ترجمة وتحرير نون بوست
مع خيامه البيضاء مربعة الشكل والمحاذية تمامًا للرمال الصفراء للصحراء، يمكن لمنزل آدم أن يشكل مخيمًا نموذجيًا للاجئين. لكنه ليس كذلك، حيث تطلق حكومة النيجر والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على المخيم “مركز تقديم مساعدة انسانية”. بالنسبة للحكومة، يمثل اللاجئون الحقيقيون أولئك القادمين من المناطق التي دمرتها الحرب في مالي ونيجيريا المجاورتين، والذين يقع إيوائهم مؤقتًا إلى أن تقل حدة القتال، وعند هذه النقطة من المتوقع أن يعودوا إلى الجانب الآخر من الحدود.
يختلف الأمر بالنسبة للسودانيين في مركز تقديم المساعدة الإنسانية، حيث أنهم مجبرون على إجراء مختلف الرحلات. لقد فروا من الصراع في وطنهم في دارفور وتوجهوا شمالاً وعبروا حدودا مختلفة للوصول إلى ليبيا، والتي ثبت أنها خطيرة مثل البلد الذي تركوه ورائهم. ثم ذهبوا جنوبًا إلى النيجر، هذه المرة هربًا من مراكز الاحتجاز وأسواق العبيد وخوفا من اعتقالهم من قبل وحدات خفر السواحل الليبية المدعومة من الاتحاد الأوروبي.
قبل أن يلتحق آدم بالنيجر في رحلته الأولى، تمكن من الوصول إلى أوروبا، إذ أنه وصل إلى إيطاليا ولكنه اعتقل على الحدود الفرنسية ووقع ترحيله إلى السودان. منذ ذلك الحين، أطلق عليه لقب “إيطاليا”. والواقع أنه غير سعيد بالانتظار في مركز تقديم المساعدة الإنسانية، لكن موظفي المفوضية أخبروه أنه إذا لم يكن راض بالوضع هناك، يمكن للنيجر إعادته إلى ليبيا.
في سنة 2019، كان هناك عدد قليل من رحلات إعادة التوطين من مركز المساعدة الإنسانية إلى أوروبا، لكنها كانت موجودة بالفعل، ومنحت الأمل لآدم الذي يحلم بالعودة إلى البلد الذي منحه اسمه، أو إلى أي مكان في أوروبا. ولكن أصبح الوصول إلى أوروبا في الوقت الحالي شبه مستحيل.
في الواقع، عُلقت مساعدات التغذية الخاصة بإعادة التوطين، والمقدمة في شكل كميات صغيرة في أوائل سنة 2020 حيث أعاد الفيروس تشكيل عالمنا. في أيلول / سبتمبر، أرسل إلينا آدم رسالة نصية مفادها: “لا مستقبل لي”.
مهاجر يجلس بالقرب من النار داخل خيمة في مخيم خارج بيخاتش في شمال البوسنة والهرسك، في 19 تشرين الثاني / نوفمبر 2019.
مهاجرون يشقون طريقهم عبر صربيا بالقرب من بلدة سوبتيتسا في التاسع من أيلول / سبتمبر 2015، في اتجاه كسر سياج من الفولاذ والشفرات أقامته الحكومة المجرية على الحدود.
منذ بداية الوباء، ظهرت الجسور المتحركة في جميع أنحاء العالم، مما حد من حركة المسافرين من رجال الأعمال والمصطافين وطالبي اللجوء. ولكن بينما تتوقع شركات الطيران بفارغ الصبر عودة السياحة إلى طبيعتها، فمن المرجح أن تصبح العديد من القيود المفروضة على اللجوء والتي أُقرت خلال الأزمة الحالية دائمة.
هذه السنة، توقفت أكثر من 90 دولة عن النظر في طلبات اللجوء. في البوسنة والهرسك، احتُجز آلاف المهاجرين الفارين من الحروب في أوطانهم والباحثين عن طريق نحو شمال أوروبا، في المخيمات. بينما أُجبرت القوارب التي تحمل لاجئي الروهينجا في ماليزيا وتايلاند على العودة من حيث أتت. في دول البحر الأبيض المتوسط، مثل الفيروس سلاحا قويا للسياسيين الباحثين عن طرق لتبرير حصار أوروبا للتحركات غير القانونية من الجنوب.
في الواقع، يلقي خطاب اليمين المتطرف باللوم على اللاجئين في نقل كوفيد-19. في بداية شهر آذار / مارس، صرح رئيس الوزراء القومي المجري، فيكتور أوربان، أنه “يخوض حربًا على جبهتين: تسمى الجبهة الأولى بالهجرة، أما الجبهة الأخرى فتخص فيروس كورونا”. لقد خلط اليمين بين المسألتين، واستند إلى تاريخ امتد لقرون اتهم فيه الغرباء بأنهم مرضى.
لا يعد طالبو اللجوء في الواقع أكثر عرضة من أي شخص آخر لنقل الفيروس، حيث اتبع انتشاره الأولي مسارات السفر الجوي الدولي بدلاً من الهجرة غير الشرعية. لكن وفقًا لسوزان فراتسكي من معهد سياسات الهجرة، يمثل الوباء ذريعة مفيدة “بالنسبة للبلدان حتى تتمكن من وضع سياسات مناهضة للجوء، والتي كانت ستتبعها على أي حال”.
الواقع أن الإجراءات التي اتخذت في الأشهر الستة الماضية لا تمثل سياسات استثنائية متبعة في وقت الأزمات، ولكن وقعت الإستفادة من الأزمة بشكل صحيح لإكمال مشروع كان قيد الإعداد منذ 30 سنة، والمتمثل في فرض حصار شبه كامل على حركة اللاجئين ووضع حد للجوء باعتباره إمكانية عملية.
مجموعة من الشباب الأفغان يقفون خارج خيمة قدمتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مخيم في باكستان في الأول من كانون الثاني / يناير 1989.
لطالما وُضع حق اللجوء في موقف غامض بين القانون والجغرافيا السياسية. عندما وقع اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لأول مرة في سنة 1951، شملت فقط الأوروبيين الذين كانوا يحاولون إيجاد ملجأ في مجموعة جديدة من الدول بعد الحرب العالمية الثانية.
ركز نقاش ما بعد الحرب أساسا على مبدأ “عدم الإعادة القسرية”، وهو المبدأ الذي يعني أنه لا يمكن إعادة طالبي اللجوء إلى البلدان التي فروا منها إذا استمروا في التعرض للاضطهاد هناك. كان تجسيد هذا المبدأ بمثابة رد فعل على الخطيئة الأصلية التي ردت الاتفاقية عليها، والمتمثلة في رفض العديد من البلدان دخول اللاجئين اليهود إليها أثناء الحرب. ومع ذلك، لا يضمن عدم إعادة اللاجئين قانونيًا إلى أماكن خطرة توفير مكان يقطنون به، وهو من نقائص الاتفاقية، والذي وقع الكشف عنه من خلال قصص مشابهة لقصة آدم.
لا يعني ذلك أنه وقع أخذ آدم بعين الإعتبار عند التوقيع على الاتفاقية. سيستغرق الأمر حتى سنة 1967 حتى يتم التوقيع على بروتوكول يعمم حق اللجوء خارج أوروبا لأي شخص يخشى التعرض للاضطهاد بسبب آرائه السياسية أو عضويته في مجموعة مضطهدة.
حتى بعد توقيع البروتوكول، ظل الحق في اللجوء هشا. على الرغم من أنه يتعين على الدول الموقعة على البروتوكول من الناحية النظرية أن تستقبل طالبي اللجوء، لا تُعد أي دولة واحدة مجبرة على القيام بذلك، وتُشكَّل سياسات اللجوء في الواقع دائمًا من قبل متطلبات سياسات الهجرة الوطنية.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان هناك عدد قليل نسبيًا من حالات اللجوء في أوروبا والعالم الناطق باللغة الإنجليزية، وذلك ببساطة بسبب الحاجة إلى العمال، كما أن قواعد الهجرة تعد متساهلة نسبيًا، كما كانت أسهل من المرور بإجراءات لجوء معقدة. يمكن اعتبار أن أولئك الذين تقدموا بطلبات قد حققوا انتصارات سياسية: فضحايا الأنظمة الشيوعية في المجر وبولندا الذين كان فشلهم في الهروب واضحًا.
مع انتشار أزمة النفط في السبعينيات التي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة في أوروبا، تراجع الطلب على العمال المهاجرين وتشددت قيود الهجرة وأصبح المهاجرون بمثابة فرصة للسياسيين الباحثين عن كبش فداء لإيجاد حل للانكماش الاقتصادي العالمي.
تزايد السخط الشعبي بعد بقاء العمال المهاجرين الذين قدموا إلى أوروبا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في البلدان التي لجئوا إليها، وأصبحوا هدفًا للغضب السياسي. كما ترافق تشديد سياسات الهجرة مع ارتفاع في عدد الأشخاص المتقدمين بطلبات اللجوء، حيث حاول الفارون من النزاعات في فيتنام وكمبوديا وحروب أمريكا الوسطى الوصول إلى بر الأمان. منذ البداية، ارتبطت مؤسسة اللجوء بالاقتصاد السياسي للدول القومية. مع أزمات السبعينيات، وقع إضفاء الطابع المؤسسي على طريقة جديدة لإبعاد طالبي اللجوء، وهي إنشاء مخيم للاجئين.
خيام مكدسة بإحكام معًا مضاءة في الليل في معسكر الإغاثة، شاه منصور في مستوطنة صوابي في باكستان في 21 حزيران / يونيو 2009.
لاجئ سوري من حلب يجلس مع أطفاله في خيمة مؤقتة في مخيم في بلدة قب الياس في وادي البقاع اللبناني في 20 حزيران / يونيو 2016.
زعم عالم الإناسة الفرنسي ديدييه فاسين أن هناك نظام عالمي منقسم للتعامل مع اللاجئين. ففي عدد قليل من البلدان، هناك إمكانية للجوء وفي بقية العالم يوجد مخيم للاجئين. في السنوات الثلاثين الماضية، حتى تلك البلدان التي تقدم اللجوء السياسي، مثل تلك التي توجد داخل الاتحاد الأوروبي، أقامت معسكرات داخل حدودها. فمع اللجوء هناك وعد الإقامة الدائمة والمواطنة النهائية والحياة الجديدة. لكن، لا تسمح البلدان لملتمسي اللجوء بتقديم طلبات اللجوء إلى سفاراتها، وهذا يعني أن الطلب يتطلب رحلات غير نظامية وصعبة.
على مدى الثلاثين عامًا الماضية، أصبحت هذه الرحلة صعبة بشكل متزايد. يعيش معظم اللاجئين الآن في مخيمات في بلدان مثل كينيا ولبنان وباكستان، بجوار مناطق الحرب التي فروا منها. في نهاية 2019، كان هناك 79.5 مليون نازحا قسريًا في جميع أنحاء العالم وقع استضافة 85 بالمئة منهم في العالم النامي.
في حين أنه من الصعب للغاية الحصول على اللجوء، إلا أنه من السهل الدخول إلى مخيم للاجئين. لكن تكوين حياة جيدة هناك يكاد يكون مستحيلاً. تستند الاقامة في هذه المخيمات إلى الفكرة التي تكرسها المفوضية والتي مفادها أن اللاجئين إما يعاد توطينهم أو يعودون إلى ديارهم. وهذا يعني أن أغلب اللاجئين لا يُسمَح لهم بالعمل ولا يحصلون على الجنسية في بلادهم المضيفة ولا يتمتعون إلا بقسط بسيط من الخدمات للحفاظ على الحياة، ولكن ليس بناء حياة طيبة. ومن المفترض أن تكون المخيمات مؤقتة، ولكن مع تزايد صعوبة إعادة التوطين وعدم انتهاء الحروب، فإن العديد منهم لا يغادرون أبدا.
نتيجة لذلك، ظهر مئات الآلاف من الأشخاص دون جنسية في أماكن مثل مخيمات اللاجئين في دارفور في تشاد معتمدين على المعونات منتظرين مستقبلا محالا. من وجهة نظر مفوضية اللاجئين، تقوم هذه المخيمات بإنقاذ أرواح أشخاص كثيرين. لكن من منظور تاريخي، فإن مثل هذه المخيمات هي أدوات لإدارة السكان المهاجرين. في الواقع، تعد هذه المخيمات بمثابة أقفاص، كما يسميها عالم الاجتماع الأمريكي ديفيد سكوت فيتزجيرالد، وهي موجودة لمنع الناس من القدوم إلى البلدان الغنية والتقدم بطلب اللجوء.
رجل يعطي الماء للمهاجرين المتجهين إلى الحدود مع غواتيمالا أثناء سفرهم على متن شاحنة في سيرو دي هولا في الثالث من حزيران / يونيو. توجه قرابة 100 مهاجر من جمهورية الكونغو الديمقراطية وغانا وساحل العاج وهايتي وكوبا في قافلة. من تشولوتيكا، هندوراس، إلى المكسيك من قبل الشرطة لإجراءات الرقابة الصحية وسط جائحة فيروس كورونا.
منذ تسعينيات القرن الماضي، حاولت أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا منع طالبي اللجوء من تقديم طلبات داخل أراضيهم، على الرغم من بقائهم من الموقعين القانونيين على اتفاقية سنة 1951 وبروتوكول سنة 1967. تشمل الإجراءات التي اتخذوها تشديد نظام التأشيرات العالمي والقيود المفروضة على السفر، فضلاً عن إضفاء الطابع الخارجي على ضوابط الحدود بعيدًا عن الحدود الفعلية للدول القومية المعنية.
منذ ثمانينيات القرن العشرين، اعترض حرس السواحل الأميركي على نحو متزايد طالبي اللجوء في البحر ثم أعادتهم قسراً إلى أوطانهم من دون جلسات استماع قانونية، ونقلت أستراليا طالبي اللجوء إلى بابوا غينيا الجديدة وناورو، تماما كما تنقل الشركات مصانعها إلى الخارج، الأمر الذي يوفر المال ويحميي من الأهوال التي يصعب تحملها في أوطانهم.
في أوروبا، شهدت السنوات الثلاثين الماضية تحرك حدود القارة جنوبا بشكل مطرد، حتى في الوقت الذي يجد فيه سكان شمال إفريقيا صعوبة متزايدة في عبور البحر الأبيض المتوسط. في السنوات الأخيرة، أطلق مسؤولون أفارقة وأوروبيون على النيجر وليبيا والسودان اسم “الحدود الجنوبية الجديدة لأوروبا”.
يتكون هذا الجدار الحدودي الجديد من مجموعة موسعة من الطائرات دون طيار والأسوار الحدودية، والتي تحرسها أحيانًا قوات الميليشيات التي تتعاقد معها أوروبا والتي يمكنها اعتراض المهاجرين في الأماكن التي تكون فيها انتهاكات حقوق الإنسان بعيدة عن محط الأنظار. أما أستراليا، فقد أقامت الحواجز في بلدان أخرى وأنشأت نظامًا للنظر في طلبات اللجوء في الخارج. وركزت أوروبا على منع طالبي اللجوء جنوب البحر الأبيض المتوسط. وسط كل الخلافات الأخرى حول ضرورة هذه الجبهة الجديدة، وكما أشار الكاتب توماس ميني العام الماضي، فإن أوروبا تقدم الخطاب ذاته حول هذه المسألة في كل مرة.
مجموعة من الرجال المهاجرين، معظمهم من النيجر ونيجيريا، يسافرون عبر الصحراء في شمال النيجر باتجاه نقطة غاترون الحدودية الليبية في 15 يناير/كانون الثاني 2019.
مهاجرون يقفون على قارب مطاطي خلال عملية إنقاذ قامت بها منظمة غير حكومية فرنسية في البحر الأبيض المتوسط في 10 آب / أغسطس 2019.
لاجئون سودانيون من دارفور يتجمعون وسط خيام خلال اعتصام خارج مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العاصمة الأردنية عمان في 12 كانون الأول / ديسمبر 2015، للمطالبة بتحسين العلاج وتسريع عملية نقلهم.
عاش آدم “إيطاليا” في قرية أب دول في دارفور حتى سنة 2004، عندما تعرضت لهجوم من قبل مليشيات الحكومة السودانية. أصبح واحدا من ثلاثة ملايين من سكان دارفور الذين نزحوا إلى مخيمات محاطة بالميليشيات ذاتها التي دمرت قرية آدم وسرقت ماشية عائلته. منعت الميليشيات سكان المخيم من المغادرة إلى المزرعة أو البحث عن عمل، لذلك قرر آدم الذهاب إلى ليبيا للبحث عن عمل.
لم تكن الحياة في ليبيا سهلة. عمل آدم كثيرا في وظائف المؤقتة، فقد عمل في المطاعم وشركات البناء وتعرض للضرب والمضايقة وكسب قوته بصعوبة في خضم الحرب الأهلية الليبية. بعد ذلك بسنة، قرر المغادرة إلى أوروبا. في 2016، وهو عام الذروة بالنسبة للعبور البحري إلى إيطاليا، حيث وصل 181 ألف شخص إلى القارة، استقل آدم أحد الزوارق الأربعة، التي يحمل كل منها 140 مهاجرًا. وصل إلى صقلية وسافر إلى روما، عازمًا على التوجه إلى فرنسا، لكن اعتُقل قبل الحدود في فينتيميليا مباشرة واقتيد إلى السفارة السودانية، حيث تم استجوابه وترحيله إلى السودان. ولدى وصوله، استُقبل بالشكل الذي تعتمده عادة المخابرات السودانية مع للعائدين واسُتجوب بوحشية.
رُحل آدم بناء على صفقة أبرمتها إيطاليا، مثل العديد من الدول الأوروبية الأخرى، مع السودان والتي سمحت لعملاء المخابرات السودانية بالقدوم إلى أوروبا ومقابلة طالبي اللجوء من أجل تسهيل عمليات الترحيل. أُبرمت هذه الصفقة مع نفس النظام السوداني الذي فر آدم منه، مما أدى فعليًا إلى إعادته القسرية. بعد ترحيل آدم، فازت مجموعة من المواطنين السودانيين بالحكم الاستئنافي أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد ترحيلهم بموجب نفس المخطط. ووسط هذا التحدي القانوني وغيره، تواصل أوروبا الاعتماد على الإستعانة بآليات خارجية لمراقبة حدودها كوسيلة رئيسية للتهرب من التتبع القانوني.
في 2016، وقع الاتحاد الأوروبي صفقة بقيمة 6 مليارات يورو (6.6 مليار دولار) لتركيا لإبقاء اللاجئين السوريين على أراضيها بما في ذلك أولئك الذين عادوا من اليونان. في الواقع، أصبحت تركيا قفصًا يشبه إلى حد كبير مخيمات اللاجئين في أقصى الجنوب. في نفس العام، فرضت النيجر، أبرز الدول التي تتلقى مساعدات الاتحاد الأوروبي، بقيمة مليار يورو (حوالي 1.18 مليار دولار) مخصصة للفترة 2017-2020، على قانون جديد سمح لقواتها باعتقال المهاجرين في وقت مبكر، في أغاديز مثلا وهي آخر مدينة كبيرة في على حافة الصحراء تقع على بعد 700 ميل من الحدود الليبية. اعتبر مسؤولو الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة اتفاقا نموذجيا.
تتحرك حدود أوروبا جنوبا، ومع هذا التوسع يتغير حرس الحدود أيضا. في 2009، أبرم رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك، سيلفيو برلسكوني، اتفاقية مع الزعيم الليبي في ذلك الوقت، معمر القذافي، مكنت وحدات خفر السواحل الإيطالية من ترحيل المهاجرين بسرعة إلى ليبيا. في السنوات الفاصلة، حدث تغيير في النظام في ليبيا، لكن أولويات إيطاليا لم تتغير.
تشكلت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا في آذار/ مارس 2016. على الرغم من أنها كانت بالكاد تسيطر على أجزاء من طرابلس، إلا أن السيادة الوهمية لحكومة الوفاق الوطني لم تمنع الاتحاد الأوروبي، بقيادة إيطاليا، من تدريب قوات خفر السواحل الليبية. كان العديد من وحدات خفر السواحل هذه، حتى وقت قريب، مليشيات متورطة في تهريب المهاجرين. كان آدم قد غادر ليبيا من “تركينا” (وتعني ركن، وهو اسم يُطلق على الأماكن التي يتجمع فيها المهاجرون قبل ركوب القوارب) في صبراتة، وذلك بفضل مهرب مرتبط بأحمد الدباشي، المعروف أيضًا باسم “العمّو”، الذي سرعان ما قرر تنويع أعماله ليصبح حارس سواحل، بعد أن كان يعمل حمالاً بعربة يدوية لصالح أشهر مهرب مهاجرين في ليبيا.
بعد استجوابه، عاد آدم إلى دارفور، إلى نفس معسكر النازحين الذي نشأ فيه. كان إلى حدد ذلك الوقت خاضعا لحراسة الميليشيات نفسها التي تقتل شعبه. وسأله رجالها قائلين “لم نرك منذ فترة طويلة، أين كنت؟”. وبعد ذلك، قرر آدم المغادرة مرة أخرى، بعد أن سئم من تواصل عمليات الكرّ والفرّ.
عندما عاد آدم إلى ليبيا في سنة 2017، تغير الوضع. لم يعد العمّو مجرد مهرب مشهور تحت قيادة الميليشيا، بل أصبح قائدًا لقوة معادية للمهاجرين معترف بها من قبل حكومة الوفاق الوطني. وصارت تركينا، مصنع التونة الإيطالي السابق، حينها مركز احتجاز رسمي للمهاجرين. ومع ذلك، أثبتت شائعات تقديم منحة بقيمة 5 ملايين يورو (5.9 مليون دولار) من الإيطاليين. وشُنّ هجوم على العمّو من قبل المهربين المنافسين له وطردوه من صبراتة، الأمر الذي أدى إلى فرار 10 آلاف مهاجر مرة أخرى، بفضل مما أصبح يعرف بحرب صبراتة، ليقع اعتقالهم فيما بعد من قبل منافسي العمّو واحتجازهم في مراكز الترحيل التي تمتد على طول الساحل.
بغض النظر عن القائد المسؤول عن هذه القوات، فقد أثبتت الميليشيا أنها بارعة في عملية الاعتقال. ففي سنة 2018، وبناءً على طلب الاتحاد الأوروبي، وقع الاعتراف بما يسمى بمنطقة البحث والإنقاذ في ليبيا، مما سمح لقوات خفر السواحل بتوسيع منطقة عملياتها بعيدًا عن الساحل، مما أدى إلى تحقيق نتائج إيجابية. فقد انخفض عدد الوافدين إلى إيطاليا من 181 ألف في سنة 2016 إلى 23 ألف فقط في سنة 2018.
رسميا، يدين الاتحاد الأوروبي الاحتجاز التعسفي للمهاجرين في ليبيا، التي لم توقع بعد على اتفاقية 1951. في الواقع، من بين حوالي 500 مليون يورو (590 مليون دولار) قدمها الاتحاد الأوروبي لحكومة الوفاق الوطني منذ سنة 2016، ذهب جزء من المال إلى خفر السواحل. ففي سنة 2018، أخبرنا مسؤول رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي بأن”هدفنا هو تقليل أعداد المهاجرين الذين يصلون إلى أوروبا. إن سياساتنا ناجحة، ونحن لا نهتم بالعواقب المترتبة عن ذلك في ليبيا أو النيجر”.
امرأة تحتضن طفلاً أثناء هروبها من ألسنة اللهب عقب اندلاع حريق كبير في مخيم موريا للمهاجرين في جزيرة ليسبوس اليونانية في التاسع من أيلول/ سبتمبر.
في الواقع، لقد أثبت هذا الوباء الإنعككاسات السلبية للنظام الدولي الليبرالي. ففي المجر، استغلت حكومة أوربان الفيروس لتعزيز الخطاب المعادي للمهاجرين وتبرير إغلاق حدود البلاد. في آذار/ مارس، حظرت إدارة ترامب طلبات اللجوء بشكل تام، مما أدى إلى ترحيل أكثر من 20 ألف شخص كانوا سيطلبون اللجوء لولا ذلك القرار. وعلى الرغم من إلغاء هذا الأمر من قبل قاضٍ فيدرالي في 30 حزيران/ يونيو، إلا أن الإدارة أصدرت قرارا جديدًا بعد أسبوع، يمنع طلبات اللجوء من البلدان التي تفشى فيها كوفيد-19 بشكل خطير، ضمن مجموعة من الإجراءات الأخرى.
في أوروبا، استخدم السياسيون الشعبويون الوباء لتأجيج المخاوف من المهاجرين. من جهته، حاول رئيس إقليم صقلية، نيلو موسوميسي، إغلاق جميع مراكز المهاجرين في الجزيرة في نهاية شهر آب/ أغسطس، قبل أن يقع منعه من ذلك في المحكمة، وألقى باللوم على المهاجرين الذين اعتبرهم السبب في نشر الفيروس.
في الحقيقة، إن خطاب موسوميسي يعكس صدى وزير الداخلية السابق، ماتيو سالفيني، الذي يحاول استئناف حياته السياسية المتوقفة من خلال الدعوة إلى وقف جميع قوارب المهاجرين التي ترسو في المياه الإيطالية. وكانت الموانئ ترفض قوارب المهاجرين خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث أعلنت دول خط المواجهة مثل مالطا فرض حظر شامل على سفن المنظمات غير الحكومية التي تنقل المهاجرين إلى شواطئها.
في المقابل، تترك هذه القرارات أشخاصا مثل آدم، محاصرين. عندما عاد إلى ليبيا، وقع في نفس المشكلة، وبقي عالقًا في وظائف مهينة رفضت دفع أجره، وقرر المغادرة إلى النيجر. في أغاديس، نُصح بالتوجه إلى مراكز تقديم المساعدة الإنسانية على بعد أميال قليلة من المدينة. وها هو ينتظر مصيره هناك، متجنبا العودة إلى الميليشيات الحكومية التي تنتظره في السودان وعاجزا على الوصول إلى أوروبا.
لقد أدى التركيز على عدم الإعادة القسرية في البنية القانونية لقانون اللاجئين إلى خلق أمر بعدم إعادة بعض الأشخاص إلى الحرب، ولكنهم ظلوا غير قادرين على تكوين حياة جديدة كذلك. وبدلاً من ذلك، احتُجزوا في معسكرات ومراكز احتجاز وتركوا فعليًا بلا جنسية.
في ليبيا والنيجر، أصبحت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين رسميا وكيلًا للاتحاد الأوروبي، وثاني أكبر جهة مانحة. لكن هذا ليس خطأ المفوضية بالكامل. حتى قبل الوباء، ومن بين 50 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجل في ليبيا، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قادرة فقط على إعادة توطين 2000 شخص سنويًا، في أوروبا بشكل أساسي، وذلك بسبب امتناع الحكومات عن قبول اللاجئين. وفي خضم هذا التضارب بين العرض والطلب، شددت المفوضية على إبقاء اللاجئين في المخيمات.
إن اتفاقية 1951 لم تعد مناسبة للغرض. في سنة 1949، كتب مجموعة من المفكرين، بمن فيهم ألبرت أينشتاين، الذي كان لاجئا هو نفسه، وبيرتراند راسل، رسالة عامة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تريغفه لي آنذاك، اقترحوا فيها طريقة أكثر عالمية للتعامل مع اللاجئين. “إن التاريخ جعلهم مواطنين في العالم، ويجب معاملتهم على هذا النحو”. كانت مشكلة اللاجئين بمثابة فرصة، كما جاء في الرسالة، “للسماح لمثل المواطنة العالمية بالبقاء ليس فقط في النظريات والبرامج، ولكن أيضًا في التجارب الجريئة والاحترام الحقيقي للشخص البشري”.
في المقابل، ردت منظمة اللاجئين الدولية، التي تأسست قبل ظهور المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بعدوانية على اقتراح جواز سفر عالمي للنازحين: كان اللاجئون يمثلون مشكلة، ولم تكن هناك حقوق دولية، وكانت عمليات الترحيل أو إعادة التوطين هي الطريقة الوحيدة للاجئين للعثور على مكانهم في عالم الدول القومية. بعد مرور 70 سنة، نتج عن ذلك ظهور عدد متزايد من الأشخاص عديمي الجنسية في جميع أنحاء العالم، وهو الموقف عينه الذي بُعثت منظمة اللاجئين الدولية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من أجل منعه.
ربما تكون المناقشات حول الاتفاق العالمي بشأن اللاجئين في سنة 2018 قد مكنت من إجراء مناقشة حقيقية حول كيفية إصلاح ممارسة اللجوء في القرن الحادي والعشرين. وبدلاً من ذلك، كان هناك تغيير طفيف في الإطار القانوني الحالي، وحتى تلك التغييرات قوبلت بالرفض من قبل الولايات المتحدة والمجر. في الواقع، لا يوجد مكان للجوء على خريطة الدول القومية، وبالنسبة للأشخاص الذين يعانون مثل آدم، قد يكون مستقبلهم بلدًا لن يزوره أبدًا.
في كانون الأول / ديسمبر 2019، خرج عدة مئات من اللاجئين القادمين من دارفور من مراكز تقديم المساعدة الإنسانية ونظموا احتجاجًا أمام مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أغاديس. بعد ثلاثة أسابيع، أعادتهم قوات الأمن في النيجر إلى المخيم واعتقلت أكثر من 300 منهم، من بينهم آدم، الذي قضى شهرين في السجن.
في تموز/ يوليو 2020، استأنف اللاجئون احتجاجاتهم، وهذه المرة من مراكز تقديم المساعدة الإنسانية نفسها. وجاء في إحدى رسائل “واتساب” الخاصة بهم هذا الشهر: “إلى حدود السابع من أيلول/ سبتمبر، اليوم الخمسين على التوالي من احتجاجنا السلمي للمطالبة بحقوقنا في العيش الكريم، لم تقم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بزيارة المخيم. وتركونا في الصحراء”.
المصدر: فورين بوليسي