عام 1963 أنشأ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تنظيمًا سياسيًا تابعًا للاتحاد الاشتراكي (بمثابة الحزب الحاكم آنذاك) كان هدفه حينها تجنيد العناصر الشبابية الصالحة للإدارة وتكون موالية شكلًا ومضمونًا للقيادة السياسية لتصبح الظهير الشبابي لشخص الرئيس على وجه التحديد.
أُطلق على هذا التنظيم اسم “التنظيم الطليعي السري” وإن لم يكن منصوصًا في ميثاق تكوينه الطبيعة السرية إلا أنه كان يعمل في إطار من السرية النسبية، على الأقل لم يكن أحد من العامة يعرف هوية أعضائه حفاظًا علي حياتهم وضمانًا لأن يتصرف الناس بطبيعتهم دون تحفظ.
وقد أشرف على هذا التنظيم الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، وكان يختص بكتابة التقارير عن الشخصيات العامة والخاصة بجانب الأحداث الداخلية ورفعها للقيادة السياسية لتقديم صورة كاملة عن المشهد، أشبه بشبكة تجسس تخدم الرئيس وتنقل له كل ما يدور في الشارع دون علمه.
وصل أعضاء هذا التنظيم حينها إلى أكثر من 30 ألف عضو من الشباب، من مختلف التيارات الاجتماعية والفكرية، لكن جميعهم كانوا يدينون بالولاء للرئيس، ومن أبرز أعضائه الذين تقلدوا مناصب بعد ذلك أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب السابق ورفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى السابق وعلي الدين هلال وزير الشباب السابق وأمين الإعلام بالحزب الوطني المنحل وفاروق حسني وزير الثقافة السابق ومصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب سابقًا ومدير مكتبة الإسكندرية حاليًّا، بجانب أسامة الباز المستشار السياسي الراحل للرئيس السابق حسني مبارك.
يبدو أن ولع الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي بسلفه ناصر تجاوز فكرة غبطته على إعلام الصوت الواحد الذي كان يحكم قبضته عليه وحوله إلى بوق لدعم النظام بعيدًا عما يدور على أرض الواقع، وهي الأمنية التي طالما عبر عنها السيسي في أكثر من لقاء حين أشار إلى أن الرئيس الأسبق كان محظوظًا بعدم وجود إعلام متعدد الأصوات.
فبعيدًا عن محاولات استنساخ إعلام الستينيات عبر غلق كل المنافذ وتضييق الخناق وترهيب الصحفيين والإعلاميين بجانب خنق الحريات بصورة شبه كاملة، يسير السيسي على ذات خطى سلفه تقريبًا، مستلهمًا فكرة التنظيم الطليعي ليكون ظهيرًا شبابيًا وسياسيًا له، لكن تحت مسمى جديد وهو “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين”.
ورغم ادعاء تلك التنسيقية التي تضم شبابًا من مختلف التيارات السياسية وإن كان يجمعهم دعم ومؤازرة السيسي أنها كيان مستقل تسعى لإثراء العمل السياسي عبر مشاركات بناءة تضم صفوف المعارضة الوطنية، فإن الواقع منذ ظهور هذا التنظيم رسميًا على وجه الحياة السياسية في يونيو/حزيران 2018 يكذب تلك الادعاءات.. فما هذا الكيان الجديد الذي ينافس بقوة على تورتة مجلس النواب ومن قبلها مجلس الشيوخ؟
لعل ما حدث في انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة ومشاهد الفساد السياسي التي صدرها الحزب، كان لها دور كبير في مقاطعة المصريين للماراثون الانتخابي، فضلًا عن حالة الغضب العامة التي عمت منصات السوشيال ميديا، الأمر الذي دفع النظام إلى البحث عن بديل
البحث عن ظهير
حين قاد السيسي المشهد بعد 3 من يوليو/تموز 2013 عقب الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، لم يكن له ظهير سياسي كما كان مع الرؤساء السابقين (الاتحاد الاشتراكي مع عبد الناصر والحزب الوطني مع السادات ومبارك والإخوان مع مرسي) بل كان الجيش وبعض القوى السياسية غير المؤثرة في المشهد من كانت تدعمه لأسباب تتعلق بغلق الباب كاملًا أمام الإسلاميين لا أكثر.
ومع توليه مقاليد الحكم في 2014 باتت المهمة الأبرز هي البحث عن ظهير سياسي قوي، وهنا ظهر “حزب مستقبل وطن” بعد أشهر قليلة من دخول السيسي قصر الاتحادية، ليتحول سريعًا إلى “حزب وطني” جديد، فمعظم كوادره من رموز حزب مبارك المنحل.
ورغم نجاح الحزب في السيطرة على الساحة والعزف منفردًا على أوتار المشهد السياسي، فإنه ما زال يمثل قلقًا بالنسبة للسيسي ونظامه، خاصة أن العديد من الرموز التي كانت موالية لمبارك باتت على رأس الحزب، تزامن ذلك مع مناوشات هنا وهناك بين النظام وأبناء مبارك (جمال وعلاء)، وهو ما أثار التخوف من أن يكون ولاء الحزب لفلول مبارك أكثر من السيسي نفسه.
ومع مرور الوقت نجح السيسي في إعادة تشكيل الحزب بما يحقق له المزيد من الاطمئنان، غير أن الأداء العام ومساعي الإقصاء لكل ما سواه والهرولة لاحتكار المشهد عبر أدوات الوطني القديم، كان لها تأثيرات عكسية على الشارع، الأمر الذي أثار تخوفات السلطات من عزوف الشعب عن الحزب الذي صُنع خصيصًا لجمع الناس على تأييد ودعم الرئيس.
ولعل ما حدث في انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة ومشاهد الفساد السياسي التي صدرها الحزب، كان لها دور كبير في مقاطعة المصريين للماراثون الانتخابي، فضلًا عن حالة الغضب العامة التي عمت منصات السوشيال ميديا، الأمر الذي دفع النظام إلى البحث عن بديل، أو على الأقل منافس ومكمل لهذا الحزب، يمكن اللجوء إليه وقت الأزمات، شريطة أن يكون من الشباب صغير السن حتى يُضمن ولاءه التام.
ظهور مفاجئ
في يونيو/حزيران 2018 وبينما كان إعلام السيسي يستعرض إنجازاته السنوية تم الإعلان وبصورة مفاجئة عن ظهور كيان سياسي جديد يحمل اسم “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” ويضم 25 حزبًا سياسيًا، ونحو 11 من الشباب السياسيين من الوجوه المعروفة سلفًا، رافعة شعار “تحيا مصر”.
أثار ظهور هذا الكيان الكثير من التساؤلات لا سيما بعد الترويج له على أنه تنظيم معارض يستهدف إرساء معالم الديمقراطية وتعزيز مؤشراتها ميدانيًا، إلا أن الأمور سرعان ما تكشفت، حيث كانت تعقد الاجتماعات في مقر وزارة الشباب والرياضة وبحضور الوزير الأسبق خالد عبد العزيز الذي كان أحد أبرز الداعمين لهذا الكيان والمعروف قربه الشديد من الرئيس.
يتصدر مرشحو التنسيقية لعضوية البرلمان العديد من الوجوه المعروفة لدى الشارع المصري قبيل مظاهرات 30 من يونيو/حزيران 2013، بعضهم من قياديي حركة “تمرد” الممولة من الإمارات لإجهاض الثورة المصرية
فيما ذهبت مصادر أخرى إلى أن بعض الاجتماعات الأخرى كانت تعقد في مقر جهاز المخابرات العامة، وكان يشرف عليها المقدم أحمد شعبان، ذراع مدير المخابرات عباس كامل، والمسؤول عن ملف الإعلام وتوجيهاته الذي ذُكر اسمه أكثر من مرة في بعض التسريبات التي بثتها قنوات المعارضة في الخارج.
ورغم غياب السند القانوني لتشكيل هذا التنظيم، فلا هو حزب سياسي ولا جمعية تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، فإنه كان حرًا طليقًا في ممارسة أنشطته السياسية والدعائية، الداعمة شكلًا ومضمونًا لتوجهات النظام، في الوقت الذي كان تمنع فيه العديد من الأحزاب المعارضة من ممارسة أي نشاط لها رغم وضعيتها القانونية السليمة، وهو الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن الجهة التي تقف خلف هذا الكيان وتحميه من الملاحقات الأمنية.
تمكين الشباب
لم يكن اختيار الشباب المنضم للتنسيقية اختيارًا عشوائيًا، بل كان على أسس ذات طابع خاص، حيث يتم اختيارها على أعين الأجهزة الأمنية، هذا بجانب عقد العديد من الدورات لتأهيلهم وفق أجندات السلطة، تزامن ذلك مع البرنامج الرئاسي لتمكين الشباب الذي أقره السيسي قبل عامين تقريبًا.
وبعد أشهر قليلة من تدشين التنسيقية عين الرئيس 6 من أعضائها الشباب نوابًا للمحافظين (عمرو عثمان نائبًا لمحافظ بورسعيد، حازم عمر نائبًا لمحافظ قنا، هيثم الشيخ نائبًا لمحافظ الدقهلية، بلال حبش نائبًا لمحافظ بني سويف، محمد موسى نائبًا لمحافظ المنوفية، إبراهيم الشهابي نائبًا لمحافظ الجيزة)، هذا بخلاف تقليد آخرين بعض الوظائف التنفيذية والقيادية، وتكشف الأمر بصورة أوضح خلال انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة، حين حصلت التنسيقية على 5 مقاعد ضمن تحالف “القائمة الوطنية” الذي قاده حزب “مستقبل وطن” وهم: محمد عزمي عن حزب الحركة الوطنية المصرية ومحمد عمارة عن حزب الشعب الجمهوري ومحمود فيصل عن حزب حماة الوطن وعمرو عزت عن حزب التجمع ومحمد السباعي عن حزب مصر الحديثة.
وفي الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها نهاية أكتوبر الحاليّ ونوفمبر القادم تم الدفع بـ26 شابًا من الأعضاء ضمن القائمة الوطنية “من أجل مصر” التي من المتوقع أن تكتسح في ظل غياب شبه تام للمنافسة اللهم إلا تحالف واحد فقط تحت مسمى “نداء مصر”.
ويتصدر مرشحو التنسيقية لعضوية البرلمان العديد من الوجوه المعروفة لدى الشارع المصري قبيل مظاهرات 30 من يونيو/حزيران 2013، بعضهم من قياديي حركة “تمرد” الممولة من الإمارات لإجهاض الثورة المصرية، مثل محمود بدر عضو البرلمان المنتهي ولايته ومحمد عبد العزيز وطارق الخولي، إضافة إلى الصحفية بالأهرام، المقربة من جهاز المخابرات، أميرة العادلي.
ورغم التباين الظاهر نسبيًا في توجهات التنسيقية وحزب مستقبل وطن، فإن بعض السياسيين يرون أن كلاهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يكمل الديكور السياسي المطلوب للمشهد، أحدهما يؤدي دور الظهير السياسي للنظام والآخر الظهير الشبابي، بحيث يحكم السيسي قبضته على المشهد بأكمله ويسعى لافتتاح مدرسة سياسية جديدة من الشباب المؤدلج القادر على تنفيذ أجنداته على أكمل وجه.