تعنيف في غرف الولادة.. معاناة متكررة وأخطاء طبية لا تغتفر

ليست الأخطاء والإهمالات الطبية التي تشهدها غرف الولادة في المستشفيات الخاصة أو الحكومية مجرد حوادث عرضية تتعلق بحالات نادرة تفقد الأم أو الطفل الحياة أو تنتهي بمأساة مرضية تلازمهم مدى الحياة، بل ظاهرة متفشية تثير باستمرار جدلًا واسعًا وتستدعي تحذيرات حقوقية وصحيّة.
فقد كشف تقرير أممي جديد صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونسيف” ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وإدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية (DESA)، لحالات الإملاص أو المواليد الموتى، أن 84% من هذه الحوادث المؤلمة تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ففي كل 16 ثانية يولد طفل ميت، أي أن ما يقرب من مليوني طفل على مدار عام لم يستنشقوا أنفاسهم الأولى.
لكن الأخطاء والإهمال ليس كل ما يحصل في غرف التوليد، ففي داخل أقسام الولادة في بعض البلدان العربية تحدث أيضًا ظاهرة تعنيف النساء، حيث تتعرض السيدات رغم أنهم في أقصى حالات ضعفهن البشري في تلك اللحظة، لاعتداءات جسدية وإساءات لفظية، ثم يخيم صمتهن على تلك الحوادث في ظل غياب المحاسبة أو وجود الوساطة للتستر على الحادثة أو عدم وضوح قوانين ملاحقة الأطباء المقصرين.
التأخر في اتخاذ القرار للحصول على الرعاية، والتأخر في الوصول إلى مرفق صحي، والتأخر في تلقي العلاج المناسب في المرفق، كلها أسباب تؤدي لوفاة الأمهات، وهي أسباب رئيسية أكدتها منظمة أطباء بلا حدود، عند حدوث وفيات الأمهات قبل أو في أثناء أو بعد الولادة مباشرة، والأهم من ذلك قد يكون الوصول إلى العاملين المؤهلين في الوقت المناسب مسألة حياة أو موت بالنسبة للنساء اللواتي يعانين من مضاعفات في أثناء الولادة.
في هذا التقرير نستعرض حالات لنساء عربيات تعرضن لظواهر الإهمال الطبي أو الخطأ الطبي أو حتى تعنيف التوليد، وأهم المشكلات والحوادث التي تواجههن عند ولادة أطفالهن.
خطأ طبي لا يغتفر
أحدث الوقائع تلك التي حدثت في فلسطين وبالتحديد في قطاع غزة قبل أيام قليلة مع السيدة “دنيا الحايك” ذات الـ19 ربيعًا، لم تكن تعرف أنها تودع طفلتها الأولى التي لم تتجاوز العام والنصف وتحرم من رؤية مولدها الثاني بفعل خطأ أو إهمال طبي، في أحد المستشفيات الخاصة، يوضح أحد المقربين من دينا أن سبب وفاتها أن الطبيب الذي قام بتوليدها تركها تنزف بعد الولادة لينشغل بولادة أخرى ثم يخرج لانتهاء وقت دوامه المحدد ولم يأت أي طبيب من الأطباء المداومين.
وعن تفاصيل الحادث أكثر، أكد أحد المقربين من دينا أنه بعد تركيب وحدة الدم لاحظ أهل المريضة زيادة النزيف، فلم يكن منهم إلا أن استدعوا الطاقم الذي بدوره زودها بوحدتين دم أخرتين.
سألت عائلة دينا الممرضة عن عدم قدوم الطبيب المتابع لحالة ابنتهم نظرًا لخطورة وضعها، ردت قائلةً: “انتهى وقت عمل الطبيب، لا داعي للقلق وابنتكم ولدت قيصريًا ومن الطبيعي أن يحدث لها نزيف”.
وبعد تبديل الطاقم “الشيفت” ذهبت الأم لممرضة أخرى لتخبرها بإصفرار ابنتها، طالبة منها أن تأتي حالًا كي تراها، وعندما أتت الممرضة كان الرد ذاته من جديد: صحتها جيدة ولا داعي للقلق، لتذهب ممرضة أخرى كما سابقتها لتستمر بعملها وتوليد حالة أخرى.
العنف التوليدي هو تقاطع بين عوامل مختلفة، فتلعب الأعراف الاجتماعية دورًا مهمًا في قبول العنف ضد المرأة
وتابع بالقول: “عند حالة ما بعد الولادة وتحديدًا قرابة الساعة الخامسة مساءً جاءت إحدى الممرضات لتكتشف وجود نزيف قوي وشديد فما كان منها إلا أن اتصلت بأحد أطباء المستشفى الذي جاء بعد معاناة طويلة وألم غير محتمل ليحاولوا وقف النزيف الغزير ومع عدم مقدرته على السيطرة، كان الرد فلتنقل حالًا إلى مستشفى الشفاء الحكومي”.
في النهاية اتضح سبب وفاة دينا وهو أن فريق العمل الذي داوم بعد طبيب الولادة تأخر في إنقاذها وتركها تنزف لمدة ست ساعات وتأخر نقلها إلى مستشفى آخر عن طريق الإسعاف، حيث كان أحد شرايين دينا مقطوعًا، فحدث نزيف حاد ووصل دمها إلى 2، واستنزفت 102 وحدة دم.
أثارت حادثة وفاة دينا مواقع التواصل الاجتماعي، كونها ليست الحالة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تتعرض فيها النساء للوفاة في أثناء الولادة، بسبب الإهمال الطبي والتقصير، مطالبين معاقبة المسؤولين عن وفاتها.
وفي الوقت الحاليّ، تقدمت عائلة دينا بشكوى ضد الطبيب، كما أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة، تشكيل لجنة تحقيق للبحث في أسباب وفاة دنيا بأحد المستشفيات الخاصة.
عنف توليدي
يعد العنف التوليدي أحد أنواع العنف ضد المرأة، حيث يمكن أن تتعرض النساء في أثناء الولادة لأنواع مختلفة من العنف، مثل عدم احترامهن والإهانات اللفظية والعنف الجسدي والتمييز على أساس العرق والحالة الاجتماعية أو الاقتصادية والعمر وغير ذلك.
الإجراءات الطبية القسرية (مثل العمليات القيصرية غير الضرورية أو فحص الفرج المهبلي) أو أن يحتجزن في مرافق بسبب عدم دفع المال هي أشكال أخرى من العنف التوليدي، فهذه بعض أنواع العنف ضد المرأة التي يتم إهمالها، وما يعقد القضية بشكل أكبر هو نقص المعلومات والوعي، ما يجعل من الصعب منع هذا النوع من العنف والقضاء عليه.
والعنف التوليدي هو تقاطع بين عوامل مختلفة، فتلعب الأعراف الاجتماعية دورًا مهمًا في قبول العنف ضد المرأة، وعادة ما تظل النساء صامتات بشأن العنف الذي يواجهنه في المستشفيات لأنهن يعتبرنه طبيعيًا، ويرجع ذلك إلى الصورة النمطية لكيفية كون القابلات فظات وعنيفات، كما أن الصراخ أو الضرب من القابلة أمر بات معتادًا ولا يتحدث عنه أحد عادةً، بالإضافة إلى ذلك، فإن النساء يجهلن حقوقهن كمريضات، ومن ناحية أخرى، فإن صمت النساء عن تجاربهن وجهلهن بحقوقهن يمنح الطاقم الطبي المزيد من الأمان في الاستمرار بهذه الممارسات.
عنف لفظي وانتهاك للخصوصية
تواجه بعض النساء العربيات تعليقات جارحة وانتهاك واضح لحملهن وهو ما أكدته العشرينية العراقية رزان التي أنجبت طفلتها في أحد المستشفيات الحكومية لعمليات الولادة النسائية، وفي أثناء مخاضها كانت تصرخ من شدة الألم، لترد الممرضة المشرفة عليها بالقول بنبرة مستهترة: “يكفي صراخًا، أريد أن أكمل عملي، لكنك تجرؤين على العلاقة الزوجية مع زوجك وتريدين إنجاب الأولاد، عليك تحمل كل شيء”.
العراق: نحو ثلث الأمهات في سن الإنجاب لم تتوفر لهن رعاية صحية كافية أثناء الحمل
صدمت رزان من كلام الممرضة وشعرت بالخجل، لدرجة أن أختها الكبرى قالت لها اصمتي لتؤدي الممرضة عملها. وجدت رزان نفسها مجبرة على عدم الرد لكونها بحاجتهن.
وتوضح رزان أن النساء العراقيات من ذوات الدخل المحدود يلجأن إلى المستشفيات الحكومية التي تعد مجانية مقارنة بالمستشفيات الخاصة التي تقدر تكلفتها بـ850 دولارًا أي قرابة مليون دينار عراقي.
يعاني النظام الصحي في العراق من ضعف رعاية الأم والطفل، فقد ذكر تقرير صادر عن وزير الصحة العراقي، يصف فيه واقع الصحة الإنجابية ورعاية الأم والطفل، أن “نحو ثلث الأمهات في سن الإنجاب لم تتوفر لهن رعاية صحية كافية أثناء الحمل، وأكثر من ثلث مراكز الرعاية الصحية الأولية غير متكاملة الوظائف والإمكانات، وغير قادرة على تقديم جميع الخدمات المطلوبة وفق المعايير الدولية، ويتزايد إجراء العمليات القيصرية وتبلغ نسبتها حاليًّا 35%، مقارنة بالمعايير المقبولة التي لا تتجاوز الـ15%”.
الوباء المفضّل
تصف منظمة الصحة العالمية الولادة القيصرية بـ”الوباء” المفضل لنساء الوطن العربي، والوباء الوحيد في العالم الذي يختار مرضاه الإصابة به، وأنها تسجل نسبًا مرتفعة في غالبية دول العالم، في إقبال النساء عليها كطريقة آمنة لولادة أطفالهن، حتى أصبحت في كثير من دول العالم القاعدة، بينما الولادة الطبيعية هي الاستثناء.
وأكدت المنظمة أن نسبة الوفيات الناتجة عن “وباء القيصرية” تتعدى أربعة إلى عشرة أضعافه لدى النساء اللواتي وضعن بولادة طبيعية على مستوى العالم، سواء للطفل أم الأم.
المصرية غادة ابنة الـ22 ربيعًا تقول إنها في أثناء فترة الحمل كانت تتابع عند طبيبتها المختصة التي أكدت لها أن وضع الجنين بصحة جيدة خاصة وضعية رأسه إلى الأسفل حتى تتمكن من الولادة الطبيعية في أواخر الشهر التاسع، لكنها فوجئت بنزول ماء الجنين في الموعد المحدد لولادة طفلها من غير حدوث الطلق.
توصي مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون بوقف الولادة القيصرية في مصر باعتبارها أحد أشكال العنف ضد النساء
تتابع غادة حديثها بالقول: “تركوني في المشفى على أمل أن يحدث طلق خلال قرابة العشر ساعات وماء الجنين ينقص ويشكل خطرًا للطفل، لكن الطبيب علل ذلك كوني بكرية وأحتاج إلى وقت ليأتي الطلق، والوقت يمر ولم يتدخل أحد كون وضعية الجنين إلى الأسفل وهو ما يؤكد حدوث الولادة الطبيعية، لكن زوجي تصرف بعد استشارة من أحد أصدقائه الأطباء وأقر العملية القيصرية خوفًا على حياة الجنين أو حدوث نتائج كارثية ممكن أن تؤدي لتشوهات خلقية في حال تأخر الولادة”.
وعلى عكس صديقتها “آية” التي ولدت طفلتها بطريقة الولادة الطبيعية، أخبرها طبيبها أن هناك خطورةً على حياة الجنين وهو ما يتطلب الولادة القيصرية مبكرًا بحجة أن ماء الجنين نقص عن المعدل الطبيعي داخل الرحم.
آية أصبحت مجبرة على الخضوع للعملية قيصرية دون تفكير أو انتظار، موضحة أنها تؤيد الولادة الطبيعة وليست القيصرية لما لها من تأثير إيجابي على صحة الأم والطفل.
وتذكر آية أنها قبل يوم واحد فقط من موعد العملية القيصرية أرادت أن تطمئن على جنينها وتلجأ إلى طبيب آخر، فمجرد التصوير بجهاز “السونار” لجنينها أكد أنها ليست بحاجة إلى إجراء العملية القيصرية ووضع الجنين جيد، ليتضح لها أن بعض الأطباء يجبرون الأم على إجراء علمية القصرية من أجل الربح باعتبار تكلفتها ضعف الولادة الطبيعية.
وتحتل مصر المركز الأول عالميًا بنسبة وصلت إلى 63% في انتشار ظاهرة الولادة القيصرية حتى عام 2019.
وفي إطار التوعية الصحية توصي مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون بوقف الولادة القيصرية في مصر باعتبارها أحد أشكال العنف ضد النساء، وضرورة التوقف عن هذا الإجراء إلا للضرورة الطبية.
مهما اختلفت التسميات بين إهمال طبي أو تشخيص خاطئ أو سوء معاملة طبية أو عنف توليدي بشتى أشكاله عند الولادة، فإنها كلها تبريرات غير مقبولة وأصبحت ظاهرة خطيرة ومتكررة تتفشى بمجتمعاتنا العربية ولا ندري إلى متى سيستمر مسلسل الإهمال الطبي داخل غرف الولادة، وتدفع ثمنه العشرات بل المئات من الضحايا النساء اللواتي يكن في حالة المخاض أو الإنجاب وهي لحظات تكون فيها السيدات الحلقة الأضعف، فيقعن فريسة شريحة من الأطباء باتوا معدومي الأخلاق الطبية ومحدودي الخبرة اتخذوا من مهنة الطب سبيلًا للتربح على حساب تعريض حياة النساء للخطر الذي وصل في أوقات كثيرة لزهق الأرواح وموت الأبرياء دون وازع أو حساب.