في قرية تسمى طغل، بقلب خلافة سكتو الإسلامية التي تسمى نيجيريا حاليًّا خرجت للنور فتاة من صلب الشيخ المجاهد عثمان بن فودي مؤسس الخلافة الإسلامية في غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر، استطاعت في وقت قصير أن تصبح حديث الناس، لتتحول بعد سنوات قصيرة إلى أشهر نساء الفولاني (شعوب غرب ووسط إفريقيا والساحل الإفريقي)، على مر التاريخ.
ولدت نانا أسماء عام 1793 لأسرة تتوارث العلم كابر عن كابر، في بيت عُرف بالذكاء وغزارة المعرفة والتعمق في بحور الفقه والعلوم الشرعية والدينية، وكانت توأم لشقيقها حسن، وتوقع الجميع أن يسميها والدها اسمًا يناظر اسم ولده، كـ”حسينة” مثلًا، لكنه استقر في النهاية على أسماء، تبركًا بالصحابية الجليلة أسماء بنت أبو بكر الصديق (ذات النطاقين)، آملًا أن تحذو حذوها في نصرة الإسلام ورفعة شأنه.
وبينما لم تبلغ التاسعة من عمرها أتمت حفظ القرآن عن ظهر قلب، لتبدأ رحلة جديدة من التبحر في دراسة العلوم الإسلامية على يد والدها وعمها الشيخ عبد الله بن فودي، الذي استعان بأكبر مشاهير العلم في الخلافة وقتها لتعليمها العلوم الشرعية والدنيوية كافة، بجانب علوم الأدب والشعر.
لُقبت بـ”الخنساء” لدورها الكبير في تعليم وتثقيف النساء ببلادها، فكانت منارة العلم التي يهتدي بها السيدات اللائي لم ينلن حظهن من التعليم، هذا بجانب أنها كان المرجعية الدينية والثقافية لهن، فاستحقت عن جدارة أن يطلق اسمها على عشرات المدارس والكيانات التعليمية في نيجريا حتى اليوم تخليدًا لإسهامتها الجليلة.. فماذا نعرف عن تلك القلعة الإفريقية الشامخة؟
مسؤولية مبكرة
التزمت نانا أسماء مكتبة والدها الثرية بكل أنواع المؤلفات وشتى العلوم والمعارف حتى استطاعت في سنواتها الأولى التزود بأنواع العلوم كافة، ما أهلها بعد ذلك للقيام بمسؤولياتها التي ألقيت عليها مبكرًا بسبب الظروف السياسية والأمنية التي كانت تمر بها بلادها.
في هذا الوقت نشبت حروب أهلية مدمرة، أودت بحياة آلاف القتلى وعشرات الأضعاف من الجرحى والمصابين، وهناك انبرى الوالد المعلم للدفاع عن الحق، وواجه الحكام وأسدى لهم النصيحة وطالبهم بتحكيم شرع الله والانتصار لمصلحة الشعب وعدم الاستقواء عليه، فتحول إلى رمز الجهاد الأول في البلاد.
الشهرة الفائقة التي حظي بها الشيخ عثمان أثارت حفيظة الحكام، ما دفعهم لنفيه وطرده خارج وطنه، وهنا وجدت البنت الصغرى التي لم تتجاوز الـ11 وقتها نفسها في مأزق كبير، هل تلحق بوالدها لا سيما أنها فقدت والدتها “ميمونة” وهي ابنة العامين، وبالتالي ليس لها ما يبقيها دون أبيها.. لكنها اختارت البقاء.
وبعد ظهور دعوات الجهاد ضد ظلم الحاكم، نظمت أسماء مجموعة من النساء ليؤدين دور المؤازة في الجهاد أسوة بالصحابيات الجليلات مثل نسيبة وخولة في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقمن بدور محوري في تضميد جراح المجاهدين وإعداد العدة لهم، بل وصلت بعضهن إلى المشاركة بالسيف مع المقاتلين.
وفي هذا التوقيت كانت نساء البلدة يعانين من الجهل وعدم المعرفة وغياب الوعي والبطالة، فرأت أسماء أن تؤدي دورها في النهوض بهن، فأقامت حلقات التعليم والتعلم، وبدأت في تعليمهن القراءة والكتابة ثم القرآن الكريم وعلوم الفقه والتجويد، حتى تخرجت على يديها مئات الدارسات.
هذا بجانب تعليمهن بعض الحرف اليدوية والصناعات البسيطة التي ساعدتهن على تحسين مستوى معيشتهن والإنفاق على أسرهن في وقت كان يعاني فيه الرجال من تفشي البطالة وقلة الموارد، الأمر الذي أحدث ثورة نسائية كبيرة في البلاد.
لم تقف العالمة الشابة في تعليم النساء على أبناء قريتها فحسب، بل دفعت ببعضهن إلى القرى والمناطق المجاورة لتعليم النساء هناك، وبطريقة انشطارية أظلت البلدة بأكملها بسحائب العلم والثقافة والوعي، كل هذا كان بفضل إيمان ابنة الشيخ بأهمية العلم ومسؤوليتها تجاه بني جلدتها ودورها في النهوض بوطنها.
وفي عام 1807 تزوجت العالمة الفقيهة من العالم عثمان قطاطو بن ليم أحد أكبر العلماء في عصره وابن الوزير الأعظم لخلافة سكتو الإسلامية، له من المؤلفات ما يزيد على 40 كتابًا، وفي عام 1810 أنجبت منه ابنها الأول عبد القادر ثم أحمد بعده بعشر سنوات، وفي عام 1829 أنجبت ابنها الثالث عثمان ثم عبد الله وأخيرًا محمد.
الشاعرة الفقيهة
لم تقتصر أسماء على تعلم العلوم الشرعية وفقط، بل بزغ نجمها كأديبة وشاعرة مفوهة منذ نعومة أظفارها، ففي سنها الصغيرة كانت تجيد نظم الشعر وقراءته، هذا بجانب أنها كانت تتبع أسلوبًا بديعًا من التعليم عن طريق أبيات الشعر، فكانت المحاضرة التي تلقيها على مسامع الفتيات أشبه بسوق عكاظ.
في بداية مشوارها الشعري ارتأت الفقيهة الشابة كتابة القصائد ذات الطابع الديني، حيث ذكر فضائل الصحابيات والتابعات، ثم انتقلت إلى الأشعار التي تلقي الضوء على سير العالمات والفقيهات في البلدان المجاورة، وصولًا إلى الأشعار العادية التي كانت في أغلبها تتأرجح بين المدح والرثاء.
كما تفوقت في كتابة المقالات، فأثرت الساحة الثقافية بعشرات الأعمال الإبداعية التي نشرت في عدد من الصحف منها صحيفة “تنبيه العاملين”، هذا بجانب مقالاتها المميزة في “خصائص سور القرآن الكريم”، الأمر الذي وضعها على رأس صفوة أدباء ومثقفين عصرها.
وعلى مدار حياتها كتبت نانا قرابة 60 عملًا أدبيًا ودينيًا، بجانب مجموعة كبيرة من القصائد الشعرية بعدد من اللغات (العربية ولغة الهوسا والفولا) هذا بجانب بعض الروايات التاريخية والمرثيات والوعظ التي خلدت اسمها بعدما تحولت إلى أدوات لتعليم المبادئ الأساسية للقيم والأخلاق للباحثات عن التعلم.
وفي سن الـ27 عامًا باتت أحد من يشار لهم بالبنان في نشر تعاليم الإسلام وثقافته، مرسية القواعد الأولية للسنة النبوية المطهرة، فكان مؤلفها الشهير “تنبيه الغافلين” الذي جاء في بابه الرابع في بيان المتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي: “وهي الإيمان بجميع ما جاء والطاعة له في ذلك والتزام محبته بالاقتداء به في أقواله وأفعاله وأخلاقه وإخلاص النية في ذلك، ومن علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، باجتهاد في تصحيح الإيمان وعلم جميع ما أوجبه الله عليه أولًا ثم يلتزم التوبة في كل ذنب ظاهر وباطن ليحصل له الطاعة وقبولها…”.
ونظرًا للدور الذي قدمته لإثراء المكتبة الأدبية والدور الذي قامت به للنهوض ببلدتها وتحفيز الفتيات على التعلم، كانت موضوع العديد من الدراسات والرسائل العلمية، منها “نانا أسماء 1793-1865: معلمة وشاعرة وقائدة إسلامية” (1989) لجان بويد، و”جهاد امرأة واحدة: نانا أسماء، باحثة وكاتبة” بقلم بيفرلي ماك وجان بويد (2000) بجانب “ابنة عثمان دان فوديو 1793-1864” لبويد وماك عام 1997.
ومع بلوغها سن الأربعين، عُينت أسماء في منصب “عور غري” أي رئيسة اتحاد النساء بلغة هذا العصر، وذلك عام 1832م، كما أسست أكبر منظمة نسوية تحت مسمى “يان تارو” تضم نخبة سيدات خلافة سكتو لخدمة الدين وقضايا النساء، وما تزال هذه الجمعية باقية حتى اليوم بذات الأنشطة والأهداف.
كانت آخر حلقات تكريمها إنشاء جامعة تحمل اسمها تحت مسمى “جامعة نانا أسماء للعلوم الطبية” في سوكوتو (شمال غرب نيجيريا)
شمس لا تغيب
توفيت أسماء عام 1864م، وشهدت جنازتها حضور أمواج مهيبة من كبار رجالات الدولة ومن النساء والرجال ممن آمنوا بها وبدروها وبما قدمته من خدمات جليلة لمجتمعها طول سنوات حياتها، تاركة خلفها إرثًا علميًا هائلًا، قرابة مئة من أحفادها من حملة الدكتوراة أشهرهم البروفسور الوزير سمبو جنيدو والبروفسير أمين عابدين والبروفسير أحمد بلو غطاطاوا والدكتور عبد الله بخاري.
كما حظيت حياتها الثرية بالعلم والبحث والجهاد باهتمام عدد كبير من الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم خاصة أوروبا وغرب إفريقيا، وتشير بعض التقديرات أن ما يزيد على 100 ورقة بحثية ومقال كُتب عنها، هذا بجانب ما يقارب 60 مؤسسة من كليات ومدارس ومستشفيات وجمعيات وغيرها تحمل اسمها تخليدًا لذكراها.
وكانت آخر حلقات تكريمها إنشاء جامعة تحمل اسمها تحت مسمى “جامعة نانا أسماء للعلوم الطبية” في سوكوتو (شمال غرب نيجيريا)، حيث أصدر محافظ الولاية تعليمات لتوفير الأرض المناسبة عام 2019 لبدء تدشين هذا الكيان العلمي الذي من المتوقع أن يكون علامة مضيئة في سماء القارة تخلد اسمها لتتناقله الأجيال، جيل بعد جيل.