“أكثر من 50% من الجيل الثاني والثالث من المسلمين الأوروبيين أعضاء في تنظيم داعش الإرهابي”، تصريح جديد مثير للجدل لمفتي الديار المصرية، شوقي علام، أثار موجة عارمة من الغضب الشعبي وفتح الباب أمام التساؤلات عن دوافعه والأهداف منه لا سيما أنه ياتي متزامنًا مع التصريحات العنصرية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
علام خلال لقاء تليفزيوني له على شاشة قناة “صدى البلد” المصرية، الجمعة الماضية، شن هجومًا على المسلمين في أوروبا، مبررًا تصريحاته بأنها تستند إلى دراسة أجريت عام 2016 كشفت تزايد أعداد الأوروبيين المنضمين لتنظيم الدولة، مطالبًا في الوقت ذاته بإعادة النظر في أوضاع المراكز الإسلامية في الخارج بزعم إعطاء صورة صحيحة عن الإسلام.
اللقاء الذي أجراه مفتي مصر مع الإعلامي المقرب من النظام، حمدي رزق، في برنامجه “نظرة” كان يهدف للرد على التصريحات المستفزة الصادرة عن الرئيس الفرنسي التي قال فيها “الإسلام يعيش في أزمة حاليًّا”، لكن علام بدلًا من التصدي لعنصرية ماكرون عززها بتصريحات لا تختلف كثيرًا عنها في المضمون وربما التأثير الخارجي.
وأضاف علام أن “منظومة المراكز الإسلامية على مستوى العالم تتنازعها في الغالب أجندات مختلفة إخوانية وغير إخوانية، ويتم تمويلها بسخاء وبأشكال مختلفة، لأنها تحمل خطابًا معينًا أدى بالفعل إلى تأزيم وتقزيم الموقف”، وهي التصريحات المعتادة لديه خلال السنوات السبعة الماضية.
ورغم التحفظ الإعلامي للمفتي على تصريحات الرئيس الفرنسي، داعيًا إلى فهم أفضل للإسلام من مصادره المعتبرة والمعتمدة، فإن التزامن بين حديثه وتلك التصريحات فسره البعض أنه غطاء شرعي وتبرير مقنن لموقف ماكرون الذي اعتاد الهجوم على الإسلام أكثر من مرة دون أن يحرك المفتي ساكنًا.
لم تكن تصريحات المفتي المصري الجدلية مفاجئة ولا مستغربة، فالرجل اعتاد السير دومًا على خطى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أينما ولّى وجهه كان علام على نفس المسار، محولًا دار الإفتاء المصرية إلى أداة سياسية لدعم الرئيس وإصباغ أفكاره ومقترحاته وآرائه بصبغة دينية، الأمر الذي أفقد المصريين الثقة في هذا الكيان الذي كان يتمتع بقدسية كبيرة لديهم، وبات الارتكان لمحرك البحث “جوجل” أكثر مصداقية لكثير من الباحثين عن الفتوى مقارنة بالتي فقدت بريقها بعدما تخلت عن دورها الأساسي لحساب خدمة النظام.
علام والسيسي وابن زايد
اللافت للنظر في تصريحات المفتي أنها تتسق بشكل كبير مع موقف الرئيس المصري وسياسات أبناء زايد في الإمارات، التي تمحورت كلها في تغذية الإسلاموفوبيا عبر الهجوم المتواصل على المراكز الإسلامية في أوروبا وتشويه صورة المسلمين هناك بدعوى محاربة التطرف والإرهاب.
السيسي وخلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد في فبراير/شباط 2019 قال إنه دومًا ما كان يحرص خلال لقاءاته مع قادة أوروبيين لحثهم على توخي الحظر حيال ما ينشر في دور العبادة وما يمارس بداخلها من أنشطة، وهو التصريح الذي أثار موجة غضب وقتها، فيما اعتبره البعض تحريضًا مباشرًا للمساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا في وقت يعاني فيه المسلمون هناك أصلًا من عنصرية فجة في أعقاب تقدم اليمين المتطرف.
وسبقت تصريحات السيسي أخرى مشابهة لها في 2017، حين قال وزير التسامح الإماراتي نهيان مبارك آل نهيان إن إهمال الرقابة على المساجد الموجودة في أوروبا كان سببًا رئيسيًا في زيادة الهجمات الإرهابية، الأمر الذي رفضته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا ووصفته بأنه “تحريض مبطن على المسلمين في أوروبا، ومحاولة يائسة لتحويل المساجد في أوروبا إلى مراكز أمنية تخدم أجندات إماراتية”.
يذكر أن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية نشرت مقالًا في مارس/آذار 2018، أشارت فيه إلى أن بعض الأنظمة العربية أشد كراهية للإسلام من نظيراتها من الأنظمة غير الإسلامية، لافتة إلى أن تلك الأنظمة تعزز “الإسلاموفوبيا” وتمنح ظاهرة “الخوف من الإسلام” القوة في العالم.
وقد تطرق المقال إلى هجوم وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، خلال ندوة عامة عقدت في الرياض 2017، على ما أسماه “الإسلام الراديكالي”، محذرًا الأوروبيين من نمو هذه الظاهرة في القارة العجوز، وأنه سيأتي اليوم الذي يخرج فيه عدد كبير من المتطرفين الراديكاليين من أوروبا بسبب أن قادتها لا يرغبون في اتخاذ القرار الصحيح ضدهم بدعوى حقوق الإنسان.
غضب وانتقادات
حالة من الغضب رافقت تصريحات مفتي السيسي، حيث علق الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي القره داغي بأن “لها أثر سلبي كبير، وانطباعات حزينة في نفوس المسلمين بالغرب، بل في العالم أجمع، والمؤسسات الدينية في مصر تحولت إلى جهاز وظيفي يخدم الدولة البوليسية”.
داغي في تغريدة له على حسابه على “تويتر” وصف تصريحات علام بـ”الكلام السلطوي” الذي يفتقر للدقة والموضوعية ولا يراعي مراقبة الله سبحانه وتعالى، لافتًا أن مثل تلك المواقف “تعكس وضع المؤسسات الدينية في مصر في عهد غياب القانون وسيادة العسكر، وأنها تحولت إلى جهاز وظيفي يخدم الدولة البوليسية”.
العديد من المتخصصين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن استهجانهم الشديد لتلك التصريحات المستفزة، معتبرين أنها تقدم المبرر الفكري لاستهداف المسلمين في الغرب، وأنها أكثر خطورة وعنصرية من تصريحات الرئيس الفرنسي ذاته، كونها صادرة عن شخص من المفترض أنه يمثل ما يزيد على 80 مليون مسلم في مصر.
وسبق سقطة علام بأيام قليلة هجوم حاد وعنيف من العديد من المراكز الإسلامية على التصريحات العنصرية الماكرونية التي تسيئ للإسلام، إذ أكد شيخ الأزهر أحمد الطيب، أن مثل تلك التصريحات “عنصرية وتؤجج مشاعر ملياري مسلم”، واصفًا إياها بأنها “غير مسؤولة، وتتخذ من الهجوم على الإسلام غطاءً لتحقيق مكاسب سياسية واهية، هذا السلوك اللاحضاري ضد الأديان يؤسس لثقافة الكراهية والعنصرية ويولد الإرهاب”.
أما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فأكد أن المقتنعين بالإسلام يزدادون كل يوم، “فهو ليس في أزمة، وإنما الأزمة في الجهل بمبادئه وحقائقه والحقد عليه وعلى أمته، فهي أزمة فهم وأزمة أخلاق”، فيما أرجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عنصرية ماكرون بأنه يحاول التغطية على الأزمة التي تعيشها بلاده، وحديثه عن إعادة تشكيل الإسلام “قلة أدب ويدل على عدم معرفته لحدوده”.
فقد تناقلت مصادر إعلامية تصريح مفتي مصر شوقي علام الذي جاء فيه: “إن ما يقرب من 50% من الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في أوروبا ينتمون إلى تنظيم الدولة”!
إن هذا الكلام السلطوي الصادر من جهة الإفتاء يفتقر إلى الدقة والموضوعية وقبل كل شيء رقابة الله سبحانه وتعالى!
— د. علي القره داغي Dr. Ali Al Qaradaghi (@Ali_AlQaradaghi) October 11, 2020
ظل الرئيس
هل من المقبول عقلًا أن يخرج مفتي أكبر وأهم دولة عربية بتصريح كهذا في وقت يعاني فيه المسلمون بشدة في كثير من الدول الأوروبية من تنامي اليمين المتطرف وارتفاع حدة الإسلاموفوبيا واستهداف المسلمين في تلك البلدان؟ وهل تحدث المفتي من تلقاء نفسه أم هو توجه للدولة المصرية الآن ونظامها برئاسة السيسي؟ أسئلة طرحها الكثير من الخبراء والمحللين في انتظار الإجابة.
وبعيدًا عن إرهاق البحث عن إجابات معروفة سلفًا وموثقة في سجلات التاريخ منذ عقود طويلة، فإن دار الإفتاء في مصر منذ نشأتها في 4 من جمادى الآخرة 1313هـ/21 من نوفمبر 1895م وهي ضلع أصيل في تنفيذ أهداف النظم الحاكمة، مسخرة كل جهودها لترسيخ أركان الحاكم والتماشي معه.
الباحث الدنماركي جاكوب سكوفجارد-بيترسون، في أطروحته المقدمة لنيل درجة الدكتوراة التي جاءت تحت عنوان “إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء” كشف أنه منذ نشأة الدار المصرية وحتى اليوم، ولها دور محوري في خدمة سياسات الدولة ودعم الأنظمة الحاكمة بصرف النظر عن الأحكام الشرعية.
وإذا عرفت دار الإفتاء على مدار تاريخها عشرات المفتيين العازفين على وتر دعم النظام فإن المفتي الحاليّ شوقي علام، تجاوز كل من سبقوه بمسافات طويلة، فالرجل فاق في تملقه ومداهنته للسيسي وحكومته ما يصعب على من يأتي بعده أن يلحق به في هذا المضمار الذي ضمن له البقاء فوق كرسيه حتى كتابة هذه السطور.
وبالكاد لا تمر مناسبة ولا يعبر حدث إلا ويدلو علام بدلوه، إما دعمًا وتأييدًا للسيسي وقراراته حتى ولو لم يكن لها علاقة بالدين، وإما هجومًا وانتقامًا من خصومه في الداخل والخارج، وصلت إلى محاولة تشويه التاريخ وتزييفه لخدمة الرئيس، بل تجاوز إلى القفز على المسائل الدينية إلى الدراما والسينما حيث حرم مشاهدة الدراما التركية، كذلك الهتافات لنصرة الأقصى داخل الحرم المكي.
جولة عابرة في مسيرة المفتي خلال السنوات الخمسة الأخيرة يجد أنه تقلد ثياب المشرعن لكل مواقف الرئيس، فحين يصدر السيسي تصريحات ما، سرعان ما ينبري علام لإلباسها اللباس الشرعي، وعلى الفور تتحول إلى البرلمان لتعزيز شرعيتها الدينية بشرعية قانونية أخرى.
فبعيدًا عن أحكام الإعدام بحق المئات، التي يشوب الكثير منها الجدل، أكد الرجل صحة فتوى السيسي بعدم الاعتراف بالطلاق الشفهي، داعيًا إلى ضرورة إدخال تعديلات في قانون الأحوال الشخصية لتأكيد كلام الرئيس وتحويله إلى قانون يتناغم وأحكام الشرع.
وفي حوار له ببرنامج “حوار المفتي”، بفضائية “أون لايف” المصرية في أغسطس/آب 2017 أجاز إخراج أموال الزكاة للإنفاق على قوات الجيش والشرطة التي تحارب الإرهاب، استجابة لتلميحات الرئيس والمقربين منه، كذلك أفتى بتحريم عدم المشاركة في الانتخابات، داعيًا جموع الشعب إلى النزول بـ”كثافة” للمشاركة في العملية الانتخابية، بعد تناقلت أنباء عن مقاطعة الشارع للانتخابات الرئاسية التي جرت في فبراير 2018.
وفي نوفمبر 2019 وبينما كان السيسي منفعلًا من حالة الغضب التي خيمت على الأجواء بسبب سياساته التي أرهقت كاهل المواطنين، التي انعكست على منصات السوشيال ميديا والمطالبة برحيله، خرج المفتي ليحرم الحديث في الشأن العام، بدعوى احترام التخصص وأهل العلم.
وسرعان ما جنت الدار حصادها المر لخدمة أهواء الساسة على حساب الدين في عهد علام، حيث فقد الشارع الثقة فيها ككيان منوط به تقديم الفتوى، فعلى صفحتها الرسمية بموقع فيسبوك استطلعت دار الإفتاء رأي المصريين في قبلتهم للبحث عن الفتوى، وخيّرتهم بين محرك البحث غوغل وموقع دار الإفتاء، وجاءت النتيجة صادمة، فـ70% من المشاركين يتجهون إلى جوجل للإجابة عن أسئلتهم الدينية وطلبًا للفتوى.
وهكذا تحولت دار الإفتاء المصرية والمفتي العام لها إلى ظل الرئيس في سياسته المعروفة بالهجوم على التيارات الإسلامية التي يراها التهديد الأول والأخير له، متجاوزًا إصباغ المواقف السياسية الداخلية رداءً دينيًا خدمة للنظام إلى استهداف المسلمين في الخارج.