أقل من شهر على انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ورغم كل السحب والضباب الذي يخيم عليها، فإن ما يبدو لافتًا للشرق الأوسط وبلدانه حتى الآن، تجاهل الأجندة الخارجية للمرشحين وعدم إعطاء المنطقة الزخم المطلوب، ما يطرح العديد من التساؤلات، عن المصلحة أو الضرر الذي سيجنيه العرب من تجاهل الانتخابات الأمريكية لشؤون المنطقة على نحو لم يحدث من قبل!
ثقل السياسة الخارجية في انتخابات الرئاسة
يعرف المتابعون للانتخابات الأمريكية أن هناك تاريخيًا 6 أولويات للسياسة الخارجية تتعلق بالأمن القومي وتزخر بها برامج المرشحين، أولها العمل عن قرب مع الحلفاء ومراجعة تشكيل إستراتيجية العمليات العسكرية وجعلها أكثر مسؤولية حسب ميول المرشحين واتجاهاتهم الإنسانية والقانونية.
كما تهتم برامج المرشحين دائمًا بمراجعة المتطلبات الدستورية للكونغرس والاستثمار في المساعدات الإنسانية الخارجية للولايات المتحدة، فضلًا عن تمكين الدبلوماسية، نهاية بحماية الديمقراطية الأمريكية من التدخلات الأجنبية.
حتى الآن لم يعمل المرشحان على أخطاء الماضي القريب وفقًا للثوابت الست، فلم يصحح بايدن سياسات ترامب في برنامجه، ولم يوضح كيف سيمكن القيم الأمريكية التي يتحدث بها دائمًا، حتى يعلو فوق انتهازية المصالح التي أرساها ترامب.
يمكن القول إن السنوات الماضية شهدت تراجعًا كبيرًا للسياسة الأمريكية في قيادة العالم، بعد أن أصبحت مصداقيتها على المحك بسبب تفضيل ترامب معاير القوة والمال وحرب تكسير العظام بالاقتصاد ضد معارضي طريقته في الإدارة سواء كان ذلك قانونيًا أم لا.
في المقابل لم يقدم غريمه بايدن أي تعهدات ينشط بها الرأسمالية الديمقراطية، ويستعيد الحل الأمريكي كمحور للضغط على بؤر الاستبداد الذي لوح بالتصدي له إعلاميًا دون يكون لديه تصور مؤسسي ضمن برنامجه، وماذا سيكون الحال في سياسات البلاد حال توليه المنصب للتعاطي مع شعار “أمريكا أولًا” الذي أصبح عقيدة وأيدلوجيا عند قطاع لا بأس به من الناخبيين الأمريكيين، فضلًا عن الموقف المتشدد المناهض للهجرة، وهي كلها ثقافات أدخلها ترامب في مفردات الحياة اليومية للأمريكيين، وتضخمت بشدة وأصبح من الصعب تجاوزها.
تجاهل السياسة الخارجية.. ماذا يعني؟
باستثناء التزام بايدن بالتعهد بإلغاء بعض قرارات ترامب مثل حظر السفر المفروض على الأشخاص من الدول ذات الأغلبية المسلمة والعودة إلى اتفاق باريس للمناخ، تعطل نائب الرئيس السابق أمام إيجاد حل دبلوماسي لنزع السلاح النووي من إيران، لاستكمال ما بدأه ترامب، ما يناقض سياسته الرافضة للتوسع العسكري وصرف المزيد من أموال دافعي الضرائب في حل الخلافات الدولية، ونفس الأمر بالنسبة لكوريا الشمالية.
أما الصين، فهي الأزمة الكبرى في طريق ترامب وبايدن على السواء، ففي الوقت الذي يرغب الساسة في الحزب الجمهوري أن يكون التنافس مع الصين المبدأ المنظم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الولاية الجديدة وجر الناتو بكل المغريات الممكنة إلى ساحة المواجهة معها، إلا أن تضرر الاتحاد من سياسات ترامب التي همشت من دوره وقللت من شأنه، فرضت عليه ضرورة بناء إستراتيجات جديدة منفردة وبعيدة تمامًا لأول مرة منذ عقود عن الولايات المتحدة، وهو ما يشكل عائقًا كبيرًا أمام إعادة العلاقات لسيرتها الأولى سواء تولى ترامب أم بايدن.
الشرق الأوسط
لا يوجد جديد، فكلا المرشحين ملتزم تمامًا بأمن “إسرائيل”، وإن كان ترامب قد أصبح الفتى الذهبي للقضية الصهيونية بامتياز، بعدما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ووافق على بناء المزيد من المستوطنات على عكس الرؤساء السابقين الذين رفضوا ذلك، بينما لا يوضح بايدن كيف سينتصر للحق الفلسطيني إن انطلق من سقف القيم، لا سيما أن التقاليد تؤكد أن أغلب الرؤساء يستمرون لأوقات ليست قليلة في العمل بأدوات السياسة الخارجية الأمريكية المتاحة.
توضح آخر تقارير البنتاغون ومجلس العلاقات الخارجية عن التحديات الحاليّة والمستقبلية التي تواجه الولايات المتحدة في المنطقة، أن احتواء طموحات إيران النووية وتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ودعم الحلفاء في الخليج العربي ومصر والأردن والعمل على استقرار الأوضاع في ليبيا والعراق ومحاولة إنهاء التحالف بين سوريا وروسيا وإيران، أهم الملفات التي يجب الانتهاء منها في السياسات الخارجية للبلاد.
كانت ولاية ترامب الأولى، تعتمد في الاشتباك مع المنطقة، على تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية و”إسرائيل” ومصر، مع الحفاظ على موقف أكثر تشددًا مع إيران، وكان واضحًا أن ترامب لا يجيد تكتيكات التفاوض ولا يتفاءل به.
في المقابل يملك بايدن هذه الميزة، يستمد خياله السياسي فيها من خبرة طويلة في حياته المهنية كسيناتور، عندما كان نائبًا للرئيس باراك أوباما من 2009 وحتى 2017، وكان مسؤولًا عن صياغة عمل الدبلوماسية الأمريكية والسياسة العسكرية في الشرق الأوسط، كما أنه يملك خبرة عريضة في المفاوضات مع سوريا و”إسرائيل” وإيران والعراق، رغم أن نتائج الأخير لم تكن مثمرة للغاية، ولا تزال نقطة سوداء في ملفه الأمني والسياسي.
يلعب بايدن على عامل الذكاء في التعامل مع التهديد الذي تمثله إيران، ويلمح في إدارة الملف إلى ضرورة العودة لـ”اتفاقية 2015″ واستخدام الأساليب الديمقراطية والتحالف، على إذكاء العداء، ولهذا اتفق الطرفان ربما لأول بشكل معلن على أهمية سحب القوات الأمريكية من البلدان التي تطول فيها الصراعات، لكن دون أن يمتلك أي منهما إستراتيجية واضحة تكشف كيف سيحدث ذلك وبأي وسيلة والانعكاسات على الأمن القومي العالمي ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
نفس التردد كان من نصيب المرشحين خلال قيامهما بتوضيح قدرة بلادهما على تسوية النزاعات لا سيما أن فشل المفاوضات مع العراق عام 2011 في ظل رئاسة أوباما لا يزال يشكل نقطة ضعف لبايدن بعد أن أخذت الولايات المتحدة قرارًا بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكية من ميدان الصراع.
ورث بايدن أيضًا تردد أوباما وإدراته في التعامل مع أزمة أفغانستان، إذ يميل المرشح الديمقراطي إلى تمييع القضية وترك “قوة متبقية” كإجراء وقائي ضد الإرهاب، وهو الأمر الذي أثار انتقادات الديمقراطيين التقدميين الذين يريدون حسمًا لهذا الملف وإعادة الجنود إلى الأراضي الأمريكية.
في سوريا لا يختلف الأمر كثيرًا، فهذه البقعة من العالم بالنسبة لترامب، منطقة “رمال وموت” ليست على مستوى الأهمية الإستراتيجية لأمريكا، وبالتبعية لا تفرق معه الأزمة الإنسانية التي تعيشها، ما جعله يغلق الملف بشكل جزئي خلال فترة رئاسته الأولى، وترك أمرها لروسيا وتركيا وإيران، في حين يتحصن بايدن بموقف دفاعي، وربما يقوده ذلك إلى اللامبالاة في النهاية.
على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، سيلتزم كلا المرشحين بالدعم القوي لـ”إسرائيل” والحفاظ على تفوقها العسكري مع تأييد حل الدولتين، لكن بشروط
الملف الليبي هو الآخر يعيش نفس الحالة في تفكير كلا المرشحين، بسبب تعقيد وتنوع وتضارب المصالح، ولهذا لم يتحرك ترامب خلال رئاسته الأولى أبعد من محاولة التوفيق بين الجميع واللجوء للحل السياسي على العسكري، بينما يقف بايدن على حل قيمي يقضي برفض ومعارضة التدخل الدولي في ليبيا، كما هو موقفه عام 2011، لكن لم يقترح آلية تمكنه من وقف هذا التدخل الذي يعارضه.
في لبنان يميل ترامب إلى انتهاج سياسة أكثر عدوانية في سياسة العقوبات على حزب الله، لكنه لم يفعل أي شيء، سواء لعدم اكتراثه بالأوضاع هناك أم لافتقاده الإستراتيجية المناسبة لذلك، بينما يقف بايدن عاجزًا ولا يقدم إلا لغة إنشائية تشجع مبدأ عدم التدخل، كأن الولايات المتحدة في عهده ستصبح منتجة للشعارات والمواقف الأخلاقية دون غيرها.
الموقف الذي يمكن توقعه عن مستقبل الشرق الأوسط بخطط أمريكا، يوضح أن العلاقات مع المملكة العربية السعودية والمحور المتحالف معها، ستكون أكثر برودة إذا وصل بادين للحكم، هذا حال التزامه بخطاب حملته الانتخابية.
قد يكون هناك تضييق على صفقات الأسلحة للسعودية على وجه التحديد، وإعادة تقييم العلاقة مع المملكة في ضوء مجريات حرب اليمن، وكيفية غلق ملف مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، بطريقة تناسب مقتضيات الضمير العالمي، حسب الرؤية التي طرحها بايدن في خطابه.
أما حال إعادة انتخاب ترامب، ستكون العلاقات أقوى مع هذا التحالف، باعتباره حليفًا إستراتيجيًا ضد إيران، وتجاهل أي أوراق حقوقية أو سياسية، يمكن اللعب بها لدفع المنطقة إلى مزيد من الإيجابية تجاه ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، سواء بالمساومة على مبيعات الأسلحة أم غيرها من الأوراق الكثيرة التي تملكها واشنطن للضغط.
على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، سيلتزم كلا المرشحين بالدعم القوي لـ”إسرائيل” والحفاظ على تفوقها العسكري مع تأييد حل الدولتين، لكن بشروط، فبايدن سيعيد إنتاج سيرة الرؤساء الديمقراطيين وتعطيل “إسرائيل” عن ضم أجزاء جديدة من الضفة الغربية، أما ترامب الذي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس عام 2018، فخطة السلام الوحيدة التي يمتلكها هي الضغط على الفلسطينين والعرب وفتح الطريق لـ”إسرائيل” للتوغل في الأراضي التي سعت إلى ضمها منذ فترة طويلة، مع الاستمرار في توفير المزيد من العروض الاستعراضية لإقامة دولة فلسطينية بشروط يرفضها الفلسطينيون للأبد.