تشهد منطقة الساحل الإفريقي إقبالًا دوليًا مكثفًا في هذه الفترة، ودخول لاعبين جدد إلى الساحة لم تعهدهم المنطقة المحتكرة فرنسيًا بالدرجة الأولى لحسابات تاريخية وسياسية واقتصادية، وأمريكيًا بدرجة ثانية، إلا أن دخول دول مثل السعودية والإمارات والصين وتركيا، أثار العديد من الشكوك والأسئلة عما يحاك للمنطقة، خاصة بعد انقلاب مالي الأخير الذي دق ناقوس الخطر في المنطقة، وأكد أنها مقبلة على مرحلة خطيرة من الصراع والتنافس الدولي بشأنها.
أسباب الصراع
تتكون دول الساحل الإفريقي من تسع دول هي: مالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو ونيجريا والكاميرون وإفريقيا الوسطى والسنغال، ويبلغ مجموع سكان هذه الدول أكثر من 100 مليون نسمة، وتمتلك ثروات هائلة من يورانيوم النيجر وثروات موريتانيا الحيوانية ومياه نهر السنغال وذهب نيجريا والأراضي الصالحة للزراعة التي تقدر بأكثر من 35% ونهرين في النيجر والسنغال وصحراء شاسعة يمكن استصلاحها، ناهيك عن النفط والغاز الذي تم اكتشافه مؤخرًا في المنطقة، إلا أنه على الرغم من كل تلك الثروات والتعداد السكاني تعد المنطقة من بين أكثر المناطق فقرًا وأميةً في العالم، خاصة دولها الأربعة: موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد.
كما عانت وما تزال تلك الدول من الحروب والصراعات كما هو الحال في مالي، التي لم تهدأ منذ أزمة عام 2012 وصولًا إلى انقلاب أغسطس/آب 2020، وكحال تشاد التي عاشت ربع قرن من الحرب الأهلية، يضاف إلى ذلك كثرة النازحين والمهاجرين، حيث يشير تقرير صادر عن اللجنة الدولية للصليب في سبتمبر/أيلول الماضي إلى نزوح أكثر من مليون ساكن من منطقة الساحل الإفريقي. كل تلك الأسباب مجتمعة جعلت المنطقة محط أنظار الجميع ولقمة يستسهل الجميع ابتلاعها.
التدخل الفرنسي في منطقة الساحل
تعتبر أغلبية الدول في المنطقة مستعمرات فرنسية سابقة، حيث نالت معظمها استقلالها عام 1960 إلا أنها في الحقيقة ظلت تحت السيطرة الفرنسية سياسيًا عن طريق دعم الانقلابات العسكرية وتغيير النظم السياسية المتعاقبة على حكم البلدان.
واقتصاديًا عن طريق استغلال الثروات واحتكار الشركات الفرنسية للأسواق وللثروات الطبيعية من الذهب واليورانيوم، وذلك بخلاف التحكم في حياة المواطن الإفريقي من خلال الفرنك الفرنسي الذي يعتبر العملة في العديد من البلدان، وبطبيعة الحال لم يسلم الجانب العسكري أيضًا من الهيمنة الفرنسية، فالقواعد العسكرية الفرنسية موجودة في كل من مالي والنيجر.
التدخل الأمريكي
بدأ الاهتمام الأمريكي بمنطقة الساحل عمومًا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها من تداعيات أبرزها وثيقة الأمن القومي الأمريكي الشهيرة في 20 من سبتمبر/أيلول 2002 التي نصت على ضرورة وضع السياسة الأمريكية منطقة الساحل الإفريقي نصب عينيها، وبدأ العمل جديًا منذ تلك اللحظة، فجاءت عدة مبادرات أبرزها “مبادرة بان ساحل” عام 2002 لمكافحة الإرهاب في المنطقة، ثم تلتها مبادرة “مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” عام 2005، ثم مشروع “الأفريكوم” عام 2007، وهي قيادة عسكرية أمريكية رسخت مفهوم الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا ومنطقة الساحل خاصة.
ثم جاء التدخل الأمريكي تحت غطاء محاربة الإرهاب مع بروز جماعات مسلحة كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي وجماعة بوكو حرام التي عززت نشاطها في نيجريا ودول الجوار، في تكرار مشابه لسيناريو الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، والغريب أن التحركات الأمريكية جميعها جاءت بالتزامن مع تداعيات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
التراجع الفرنسي واللعب الأمريكي
جاء انقلاب مالي الأخير في أغسطس/آب الماضي بمثابة الطعنة في ظهر فرنسا، مؤكدًا عمق الفجوة بين الحليفتين (واشنطن وباريس) في الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل، ليشير في الوقت نفسه إلى قوة النفوذ الأمريكي مؤخرًا على حساب النفوذ الفرنسي التاريخي.
ففي الوقت الذي تحدثت فيه صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية الشهيرة عن تراجع الدور الفرنسي في مالي وعن طعنة في ظهر فرنسا خلال الانقلاب الأخير في البلاد بعد سبع سنوات من حربها ضد الجماعات المسلحة في الشمال المالي، حاول خلالها الإليزيه إيهام الشارع الفرنسي بأن الغرب الإفريقي وبلدان الساحل لا تزال تحت السيطرة.
كما نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرًا صادمًا للبيت الأبيض ولباريس وماكرون، كشفت فيه تلقي قائد الانقلاب الأخير العقيد أسيمي غونتي تدريبات في الولايات المتحدة الأمريكية، واستندت الصحيفة الكبيرة إلى تصريحات عسكريين من “البنتاغون”.
تقرير “واشنطن بوست” وإن كشف معلومات عن قائد الانقلاب العسكري في مالي، فقد كشف أيضًا مدى تعاظم الدور الأمريكي هناك والرغبة الأمريكية في بسط النفوذ على حساب الحليف ذي الوزن الثقيل جدًا في القارة عامة ومالي خاصة (فرنسا).
النفوذ الصيني
لعلها الدولة الأكثر قبولًا عند معظم الدول الساحلية الإفريقية من خلال قوتها الناعمة الممثلة في التجارة والبضائع والمشاريع التنموية، فالصين اليوم من أكثر دول نشاطًا وتعاونًا مع دول الساحل، فهي تعد اليوم ثالث مستورد للنفط في العالم والفضل في ذلك يعود للقارة الإفريقية، حيث تستهلك 30% من نفطها، وذلك عدا عن احتكار البضائع الصينية للسوق الإفريقية مقارنة بأمريكا وحتى فرنسا ذات النفوذ القوي هناك.
يرى الدكتور وائل علي في حديث لـ”نون بوست” أن الصين بدأت تتجاوز فرنسا في النفوذ الاقتصادي في القارة، على الرغم من أن باريس هي التي مهدت لبكين الدخول إلى هناك”.
الدور السعودي والإماراتي في منطقة الساحل
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ أدى وزير الدولة السعودي للشؤون الإفريقية أحمد قطان زيارة لثلاث دول من دول الساحل هي موريتانيا والنيجر ومالي، زيارة رأى فيها موقع “موند آفري” الفرنسي الشهير محاولة سعودية لوضع رجل لها خاصة في مالي وهي المدعومة برجال الدين هناك وعلى رأسهم الرئيس السابق للمجلس الإسلامي والرجل الأشهر في مالي الإمام ديكو.
زيارات متأخرة تؤكد رغبة المملكة في إيجاد مكان لها في تلك المنطقة عن طريق شراء ذمم الحكومات ودعم رجال الدين وهي السياسة التي طالما اعتمدتها المملكة العربية السعودية، غير أنها لم تعد تجدي نفعًا في الفترة الأخيرة.
“الاستثمارات السعودية والأموال الضخمة لم تنجح في استمالة حكومات وشعوب المنطقة لدعم السعودية في حصارها ضد قطر، فباستثناء موريتانيا رفضت تلك الدول قطع العلاقات مع الدوحة”، كان ذلك رأي الصحفي النيجيري عمر أبو الفتح في تصريحه الخاص لـ”نون بوست”، أما الباحث والمختص في الشأن الإفريقي وائل علي وفي تصريح يرى أن “المشروع السعودي في المنطقة غير واضح الملامح وهدفه الأساسي مواجهة المشروع التركي هناك”.
بعد الدور السعودي في المنطقة الذي لم يكلل بالنجاح يأتي دور آخر هو دور الحليفة الإمارات العربية المتحدة التي تعتمد نفس الإستراتيجية السعودية (المال ورجال الدين)، ولعل دولتا موريتانيا والسنغال تعدان الأكثر حضورًا في النفوذ الإماراتي وضخًا للأموال التي ليس آخرها إعلان بناء مستشفى إماراتي جديد في موريتانيا ودعم مشاريع تنموية في البلاد، إلا أن الإستراتيجية الإماراتية لم تنجح حتى الآن في استمالة الدول الإفريقية إلى مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تبنته الإمارات مؤخرًا، كما ترددت أنباء مؤخرًا عن رغبة الإمارات في إنشاء قاعدة عسكرية بمنطقة دول الساحل والصحراء وهو ما قد يشعل حربًا طويلة الأمد في المنطقة لو تم.
تركيا لاعب جديد في المنطقة
بدأت تركيا وتحديدًا قبل عقد من الزمان بوضع إستراتيجية جديدة تجاه دول الساحل، فبدأت بإقامة سفارات مع دول كالنيجر وتشاد عام 2012، ناهيك باحتكار البضائع التركية مؤخرًا للسوق الموريتانية، ثم إنشاء مطار جديد في السنغال ودعم حكومة مالي ونيجريا، ضمن إستراتيجية النفع المتبادل والمصالح المشتركة وهو ما جعلها تحظى بقبول الشعوب والحكومات هناك وهو أيضًا ما أثار حفيظة وتحركات المسؤولين في أبو ظبي والرياض وجعلهم يتحركون بأقصى سرعة لمواجهة المشروع التركي هناك الذي تكلل بالنجاح في الفترة الأخيرة.
نستخلص مما سبق أن الصراع بشأن دول الساحل وفيها قد احتدم واشتد بين دول النفوذ القديمة: فرنسا وأمريكا والصين واللاعبين الجدد والمتنافسين ممثلين في السعودية والإمارات في مواجهة تركيا الصاعدة مع الصين على رأس قمة النفوذ في دول الساحل، في تنافس لو تجاوز حدوده فسيحول دول الساحل إلى شرق أوسط إفريقي جديد قد يكون أخطر من الشرق الأوسط الحقيقي.