بات من الواضح أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة ضد إيران والصين معًا أدت في النهاية إلى تقارب لا نظير له في تاريخ العلاقات بين الدولتين، ففي الوقت الذي تعزز فيه واشنطن من ضغوطها على البلدين يتم الحديث عن مشروعات استثمارية بينهما تتجاوز عشرات المليارات.
وقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية، الخميس 8 من أكتوبر/تشرين الأول، عقوبات على 18 بنكًا إيرانيًا، ضمن سلسلة عقوبات جديدة تستهدف القطاع المالي لطهران، فيما أشار مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بالوزارة الأمريكية إلى أن تلك العقوبات جاءت بالتشاور مع وزارة الخارجية، مضيفًا “هذه الخطوة اتخذت لحرمان الحكومة الإيرانية من الموارد المالية التي يمكن أن تدعم برامجها النووية وغيرها من الأسلحة أو سياستها الخارجية الإقليمية”.
حزمة جديدة من العقوبات تحمل موجة ضغوط إضافية تشنها واشنطن ضد طهران، الأمر الذي ربما يدفع بعلاقاتها ببكين إلى آفاق أخرى، قد تأتي بنتائج عكسية على النفوذ الأمريكي في المنطقة، ويغلب كفة التنين الصيني في الحرب الاقتصادية المستعرة بين القوتين، وهذا ما حذرت منه بعض الصحف العالمية مؤخرًا.
يذكر أن إيران تشكل سوقًا اقتصادية كبيرة مغرية لأي قوى استثمارية، فرغم العقوبات التي يفرضها عليها الجانب الأمريكي منذ سنوات طويلة، فإن الاقتصاد الإيراني لديه ناتج محلي إجمالي يقدر بـ450 مليار دولار أمريكي وناتج قومي إجمالي يعادل 1750 مليار دولار أمريكي، بحسب إحصاءات البنك الدولي.
ليس جديدًا
العقوبات المفروضة على البنوك الإيرانية الـ18 ليست بالأمر الجديد، هكذا علق مدير الشؤون الدولية بالبنك المركزي الإيراني حميد قنبري، على الخطوة الأمريكية الأخيرة، لافتًا في تصريحات له إلى أن تلك المصارف المذكورة “مدرجة في قائمة الحظر الأمريكي منذ سنوات وتحديدًا بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي” بحسب وكالة فارس الإيرانية.
وعن تداعيات هذا القرار يرى قنبري أنه لا يعدو كونه محاولة للضغط على مجموعة مالية تندرج تحت طائلة الحظر دون إعلان مسبق، وبعد مرور سنوات يتم الإعلان عن الأمر دفعة واحدة، مشيرًا إلى أنه “على مدى عامين ثمة بنوك تتعامل مع البنوك الإيرانية، وبدورنا عملنا على نحو بحيث لا نواجه مشاكل في توفير السلع الاساسية”.
توقيت القرار الذي يتزامن مع إجراءات أخرى اتخذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب أثار العديد من التساؤلات خاصة في ظل اشتعال الماراثون الانتخابي بين ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن
من جانبه وصف رئيس لجنة الأمن القومي البرلمانية الإيرانية النائب إبراهيم عزيزي الحظر الأمريكي الجديد بـ”تصرف لا إنساني ومناهض لحقوق الإنسان”، موضحًا أن القرار الأخير يستهدف بنوك مسؤولة عن تأمين الغذاء والدواء، ما يثير الشكوك عن التخطيط لاستهداف حاجات البلاد الأساسية بما يعرض الشعب للخطر.
واعتبر أن هذا العمل الذي يناهض المعايير الأدنى للإنسانية والصادر عن دولة تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان هو خير دليل على أن الادعاءات الحقوقية ليست إلا شعارات تتشدق بها واشنطن وحكوماتها المتعاقبة لتحقيق مصالح خاصة وتصدير صورة مغايرة للواقع الفعلي المعاش، على حد قوله.
دعاية انتخابية
توقيت القرار الذي يتزامن مع إجراءات أخرى اتخذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب أثار العديد من التساؤلات خاصة في ظل اشتعال الماراثون الانتخابي بين ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن استعدادًا لخوض الغمار الأكثر سخونة على ولاية البيت الأبيض الشهر القادم.
الأكاديمي رامي الخليفة العلي، الباحث في الفلسفة السياسية بجامعة باريس، يرى أن إعادة الولايات المتحدة العقوبات على إيران مرة أخرى في هذا التوقيت له جانب انتخابي من الدرجة الأولى، منوهًا في تصريحاته لـ”سبوتنيك” أن “الرئيس الأمريكي يدرك أن هناك صعوبات كبيرة تعترض طريق إعادة انتخابه، لذلك يتخذ من السياسية الخارجية بشكل عام ومن ملفات معينة وسيلة لإعادة جذب الناخبين”.
وربما لم تحقق تلك الخطوات التأثير الإيجابي المتوقع في التأثير على الخريطة الانتخابية بحسب العلي، الأمر الذي يتوقع معه إجراءات مشددة خلال الفترة القادمة تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، ودفع قطار التطبيع للعديد من المحطات العربية الأخرى بجانب الإمارات والبحرين، هذا بخلاف المزيد من السياسات المتشددة تجاه طهران.
كثير من المحللين يعتبرون أن الخريطة الداخلية ربما لم تحقق لترامب الأمل المنشود نحو ضمان ولاية رئاسية ثانية، في ظل احتدام التنافس مع الديمقراطيين، المعضلة التي تدفعه للعزف على وتر السياسة الخارجية، التي يمكنه التعاطي معها بحكم منصبه، ولعل هذا ما يفسر الهرولة نحو التعاطي مع أكثر من ملف خارجي في نفس الوقت خلال الأيام الأخيرة على وجه التحديد.
الضغوط الأمريكية الأخيرة ضد طهران التي كان لها تداعيات داخلية كارثية دفعت النظام الحاكم هناك إلى التخلي عن مبدأ “لا الشرق ولا الغرب”، في سياسته الخارجية، حيث الاستقلال بعيدًا عن القوى الشرقية أو الغربية
الصين.. المستفيد الأبرز
صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، في تقرير لها أشارت إلى أن العقوبات الأمريكية على البنوك الإيرانية “ستأتي بنتائج عكسية”، فيما نقلت عن الخبيرة الإيرانية في المجلس الأطلسي الأمريكي باربرا سلافين، وصفها لتك الإجراءات بأنها “سادية” وأن الحكومة الإيرانية لن تستسلم، مضيفة “ستتحول بشكل أكثر حسمًا تجاه الصين وسيتآكل النفوذ الغربي أكثر”.
وبعد أقل من 48 ساعة من العقوبات الأمريكية الجديدة حل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ضيفًا على نظيره الصيني في العاصمة بكين، لبحث تداعيات هذا القرار ومناقشة سبل تعزيز الشراكة الإستراتيجية الثنائية الشاملة بين البلدين.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هيبا تشون ينغ، في تصريحات أدلت بها للصحفيين أشارت إلى أن “زيارة ظريف لبكين تأتي في وقت نتطلع إلى التعاون مع إيران من أجل تعزيز المشاركة الشاملة”، وفي تعليقها على العقوبات الأمريكية قالت: “واشنطن لجأت بشكل تعسفي إلى إجراءات أحادية غير مبررة مثل الحصار الاقتصادي والعقوبات المالية ضد سائر البلدان، متجاهلة أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي”، بحسب وكالة فارس الإيرانية.
من جانبه صرح وزير الخارجية الإيراني إلى أن الصين تضطلع بدور مهم في الحفاظ على الاتفاق النووي، مؤكدًا رغبة بلاده في تعزيز التعاون معها في مختلف المجالات لمعارضة نهج الأحادية ودعم التعددية، مؤكدًا أن الصين وضعت أقدامها على بداية الطريق لأن تصبح القوة الأكثر حضورًا ولها دور مهم في تغيير هيكلية العالم.
الضغوط الأمريكية الأخيرة ضد طهران التي كان لها تداعيات داخلية كارثية دفعت النظام الحاكم هناك إلى التخلي عن مبدأ “لا الشرق، ولا الغرب”، في سياسته الخارجية، حيث الاستقلال بعيدًا عن القوى الشرقية أو الغربية، وهو المبدأ الذي أقرته إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
لم يلتفت ترامب لتداعيات حزمة العقوبات الجديدة ضد إيران لا سيما المتعلقة بتوظيفها لصالح خدمة الأجندة الصينية في المنطقة، فيما يسيطر عليه الآن البحث عن المكاسب السياسية والدعائية قصيرة النظر
لكن تطورات الأوضاع الأخيرة منذ الانسحاب الأحادي الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 من مايو/أيار عام 2018 دفعت السلطات الإيرانية إلى الارتماء في أحضان قوى الشرق، على رأسها الصين وروسيا، ما أفقدها استقلاليتها المزعومة ووضعها في موقف حرج أمام الشارع المتطلع لاستقلالية قراره السيادي.
الزعيم الروحي الإيراني آية الله علي خامنئي، انقلب على تلك السياسة التي ظلت لعقود طويلة، مشددًا أنه حان الوقت “للنظر إلى الشرق”، تلك الإستراتيجية التي روج لها في السنوات الأخيرة، ومن هنا وجدت الصين فرصتها السانحة لوضع قدميها في الداخل الإيراني، مستفيدة من تلك الأجواء الملبدة بالغيوم مع واشنطن، وساعية لتوظيفها لصالحها بصورة جلية.
“ثقافتان آسيويتان قديمتان، وشريكان في قطاعات مختلفة مثل التجارة والاقتصاد والسياسة والأمن، مع وجهة نظر مشابهة للعديد من القضايا، والعديد من المصالح الثنائية ومتعددة الأطراف”، هكذا جاءت افتتاحية اتفاقية الشركة الإستراتيجية بين إيران والصين، والمقرر لها أن تمتد لـ25 عامًا قادمة.
تلك الاتفاقية التي لم توقع بشكل رسمي بعد، وظلت في إطار السرية حتى تم تسريب بعض بنودها في يونيو/حزيران 2020، تعد أرضية كبيرة لبناء تحالف صيني إيراني قوي، يسعى لمواجهة العقوبات الأمريكية، وهو التحالف الذي سيصب في جزئه الأكبر في صالح بكين، فيما يضمن لطهران عدم الرضوخ للضغوط الأمريكية، وإن كان ذلك أمر لا يمكن حسمه الآن في ظل اشتعال الاحتجاجات الشعبية المعارضة للنظام الإيراني بين الحين والآخر.
ويعود التفكير في تدشين هذه الشراكة إلى يناير/كانون الثاني 2016 عندما زار الرئيس الصيني العاصمة الإيرانية، واجتمع بشكل فردي مع خامنئي، لوضع الأسس العريضة للاتفاقية التي تم تسريب 18 صفحة منها على مواقع التواصل الاجتماعي، تضمنت عددًا من البنود أبرزها استثمارات صينية ضخمة في قطاعات عديدة داخل إيران، مثل قطاع النفط والغاز والبنوك والموانئ، هذا بجانب التعاون العسكري، في مقابل تخفيض 32% على مبيعات النفط الإيراني إلى الصين، مع فترة عامين للسداد.
ربما لم يلتفت ترامب لتداعيات حزمة العقوبات الجديدة ضد إيران لا سيما المتعلقة بتوظيفها لصالح خدمة الأجندة الصينية في المنطقة، فيما يسيطر عليه الآن البحث عن المكاسب السياسية والدعائية قصيرة النظر، بعيدًا عن أي أهداف بعيدة المدى، وهو ما قد يعزز من تيار المعارضة الداخلية لسياساته المتشددة تجاه طهران، ويأتي بنتائج عكسية، ليس على مستوى الحرب الاقتصادية مع الصين وفقط، لكن أيضًا على المتوقع من تداعيات هذه الإجراءات على شعبيته الداخلية وحظوظه في الفوز بولاية رئاسية ثانية.