قبل بضعة أيام شهدت مدينة بعلبك البقاعية شرق لبنان توترًا كبيرًا لف المدينة والقرى والأرياف المحيطة بها على خلفية استنفارات ومواجهات مسلحة بين عشيرتي آل جعفر وآل شمص، بسبب ثأر آل جعفر من شخص من آل شمص على خلفية مقتل أحد أبناء آل جعفر قبل ثلاث سنوات على يد شخص آخر من آل شمص، وعلى الرغم من الوساطات العشائرية والحزبية والسياسية التي جرت في حينه عام 2017 وأفضت إلى تسليم القاتل من آل شمص إلى القضاء اللبناني، فإن آل جعفر عمدوا قبل أيام إلى قتل شقيق القاتل بعد إطلاق سراحه من السجن، والاحتفال بعد ذلك بمظاهر مسلحة وعبر سيارات رباعية الدفع في مدينة بعلبك ومحيطها.
في مقابل ذلك عمد آل شمص إلى استنفار أبناء العشيرة والخروج أيضًا باستعراض عسكري مسلح أظهروا فيه حجم القوة العسكرية التي يمتلكونها ومن ضمنها أسلحة رشاشة متوسطة وقذائف صاروخية وسيارات رباعية الدفع رُكّب عليها تلك الأسلحة الرشاشة، وجابت محيط مدينة بعلبك بعد أن أقاموا حواجز تفتيش على بعض الطرقات المؤدية إلى المدينة متعهدين بالثأر مجددًا لمقتل أحد أبناء العشيرة.
المظاهر المسلحة بهذا الشكل التي امتدت من مدينة بعلبك إلى مدينة الهرمل حيث لكلا العشيرتين حضور في البلدات والقرى “البعلبكية” و”الهرملية” أرخت بثقلها على المشهد البقاعي بشكل خاص واللبناني بشكل عام، وخلقت أجواءً من التوتر والقلق عند البقاعيين، وكشفت الكثير من الأمور التي لم تكن معروفة لكثير من اللبنانيين فضلًا عن العالم، وأظهرت عجز الدولة أمام مثل هذه المظاهر المقلقة.
فقد نقل أحد أبناء مدينة بعلبك، “ب، ب” الذي رفض كشف اسمه لـ”نون بوست” أن الناس لم تعد تطيق هذا الوضع القائم في المدينة، وقال إن آل جعفر الذين يتخذون من حي “الشروانة” في المدينة مركزًا لهم يشتبكون مع العديد من عائلات وعشائر المنطقة لأي سبب وهذا ما ينشر الرعب والقلق بين الناس، وأضاف “حتى الجيش اللبناني المتمركز عند أول الحي لم يسلم منهم وقد أطلقوا النار على الجنود أكثر من مرة، وقتلوا أحد أفراد عشيرة “هق” وهو عنصر في الجيش على خلفية إطلاق الجنود النار على أحد أبناء عشيرة جعفر عندما لم يمتثل لأوامر الجنود عند أحد الحواجز”.
ويضيف “ب. ب” أن أبناء بعلبك باتوا يعيشون حالة من القلق الدائم على مصيرهم ومستقبلهم جراء هذه التصرفات، فضلًا عن السرقات التي تحصل وقطع الطرقات ليلًا بحثًا عن صيد ثمين.
إن الحلول العشائرية والمصالحات الآنية التي تتم بوساطات من شخصيات دينية أو مرجعيات سياسية أو حزبية لا تشكل ضمانة لعدم تكرارها
من جهته قال أحد أبناء البلدات المحاذية للمدينة “م. غ” لـ”نون بوست” إن أبناء جوار مدينة بعلبك باتوا لا يأمنون على أنفسهم والخروج بعد غروب الشمس من بيوتهم، كما باتوا يخشون الانتقال من قرية إلى أخرى ليلًا خوفًا من “التشبيح والتشليح”، وأضاف أن أغلب العشائر في المدينة وريفها مسلحة بأسلحة خفيفة ومتوسطة وربما بعضها يملك أسلحة ثقيلة، وعادات وتقاليد العشيرة عادت تسيطر وتنتشر في المدينة ومحيطها بشكل ملحوظ وواسع بحيث إن الانتساب إلى المدينة بات مقدمًا على الانتساب إلى أي شيء آخر.
وأشار في هذا السياق إلى أن حزب الله صاحب الانتشار الواسع في المنطقة بات يعاني من هذه الظاهرة الآخذة بالتوسع حتى إن بعض منتسبي الحزب باتوا يقدمون الولاء للعشيرة على الولاء للحزب فضلًا عن الولاء الوطني، وقد انخرط بعضهم في اشتباكات حصلت بين العشائر التي ينتمون إليها وعشائر أخرى.
أسباب عودة العشيرة إلى الواجهة
وعن أسباب عودة العشيرة إلى الواجهة في منطقة البقاع، لا سيما في البقاع الشمالي (بعلبك والهرمل)، والعودة أيضًا إلى التمسك بتقاليد العشيرة وأعرافها وأخلاقها والتخلي التدريجي عن فكرة الدولة وحتى عن فكرة التجمعات السياسية أو الطائفية أو غيرها، يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية ببيروت الدكتور ساري حنفي، لـ”نون بوست”: “لبنان سيدخل في مرحلة صعبة جدًا، لأن مؤسسات المجتمع المدني ذات العقلانية المدنية والمدينية (مرتبطة بالمدينة) لم تقدم حلًا، وبسبب الفشل في مقاومة الدولة الفاسدة، وعدم قدرة المجتمع المدني أو الدولة على تأمين الحد الأدنى مما يحتاجه المواطن العادي، لذلك نحن ذاهبون باتجاه استرجاع العصبيات البدائية، ومن ذلك إعادة الاعتبار لتسليح العشيرة والرد على ما يمكن أن يصبح تهديدات أمنية على الأفراد أو على العشيرة كعشيرة”، وشبه حنفي ما يجري في البقاع وفي لبنان بشكل عام بما يجري في العراق من خلال حلول البنية الطائفية والعشيرة محل الدولة المركزية.
من جهته اعتبر مدير المركز اللبناني للدراسات والاستشارات الأستاذ حسان قطب أن “هيمنة منطق العشيرة، إنما يعني أن مفهوم المواطنة والدولة والكيان والانتماء إلى دولة ذات سيادة وهوية ودستور وسلطة قضائية وأمنية وعسكرية يعتبر غير موجود بل مفقود أو أنه غير محترم ومعتبر”.
وأبدى قطب تخوفه من انفجار الوضع في أي لحظة وهذا ما يهدد كيان الدولة برمتها، قائلًا: “الحلول العشائرية والمصالحات الآنية التي تتم بوساطات من شخصيات دينية أو مرجعيات سياسية أو حزبية لا تشكل ضمانة لجهة عدم تكرارها، كما تؤكد أن الاحتكام إلى لغة القوة يعتبر أولوية على تطبيق القانون بالنسبة للبعض، وبالتالي يمكن أن ينفجر الوضع مجددًا في أي لحظة”.
تقول أغلب العشائر إنها ليست ضد الدولة أو القانون أو المؤسسات، لكنها تطالب بإنماء مناطقها وإنصافها من خلال مشاريع تؤمن فرص عمل للناس الذين يلجأون إلى زراعة “الحشيشة”
وحمّل قطب ثنائي “أمل – حزب الله” مسؤولية تعميق الالتزام بحمل السلاح واستخدامه، وعدم الاحتكام لسلطة الدولة والقانون”، معتبرًا أن وجود هذين الفريقين في منطقة البقاع الشمالي أتاح للعشائر المسك بالسلاح واستخدامه، وانتقد وقوف القوى الأمنية الرسمية شبه عاجزة بسبب التدخلات السياسية، مشيرًا إلى ما سمّاها “العلاقة التبادلية بين الثنائي الحاكم (أمل حزب الله)، وزعماء العشائر، بحيث تكون التغطية والحماية مقابل مشاركة الاستثمار في الفوضى”.
وفي مقابل ذلك يدعو حزب الله، صاحب الانتشار الواسع في منطقة البقاع الشمالي، الدولة إلى اتخاذ ما يلزم من خطوات للجم هذه الظاهرة، ويؤكد أنه يقف إلى جانب مثل هذه الخطوات، ويعتبر نفسه ضحية تمدد وتوسع العشائر وتقاليدها في تلك المنطقة لأنها على حساب حضوره ووجوده والقيم التي يؤمن بها، في حين يطالب نوابه في البرلمان بخطوات متوازية تتمثل بقرارات إنمائية تخص المنطقة.
من جهتها تقول أغلب العشائر إنها ليست ضد الدولة أو القانون أو المؤسسات، لكنها تطالب بإنماء مناطقها وإنصافها من خلال مشاريع تؤمن فرص عمل للناس الذين يلجأون إلى زراعة “الحشيشة” والمخدرات على أصنافها، كما يقولون، لإطعام أولادهم.
الدولة تفقد هيبتها وسيادتها شيئًا فشيئًا أمام السفارات تارة والأحزاب السياسية تارة ثانية والعشائر تارة أخرى، وتصارع من أجل البقاء في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية وبنوية عاصفة، فيما الناس بدأت رحلة البحث عن الذات، ولعل في مشهد الاستعراضات العسكرية التي نظمتها بعض عشائر بعلبك ما يختصر المشهد اللبناني الآخذ بمزيد من الانزلاق نحو ضعف الدولة من ناحية والتمسك بالعصبيات والجهويات من ناحية أخرى، وفي ذلك ما يهدد وحدة البلد الذي ظل عنوانًا للتنوع والعيش المشترك.