث والمكتبات العامة.
تعد راضية – وهي من أصول تركية، فهي ابنة شمس الدين التتمش (المملوك التركي الذي بات سلطانًا لدلهي) – أول امرأة تحكم الهند في عصورها التاريخية، كما أنها أول سيدة في التاريخ تتوج بسلطنة دلهي بجانب كونها أول حاكمة مسلمة في جنوب آسيا، وقد رفضت منح نفسها لقب “سلطانة” لتبقي على صيغته المذكر، بهدف إحكام السيطرة على المدينة، فارتدت زي المحاربين وحملت السيف وانخرطت في العمل القتالي دفاعًا عن السلطنة، ومن هنا لقبها بعض المؤرخين بـ”المرأة الحديدية”.
تلقت التتمش تعاليم القتال وفنون إدارة الدولة على يد والدها، السلطان المقاتل، الذي أهلها لأن تكون خليفته المستقبلية في إدارة شؤون السلطنة، خلفًا لأخيها ركن الدين فيروز، فبرز منذ نعومة أظفارها نبوغها في فن الإدارة والقيادة، فتفوقت على كثير من نظرائها في هذا الوقت، حتى من الرجال، الأمر الذي دفعها لأن تتبوأ هذا المنصب رغم حداثته في ذلك الوقت، لتقدم تجربة فريدة في الإدارة النسائية للدولة.
لجأت الأميرة الشابة إلى “مجلس الأربعين” وهو المجلس الذي أقامه والدها لمساعدته في حكم البلاد ونصرة المظلومين وجلب الحقوق لأصحابها من الظالمين
حبيبة والدها
رغم أنها كانت البنت بجوار أربعة ذكور – غير أشقاء – هم أبناء السلطان شمس الدين التتمش، فإنها كانت قرة عينه وحبيبته المقربة إلى قلبه، فكان دومًا يصطحبها في جولاته الخارجية، وكان يرتبط بها بشكل غير معهود مع أبناءه الذكور، حتى نقل عنه أنه دومًا ما كان يردد: “ابنتي أفضل من العديد من الأبناء”.
حين ولدت راضية عام 1205م غمرت السعادة منزل السلطان الذي أقام الاحتفالات الكبيرة ابتهاجًا بقدومها، وكرس جهوده ووقته لتعليمها وتدريبها، وما إن بلغت الثالثة عشر من عمرها حتى أصبحت واحدة من أمهر الرماة والفوارس في الهند، وهو ما بدأ يُلفت الأنظار إليها.
ومن فرط الثقة التي كان يوليها شمس الدين لابنته أن ولاها رئاسة الحكومة في دلهي في سن صغيرة، حينما كان منشغلًا هو وجيشه بحصار غواليور، لكن عقب عودته فوجئ بأداء غير متوقع في إدارة شؤون الدولة، فاستطاعت في هذا الوقت القصير أن تعالج كل الأخطاء الموجودة ونجحت في إحكام السيطرة والتصدي لمساعي الفوضى والتقصير من التيارات والأطياف كافة، ما دفع السلطان الوالد لمنحها منصبًا أكبر، فكان التفكير في تعيينها خليفة له.
أثار قرب الأميرة الشابة لوالدها حفيظة الحاشية والمقربين وعلى رأسهم أبنائه الذكور، وذلك رغم أن الخلافة كانت محسومة لابنه الأكبر ركن الدين، لكن سرعان ما دبت الغيرة في نفوس الجميع، بما فيهم تركان شاه، أم ركن الدين، المرشح لخلافة والده، الأمر الذي دفعها للتخلص من كل المعارضين أو المنافسين لولدها.. ومن هنا بدأت قصية الولاية للسلطانة.
نجاة من القتل
بعد وفاة السلطان التتمش عام 1236م – الذي كان مملوكًا فاشتراه السلطان قطب الدين أيبك (1150-1210م) من غزنة، ليحظى بثقة سيده بعدما أثبت مهارة وقدرات قتالية فائقة، فولاه رئاسة حرسه، ثم إدارة بعض الولايات الهندية بخلاف كونه قائدا للجيوش ونائبًا عن السلطان، ثم سلطانًا – تولى نجله الأكبر ركن الدين فيروز حكم السلطنة، لكنه لم يكن على المستوى المأمول.
في كتابه “طبقات الناصري” قال المؤلف منهاج سراج الجوزجاني: “أصبح الملك عبدًا للمجون والفجور” الأمر الذي أثار غضب الجميع ممن فكروا في عزله من منصبه حفاظًا على مكتسبات والده التي تحققت في عهده ويخشى عليها من الضياع على يد الابن الماجن.
وهنا تدخلت والدته تركان شاه التي بدأت في تنفيذ مخطط الاغتيالات ضد كل المنافسين المحتملين للعرش، وهو ما اعترض عليه أخيه الأصغر ما دفع السلطان لقتله، وهنا ثارت ثائرة المعارضة ضده، وأعلنت أخته راضية غضبها الجم لمقتل أخيها، ما عرضها لملاقاة نفس المصير، حتى تلقت تهديدًا بالقتل من أخيها الحاكم.
هنا لجأت الأميرة الشابة إلى “مجلس الأربعين” وهو المجلس الذي أقامه والدها لمساعدته في حكم البلاد ونصرة المظلومين وجلب الحقوق لأصحابها من الظالمين والفاسدين، حيث توجهت إلى مقر المجلس بعد صلاة الجمعة في أحد الأيام، فيما كان شقيقها يصلي بمسجد قريب منه، فصعدت على سطح أحد البنايات الملاصقة للمسجد والمجلس وهي ترتدي ثيابًا ملونة كعلامة على تعرضها للظلم وخطبت في الناس.
ناشدت راضية جموع الناس بحمايتها من أخيها السلطان الذي ينتوي قتلها كما قتل شقيقه، وحذرت من سياسته وطريقة إدارته لحكم البلاد، الأمر الذي زاد أحوال السلطنة سوءًا، مذكرة الناس بأيام والدها وعدله ورجاحة عقله، ما ترك أثرًا كبيرًا في نفوس المصلين، حيث سارعوا لإلقاء القبض على السلطان وساقوه إلى أخته لتحكم عليه، وهنا كان ردها “القاتل يقتل” وبالفعل قتل الناس السلطان قصاصًا لأخيه الذي قتله.
كان من أبرز إنجازاتها العسكرية أن نجحت في مهاجمة قلعة “رنتهبور” التي كان يحاصر الهنود المئات من المسلمين بداخلها بعد وفاة والدها
ولاية العرش
بعد مقتل السلطان ولما كان شقيقيه معز الدين وناصر الدين ما زالا طفلين، لم يجد الناس غير راضية للجلوس على عرش السلطنة، وسط ترحيب كبير من الشعب واقتناع بما لديها من مؤهلات قادرة على إدارة الدولة في تلك المرحلة الحرجة التي كانت عليها في ظل خلافة شقيقها الأكبر.
سعت السلطانة إلى النهوض بالبلاد بعد التراجع الكبير الذي شهدته بسبب غرق ركن الدين في مستنقع الإسراف على الملذات والمجون، ما جعل خزائن السلطنة خاوية تمامًا من المال، لتبدأ خطواتها نحو التنمية وتعويض ما فات، مستندة إلى سياسة والدها الحكيمة وأسلوبه القويم في إدارة شؤون الدولة.
أربع سنوات كاملة قضتها راضية فوق كرسي العرش، حافظت فيها على رقي ونهضة مدينة دلهي، باعتبارها عاصمة لدولة سلاطين المماليك بالهند، كرست خلالها جهودها ومالها لرعاية العلم والعلماء، فدشنت المدارس والمؤسسات التعليمية وأولت الطلاب والباحثين المكانة الكبرى، حتى تحولت دلهي إلى واحدة من أكثر دول العالم – آنذاك – تقدمًا في المسار العلمي والتعليمي.
وتخليدًا لهذا الدور الكبير الذي أدته كملكة متوجة على عرش السلطنة، لقبها الشعب الهندي بالعديد من الألقاب والمسميات التي حظي بها التراث الشعبي للبلاد أبرزها: “عمدة النساء، ملكة الزمان، رضية الدنيا والدين”، كما نُقش اسمها على نقود الخزانة العامة، حيث دون على وجه العملة اسم “السلطانة المعظمة رضية الدين” بينما تضمن الوجه الثاني زخارف هندية تقليدية.
وكان من أبرز إنجازاتها العسكرية أن نجحت في مهاجمة قلعة “رنتهبور” التي كان يحاصر الهنود المئات من المسلمين بداخلها بعد وفاة والدها، حيث أطاحت بهم ولقنتهم هزيمة نكراء ليتم تحرير المحاصرين وإعادتهم إلى منازلهم مرة أخرى، فيما أحدثت تغييرات كبيرة في هيكلة الجيش ساعدت في تفوقه وتقدمه.
كانت السلطانة تسير بين الناس بملابس الرجال، متسلحة بالقوس والسهم، كما كانت تضع قلنسوة الفرسان على رأسها بعد أن عمدت لشعرها الطويل فقصته، كما كانت تجوب الشوارع والأسواق بزي القتال، رافضة أن ينعتها الناس بـ”السلطانة” وكانت تصر على تلقيبها بـ”السلطان راضية” إيمانًا منها بتأثير هذا اللقب الذكوري على إحكامها السيطرة على مقاليد الأمور.
وفي كتابه “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” وصفها المؤرخ الشهير عبد الحي الحسني قائلًا إنها “الملكة الفاضلة رضية بنت شمس الدين الايلتمش، رضية الدنيا والدين ملكة الهند، اتفق الناس عليها بعد أخيها ركن الدين بن الايلتمش سنة أربع وثلاثين وستمائة فاستقلت بالملك أربع سنين، وكانت عادلة فاضلة تركب بالقوس والكنانة والقربان كما يركب الرجال، وكانت لا تستر وجهها”.
الملابس التي كانت ترتديها السلطانة المقاتلة وما تحتويه من ذهب وحلي وأحجار كريمة، أغرت الفلاح الذي انقض عليها في محاولة لسرقة ما لديها من متاع
ضحية التآمر
يبدو أن الإدارة الناجحة للسلطانة لم تلق القبول من بعض كبار رجالات الدولة لا سيما المنضمين حديثًا لـ”مجلس الأربعين” الاستشاري، حيث اعترض بعض الفقهاء منهم على ولاية المرأة عليهم، مدعين أن ولايتها جاءت في ظروف استثنائية حينما كان شقيقيها الأحق بالولاية حديثي السن، وبحسب المؤرخين فإن الرجال الحكماء أعضاء المجلس لم يجدوا فيها عيبًا إلا أنها امرأة.
وبالفعل بدأت محاولات عزلها، لكنها أبت أن تغادر منصبها، فأطاحوا بها أول مرة وأجلسوا أخيها الأصغر ناصر الدين على العرش، لكن سرعان ما نجحت في استرداده مرة أخرى بعدما أيقنت أن الملك المعين ليس إلا أداة في أيدي كبار العسكر والفقهاء لتحقيق مصالحهم الخاصة.
وأمام هذا العناد لم يجد خصومها إلا اللجوء لإستراتيجية أخرى لإزاحتها، لكن هذه المرة عبر تشويه صورتها والتعرض لسمعتها، وبالفعل أشاعوا أن هناك علاقة غير شرعية تربط بينها وبين قائد خيول القصر، وكان يدعى جمال الدين ياقوت، حبشي الأصل، قُتل أمام عينيها من فرسان المماليك المناهضين لها.
وأمام تلك الشائعات اضطرت السلطانة للزواج من أحد الأمراء، لكن حركات التمرد كانت قد تمددت وأشعلوا ثورة عارمة ضدها، فشلت هي في التصدي لها، وهنا لم يجد الناس بدًا من خلعها من العرش وتصعيد أخيها معز الدين، لكنها لم تفقد الأمل وحاولت مع زوجها من أجل استرداد الحكم مرة ثانية.
استطاعت أن تُجمع بعض القوات الموالين لها للتصدي للمماليك، لكن الهزيمة كانت من نصيبها في ظل الفارق الكبير بين جيشها وجيش أخيها السلطان، ما دفعها للهروب من الأسر، فقادتها أقدامها إلى أحد الحقول المجاورة، ليعثر عليها فلاح هناك ليكرمها بداية الأمر بالطعام والشراب دون أن يتعرف على هويتها.
لكن الملابس التي كانت ترتديها السلطانة المقاتلة وما تحتويه من ذهب وحلي وأحجار كريمة، أغرت الفلاح الذي انقض عليها في محاولة لسرقة ما لديها من متاع، وبالفعل قتلها ودفنها في أحد الأماكن القريبة من الحقل، وذهب ليبتاع هذا الكنز الذي حصل عليه في السوق لكن الرياح أتت بما لم تشته السفن.
تعرف التجار على ملابس السلطانة المختفية، وكان التساؤل الأبرز: من أين حصل هذا الفلاح عليها؟ وبعد تهديده والضغط عليه أقر الفلاح بما حدث وأنه قتل السلطانة في 25 من أكتوبر 1239م ودفنها في مكان ما، ليأمر السلطان الجديد بإخراج جثة شقيقته من حفرتها وتشييد مدفن أو روضة لها في نفس المكان الذي دفنت فيه.
وهكذا ظل هذا القبر المتواضع الذي يقع بين الأزقة الضيقة في مدينة دلهي القديمة شمالي الهند خير شاهد على تاريخ واحدة من أعظم سيدات التاريخ، أول سلطانة للهند، التي نجحت في 4 سنوات فقط في تخليد اسمها في سجلات عظماء العالم الإسلامي، تلك الفارسة العادلة التي ذهبت ضحية لمؤامرات العرش.