في الـ30 من سبتمبر/أيلول الماضي، أبرق الرئيس الأرميني أرمين سركيسيان، رسالة إلى نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، يدعوه فيها إلى التدخل واستخدام سمعته واتصالاته لوقف القتال الدائر بين أذربيجان وأرمينيا على تخوم إقليم “ناغورنو قاراباخ” المتنازع عليه بين البلدين منذ 30 عامًا.
على الرغم من إرساله رسالةً مشابهةً إلى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، يطالبه فيها بنفس الأمر، فإن هذه الرسالة الموجهة إلى السيسي كانت مختلفةً، لأن الأردن، كما هو معروف، داعم عسكري مباشر لأرمينيا، وقد مرر لها صفقةً عسكريةً قبل المواجهات العسكرية بوقت قصير، وهو أمر لا ينطبق على مصر، ظاهرًا على الأقل، كما أنه من الغريب أن يستغيث الرئيس الأرميني بغير حلفائه التقليديين، بعد مرور 3 أيام من القتال فقط.. فما القصة؟ وما دلالات هذه الرسالة؟ وكيف ردت مصر عليها؟
خطة محكمة
رغم التفوق العددي الإجمالي لشعب أذربيجان على أرمينيا، وعدم تسلح الجيش الأرميني بشكل يفوق نظيره الأذري كثيرًا، ومرور أكثر من 30 عامًا على احتلال أرمينيا لنحو 20% من الأراضي الأذرية، فإن أذربيجان لم تكن تبادر عادةً بالاشتباك مع القوات الأرمينية، بل على العكس، كانت أرمينيا دائمًا هي التي تبادر بالاشتباك، مستندةً إلى سلطة الأمر الواقع منذ عقود، فيما كان الأذر يكتفون بمحاولة الرد، ثم التهدئة، حتى لو سقط منهم عدد أكبر من القتلى.
المثال العملي الأبرز والأحدث على طبيعة تلك التوازنات الراسخة في هذه المنطقة، كان ما حدث في الـ12 من يوليو/تموز الماضي، حينما بادر الجيش الأرميني بقصفٍ مدفعي على الجانب الأذري، بالقرب من منطقة توفاز الحدودية، ما أدى إلى مقتل عدد كبير من القوات الأذرية، مقابل عدد بسيط من القوات الأرمينية، ومع ذلك، انتهت هذه الجولة، بالعودة إلى وقف إطلاق النار، دون سؤال عن سبب بدء الاشتباكات أو طرح السؤال عن مشروعية خرق أرمينيا للهدنات السابقة كل مرة بلا حساب.
تظهر مقاطع الفيديو التي بثتها عدد من المنصات التركية والأذرية سيادةً جوية شبه كاملة للأذر على مدار الأيام الأولى للحرب
السبب الأكثر واقعية في تثبيت هذه المعادلة على مدى عقود، كان الدعم الخارجي غير المحدود للقوات الأرمينية، مقابل دعم أقل فاعلية من حلفاء أذربيجان، فرغم عدم كفاءته، يمكن ملاحظة أن الجيش الأرميني مبنيٌ بالكامل على خبرات ومعدات روسية في جميع الأسلحة والأفرع، فيما اعتمد الجيش الأذري لوقت طويل على معدات إسرائيلية لا يتبعها دعمٌ دولي مكافئ للدعم القادم من حلفاء أرمينيا والمتعاطفين معها، نظرًا لتحسس أذربيجان “الإسلامية” من الدعم الإسرائيلي، وعدم قدرة “إسرائيل” على اللعب في هذه الساحة البعيدة نسبيًا عن مناطق نفوذها، مع وجود قاعدة عسكرية روسية في أرمينيا، وتعاطف غربي ناعم مستمر على وقع سردية المظلومية التاريخية.
ما تغير هذه المرة، وسبب الصدمة لجميع الأطراف، كان حجم الدعم التركي الموجه لأذربيجان، الذي أخذ ينمو بوتيرةٍ متصاعدة على كل المستويات خلال الأعوام الماضية، حتى تبلور في أداء الجيش الأذري خلال هذه المعركة، تدعم تركيا أذربيجان، وترفع شعار: “شعب واحد في دولتين” لعدد كبير من الأسباب منها التقارب الثقافي والديني والجيوسياسي والاقتصادي من جهة، ومنها التوتر التاريخي بين تركيا وخصوم أذربيجان: أرمينيا وروسيا من جهة أخرى، ويبدو أن الدرسين، المصري والسوري، علما تركيا ألا تنتظر سقوط حلفائها، بل أن تبادر ويكون لها اليد الطولى في نصرة حلفائها، كما فعلت مع قطر وليبيا من قبل، وفي هذا التوقيت، بات لدى تركيا ما يمكن أن تقدمه للأصدقاء في باكو.
اضطرت يريفان إلى استجداء الدعم الدولي من خارج دائرة حلفائها التقليديين، بسبب التخاذل الروسي والعجز الإيراني عن المساعدة
بحسب الرئيس الأذري إلهام علييف، فقد قدمت تركيا لأذربيجان الدعم العسكري المطلوب خلال الفترة السابقة لخوض هذه المعركة، في إشارة إلى مناورات “النسر التركي الأذري” التي تلت التصعيد العسكري الأرميني الأخير ضد أذربيجان، واستمرت مدة غير معهودة في عرف المناورات الخارجية المشتركة (نحو 3 أسابيع)، ومنحتها درة الصناعات العسكرية التركية التي أثبتت جدارتها في عدد من الساحات الخارجية الأخرى المشابهة، طائرات البيرقدار دون طيار، التي ضمنت لها تفوقًا جويًا على أرمينيا التي تمتلك سلاحًا جويًا متواضعًا لم يتمكن من تحييدها.
تظهر مقاطع الفيديو التي بثتها عدد من المنصات التركية والأذرية سيادةً جوية شبه كاملة للأذر على مدار الأيام الأولى للحرب، مكنتها، عبر توليفة فريدة من المسيرات المسلحة والانتحارية، من تحييد الدفاع الجوي الأرميني، المخصص أصلًا في معظمه، للمفارقة، لمكافحة “الدرونز” مثل منظومات “تور إم” و”أوسا” و”إس 300″، تلا هذا التمهيد تقدم بري متتابعٌ، على جبهتي الشمال والجنوب، بشكل أربك الحسابات الأرمينية، التي لم تجد بدًا من الاعتراف بسيطرة القوات الأذرية على عدد من القرى في “قاراباغ”، والدفع باستخدام الصواريخ الإستراتيجية ضد المدن مبكرًا، واستجداء الدعم الخارجي، لكبح التقدم الأذري، ومحاولة وقف نزيف المعدات والأفراد التي أصبحت صيدًا سهلًا للمسيرات، بعد خسارتها الغطاء الدفاعي، وفي أقل التقديرات، تبلغ عدد المنظومات الدفاعية المدمرة أكثر من 30 منظومة.
خذلان الحلفاء
لكن، ما الذي يجعل أرمينيا تلجأ إلى دول خارج حلفائها التقليديين وحزامها الإستراتيجي أصلًا؟ لم تظهر روسيا، هذه المرة، وحتى الآن، أي نوايا جدية لإنقاذ أرمينيا من ورطتها، بل على العكس، قالت إنها ستتدخل في ضوء ما تمليه عليها معاهدة الأمن الجماعي التي تضم: كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وبيلاروسيا وأرمينيا، حال توسع القتال إلى الأراضي الأرمينية، في إشارةٍ قاتلة إلى أن “قاراباغ” أذرية أو على الأقل منطقة متنازع عليها.
ترجح التحليلات أن السبب في خذلان روسيا لجارتها أرمينيا، حتى الآن، أن روسيا تشعر أنها توسعت خارجيًا بشكل أكبر من قدراتها الاقتصادية الحاليّة، ما يجعل أي تمدد خارجي جديد عبئًا ماليًا غير مبرر، كما أن تدخلًا نوعيًا لصالح أرمينيا قد يؤلب المجتمع الدولي عليها، المتعاطف مع أرمينيا حقًا، لكنه يعترف، في نفس الوقت، بأحقية أذربيجان في “قاراباغ”، مما قد يسبب المشاكل السياسية لموسكو.
وبالنظر إلى تفاقم بعض المشكلات الطارئة مؤخرًا داخل دول هذه المنظمة، التي بنيت كنموذج مصغر للناتو في أوراسيا، مشاكل في بيلاروسيا وقرغيزستان، وعدم رضا روسيا عن الرئيس الأرميني الحاليّ الذي يعد أقرب إلى فرنسا منها، بينما هي على علاقة طيبة مع الرئيس الأرميني السابق الذي أثبت وجودًا سياسيًا بالوجود في مرتفعات “قاراباغ”، على مقربة من مناطق الاشتباك ومصادر النيران، فإن بوتين يفضل أن تنحسر جهوده في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، دون تدخل جدي لترجيح كفة أرمينيا بالعتاد أو المرتزقة، من أجل ممارسة أكبر ضغط ممكن على يريفان، قبل أن يظهر بمظهر “المنقذ”، ويؤدي دوره المفضل مع الرئيس التركي في إدارة معادلة الصراع، وكرد فعل لهذا التخاذل، أعلن السفير الأرميني في موسكو تعليق عمل اللجان العسكرية المشتركة مؤقتًا.
أما الحليف الآخر، طهران، فإنه لا يحتمل في مثل هذا التوقيت الصعب، حيث فرض عليها مزيدٌ من الضغوط والعقوبات الاقتصادية من الولايات المتحدة، أن يغامر في ساحة قتال جديدة، خاصة أن عددًا كبيرًا من سكان محافظاتها الشمالية ينتمي، عرقيًا، إلى أذربيجان، ما قد يفتح الباب أمام حالة اضطراب داخلي غير مرغوبة في هذا التوقيت، وقد خرج عشراتٌ منهم بالفعل في مظاهرات مساندة لأذربيجان داخل إيران، لذلك، فقد فضلت طهران مسك العصا من المنتصف: تصريحات تحث على وقف القتال، مع اعتراف بأحقية أذربيجان بالمرتفعات المتنازع عليها، في نفس الوقت الذي فتحت الحدود والمجال الجوي أمام بعض المساعدات العسكرية المحدودة لأرمينيا، لذلك، كان التوقيت عاملًا حاسمًا في خطة باكو لتحريك ملف استعادة أراضيها.
لماذا السيسي؟
إذًا، اضطرت يريفان إلى استجداء الدعم الدولي من خارج دائرة حلفائها التقليديين، بسبب التخاذل الروسي والعجز الإيراني عن المساعدة، في ظل تقدم غير مسبوق للقوات الأذرية، لكن السؤال المطروح: لماذا طلبت الدعم من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحديدًا؟
تعلم أرمينيا ما بين أنقرة والقاهرة من “ما صنع الحداد” كما يقال، والجبهات الإستراتيجية المفتوحة بين البلدين خارج حدودهما، من ليبيا والسودان واليمن إلى القرن الإفريقي، مع استعداد البلدين للعمل في مجالات حيوية تخص كل طرف منهما، نكايةً في الطرف الآخر، واستباقًا لأي تصعيد محتمل، فإذا كان لتركيا نفوذٌ في ليبيا المتاخمة لحدود مصر الغربية، فإن القاهرة لا تتوقف عن إجراء المناورات العسكرية مع كل من اليونان وقبرص، ومن المنتظر أن تخوض مناورات بحرية مع روسيا للمرة الأولى في البحر الأسود.
قبل أسبوعين من اندلاع المواجهات، استقبل السيسي وزير الخارجية الأرميني، في لقاء كان عنوانه وجدول أعماله المعلن: كيفية كبح التحركات الخارجية لتركيا
وبحسب خبراء في الشأن العسكري مثل أحمد مولانا، فإنه باستقراء تجربة مصر في التدخل العسكري الخارجي تاريخيًا، الذي وصل إلى المكسيك وأوغندا أيام الأسرة العلوية، وبالنظر إلى العداء الحاليّ بين القاهرة وأنقرة، الذي يحمل طابعًا شخصيًا بين الرئيسين التركي والمصري، فإنه من غير المستبعد أن يستجيب السيسي لدعوة يريفان بتقديم الدعم العسكري، ممثلًا في بعض شحنات الأسلحة، نكايةً في تركيا.
اللجنة الوطنية للدفاع عن القضية الأرمينية، وهي الجهة “الرسمية” الموجهة لعمل اللوبيات الأرمينية في الخارج، كانت قد غازلت السيسي، على هذا الأساس، عام 2015، عبر توجيه الدعوة إليه بالسفر إلى يريفان، في الـ24 من أبريل/نيسان، بغرض إحياء ذكرى المذبحة الأرمينية التي تقام في هذا التوقيت كل عام.
لم يستجب السيسي لهذه الدعوة، لكنه أسدى إلى الأرمن جميلًا تاريخيًا بعد ثلاثة أعوام، حينما تحدث عن استقبال مصر لاجئي الأرمن الهاربين من “المذابح” منذ 100 عام في مناسبة سياسية محلية، وعاد، بعد عام، لتكرار نفس السردية، أمام مؤتمر ميونخ للأمن، بالتزامن مع حالة التراشق السياسي التي اندلعت حينها بين تركيا وفرنسا، على خلفية اعتراف الأخيرة بـ”الإبادة الأرمينية”، وهو ما عدته كثير من الجهات الأرمينية مقدمةً للاعتراف بالإبادة رسميًا.
وفي الـ14 من سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل أسبوعين من اندلاع المواجهات، استقبل السيسي وزير الخارجية الأرميني، في لقاء كان عنوانه وجدول أعماله المعلن: كيفية كبح التحركات الخارجية لتركيا، مع وصمها بالطمع والنفعية وتهديد الاستقرار الدولي.
لذلك، كانت الاستغاثة الأرمينية بمصر السيسي متوقعةً بالنظر إلى هذا المسار التاريخي، وقد استجاب السيسي لما ورد في نص رسالة الرئيس الأرميني بحذافيره، حيث وجه وزارة الخارجية بإصدار بيان يطالب بوقف إطلاق النار والجلوس على طاولة المفاوضات، كما أصدر الأزهر، على لسان الشيخ الطيب، بيانًا مماثلًا، بمعجمٍ إماراتي، يتحدث عن الإنسانية والسلام، داعيًا لوقف إطلاق النار، وهو ما حدث بعد أيامٍ بالفعل، استجابةً إلى الموقف الثلاثي، لأمريكا وروسيا وفرنسا، لكن السؤال الآن: لماذا لم يدل الأزهر بدلوه بعد في خطوة التطبيع الإماراتي كما يناقش الصراع الأذري الأرميني؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتطور الدعم المصري لأرمينيا مستقبلًا؟