حملة قمع عنيفة، بطش يصل حد الجنون ضد جميع مكونات المجتمع الإيراني، وخاصة النسويات ونشطاء حقوق المرأة، لاتدع لهن السلطة أي منفذ للتمرد على سقف الحريات المنخفض، وانتهاك كرامتهن بالتوسع في عقوبات الجلد والسجن والإذلال، ولكن رغم ذلك يبدو أن هناك روح جديدة تسرى في النساء، تدفعهن للإصرار على تصدر فئات المجتمع التي تطالب بإصلاحات حقيقية قبل الانحراف للجحيم، ولكن كيف وبأي طريقة وما رد النظام !
العنف مظهر قوة
يعتبر النظام الإيراني تجاهل حقوق الإنسان مظهر قوة، يرد بهذه الفلسفة على محاولات الغرب طعن طهران بكارت الانتهاكات الحقوقية، وكلما ارتفع صوت الاحتجاج وصداه في الخارج، زادت حملات قهر النشطاء وهو ما ترصده المنظمات الحقوقية الدولية، وتكشف عن مدى العنف الذي وصلت إليه قناعات السلطة في ضرب كل التنظيمات المدنية والإجهاز عليها.
توضح منظمة العفو الدولية، كيف تستخدم قوات الأمن القوة المميتة لسحق الاحتجاجات، وتؤكد قتل مئات المحتجين واعتقال آلاف الأشخاص بشكل تعسفي، تضع المنظمة عدسات مكبرة على الأوضاع داخل البلاد منذ بداية العام الماضي، مرورا باجتياح جائحة كورونا للمجتمع الإيراني، وكيف أثر ذلك على انتهاج إجراءات أكثر ظلامية ضد المواطن الإيراني.
تحتجز السلطات تعسفياً أكثر من 200 ناشط وناشطة في مجالات حقوق الإنسان والمرأة منذ العام الماضي فقط، وفرضت على الكثير منهم أحكاماً مشددة بالسجن والجَلد، والأخير يأتي وفقا لقانون جديد يرد على التمرد الواضح للمرأة الإيرانية خلال السنوات القليلة الماضية، وخروج بعضهن ينادي بالحريات الخاصة عبر آليات مبتكرة وأكثر جرأة في الاحتجاج على القمع المنظم في البلاد.
وكما هو معروف، لاتواجه إيران التمرد إلا بالعنف المفرط، تستثمر في “سيستم أبوي” كامل وكهنوتية لامثيل لها في العالم، والمرأة تحديدًا عقابها جاهز دائما إذا ما خرجت عن المألوف وقررت المواجهة بحثا عن حقوق لاتناسب مقاسات السلطة.
سرين سُتوده، المحامية البارزة في مجال حقوق الإنسان في إيران، كانت أبرز ضحايا هذه المفرمة العام الماضي، حُكم عليها بـ74 جلدة بسبب ظهورها علنا دون غطاء رأس، وبـ74 جلدة أخرى بسبب نشرها ما اعتبرته السلطة معلومات كاذبة، تسببت في إزعاج الرأي العام، بحسب الادعاء القضائي ضدها.
طبق على “ستودة” عقوبة الجلد بالفعل، ما أثار غضبا دوليا، بجانب تنفيذ الحكم عليها بالسجن 33 عامًا، بسبب عدم استجابتها للتحذيرات الحاسمة من السلطة، والتي وضعت لها خطأ أحمر، وهو تبرير خلع النساء غطاء الرأس في الأماكن العامة، وهي تجاوزات أخلاقية في عرف النظام الإيراني ولايتساهل مطلقًا معها.
بحانب الحقوقية الشهيرة، شددت السلطات من محاصرتها لزميلاتها المدافعات عن حقوق المرأة، وخاصة من يناضل منهم ضد قوانين الحجاب الإلزامي، وتزيد العقبوات كلها كانت الناشطة تنتمي إلى أقليات عرقية أو دينية حتى لايمتد التمرد إلى ما هو أبعد من الخطوط الاجتماعية.
الخوف من تمرد المرأة .. لماذا ؟
بشكل عام كلما تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في إيران، تضغط السلطات لمنع أي تجمعات احتجاجية، ترفض الجهات الأمنية التي تسهر على حماية النظام، التساهل مع هذه الثقافة التي ولدّت من قبل أكبر ثورة مثيرة للجدل في العالم، خلال سبعينات القرن الماضي.
في كل مناسبة بدا فيها روح احتجاجية، حرصت السلطات بمنتهى الحسم على إيصال موقفها للجميع: “سنسحق الاحتجاجات بلا رحمة” بالنسبة للسلطة، لا مجال لإبقاء حماس الإيرانيين للتغير مشتعلا، ولهذا كان موقفها من المظاهرات التي اندلعت بين عامي 2018 و2019 ردا على المظالم الاقتصادية واضحًا، وسحقت الانتفاضات بلا رحمة.
المتابع لخط سير الاحتجاجات الإيرانية، سيجد أن الدولة لاتتساهل مع الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية ردا على شظف العيش ورفضا للعيش الدائم تحت سقف العقوبات الدولية المفروضة على النظام الإيراني، ولكنها تتشدد أكثر هناك حيال التظاهرات النسائية والتمرد على الكود الاجتماعي الذي وضعته الثورة الإسلامية التي شكلت أيدلوجيا النظام.
والتوتر بين الإيرانيات ونظام الملالي، يرجع إلى لحظة الثورة نفسها، التي تجمع فيها عشرات الآلاف من النساء الإيرانيات في شوارع طهران يوم 8 مارس 1979 عقب الإطاحة بالشاه.
نجحت الثورة في 11 فبراير 1979، وبعد شهر واحد فقط أعلنت الإذاعة الوطنية إلزام النساء العاملات في القطاع العام بارتداء الحجاب، وهنا بدأ الشعور يتسرب وخاصة للناشطات التي قادت الإيرانيات إلى المشاركة في الثورة ضد الشاه، أن الحراك أصبح ينقلب ضدهن وقد يبدو حلم الحرية ودولة المواطنة والمساواة من مستحيلات الواقع.
قادت الاجتجاجات أنذاك مجموعة من رموز الحركة النسائية على رأسهم هايدة دراغاهي، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة طهران، ومينو جلالي، المحامية الشابة التي غادرت البلاد ولاتزال تعيش في منفاها بالسويد، توسع الرفض للرؤية الجديدة لإيران التي لايعرفونها ولايريدونها.
استغلت الناشطات، اليوم العالمي للمرأة في 8 مارس، لإثارة احتجاجات عارمة ضد القيود الجديدة، خرجت آلاف النساء حتى من مدينة قم، حيث يقيم الخميني، الذي كشر عن أنيابه على الفور، وأغلق الميادين أمامهن، ليستقبلهن أنصار النظام الجديد بالسكاكين والحجارة والطوب والزجاج المكسور.
أمام هذه الهجمات الشرسة، تضامنت النسويات من كل انحاء العالم مع نساء إيران، أرسلت اللجنة الدولية لحقوق المرأة برئاسة الفيلسوفة النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار وفداً تضامنياً سار وسط الاحتجاجات، وعمل على توثيقها في فيلم وثائقي نادر لايزال شاهدا على ثورة النساء في مهد الثورة الإيرانية حتى الآن.
محكمة الثورة وتدجين المرأة
بمرور الوقت نجحت الثورة الإسلامية في فرض منطقها على الشارع، اختفت التوترات بسبب براعة النظام في قمعها، كان لافتا أن المحاكم السرية للثورة التي دشنها الخميني، لمحاكمة المعارضين الأيديولوجيين للنظام، توسعت في معاقبة المتهمين بالتمرد دون إعطائهم حق الدفاع عن أنفسهم ومنهم المرأة والناشطين في حقوقها.
بحسب الأكاديمي الإيراني الدكتور ماجد محمدي: “لم تكن هناك حاجة للتحقيق فيما إذا كان الناس قد ارتكبوا جريمة، كان يكفي مجرد الوقوف ضد النظام، يضيف: هذه السياسة أغلقت المجال العام على الخميني وأنصاره، ونجحت حتى في كسر شوكة مجاهدي خلق، أقوى جماعة أيدلوجية قررت حمل السلاح ضد الحكومة، واستهدفتها بعمليات عقابية لما يقرب من 1000 مسؤول حكومي، إلا ان النظام نجح في مواجهتها وتغلب عليها تماما.
ألقي الخميني القبض على آلاف الأشخاص المشتبه في انتمائهم للمجاهدين، ومعهم المنتمين إلى اليسار وكل من اشتبه به يعارض النظام الجيدد، وأحيلوا للمثول أمام محاكم الثورة ومعهم ناشطات المرأة، على رأسهم شكوفة ساخي، الناشطة اليسارية والنسوية، التي تعرضت للضرب والاستجواب لمدة ثلاثة أشهر قبل عرضها على محكمة ثورية، آمرت بحلق رأسها، وسجنها خمس سنوات.
استمرت المحاكم الثورية في العمل بنفس الطريقة حتى منتصف التسعينيات، ولكنها بعد استقرار النظام وتوحش رجاله، سمحت للمتهمين بتوكيل محامين عنهم للحضور أثناء الاستجوابات والمحاكمات، ولكن ظلت القضايا المتعلقة بالأمن القومي تخضع لتقديرات القاضي، بما فيها التوترات الاجتماعية، التي تقف المرأة على رأسها .
مستقبل الاحتجاج النسائي في إيران
رغم القمع الواسع للنساء على مدار ثلاثة عقود، إلا ان الأعوام الماضية حملت روحا غاضبة غير مألوفة للنظام، وأصبح من سيرورات الحياة اليومية خروج النساء في مظاهرات كبرى للمطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية
ارتفع صوت النسويات وزادت اتهامتهن لرؤوس النظام بالاختباء خلف الإسلام لتبرير القهر، وكان لافتا النزعة الدينية التقدمية في آليات احتجاجهن، فرغم رفضهن للنظام الثيوقراطي إلا أنهن على وعي بالفرق بين الإسلام وبين من يدعي القتال بسيفه، ولايقبل من تفسيرات الإسلام المختلفة والمتعددة إلا تفسيرات الحكومة ونظامها القمعي.
بحسب تقديرات حقوقية، يوجد حاليا أكثر من 150 نسوية بارزة يقبعن في السجن، بسبب تزايد نشاطهن للمطالبة بحقوق المرأة، وإن كانت هناك إحصائيات آخرى تؤكد أن العدد اكبر من ذلك، ولاسيما أن الحكومة لا تقدم أرقامًا دقيقة بشأن عدد السجينات، كما تهدد العائلات بعواقب كارثية إذا أبلغوا وسائل الإعلام عن أي شيء، ومع كل شيء تؤكد الشواهد ونزعات الاحتجاج التي تتصاعد أن المرأة الإيرانية، عازمة على رمي حجر كبير في مياة النظام الآسنة، من أجل إيران حرة وأكثر عدالة وديمقراطية .