في مدينة الناقورة الحدودية حيث مقر قوة الأمم المتحدة في جنوب لبنان، جلس مندوبا لبنان و”إسرائيل” يتوسطهما ممثل للأمم المتحدة وبحضور مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر والسفير الأمريكي في بيروت جون ديروشيه، وذلك لبدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل”.
انتهت الجولة الأولى من المفاوضات التي عقدت صباح اليوم الأربعاء 14 من أكتوبر/تشرين الأول 2020، دون أي نتائج تذكر، وتم الاتفاق على عقد جولة جديدة يوم 28 من الشهر الحاليّ، وذلك بعد سنوات من النزاع بين البلدين، فيما دفعت واشنطن الأمور إلى الجلوس على مائدة الحوار بعد وساطة دامت طويلًا، شهدت فيها المنطقة الحدودية موجات من المد والجذر.
تأتي هذه الخطوة التي وصفتها واشنطن بـ”التاريخية” بعد أسابيع قليلة من توقيع الإمارات والبحرين اتفاقي تطبيع مع دولة الاحتلال برعاية أمريكية، الأمر الذي دفع البعض إلى الربط بين الحدثين، لا سيما فيما يتعلق بتعزيز الرئيس دونالد ترامب لحظوظه الانتخابية في الماراثون الرئاسي المقرر انطلاقه الشهر القادم.
وكان لبنان و”إسرائيل”، قد أعلنا بداية الشهر الحاليّ التوصل إلى تفاهمات عريضة بشأن بدء عملية التفاوض برعاية الأمم المتحدة في مدينة الناقورة، تلك الخطوة التي أثارت العديد من التساؤلات، بخصوص ما تحمله من دلالات بشأن الاعتراف اللبناني بـ”إسرائيل”، وإمكانية نزع سلاح حزب الله.
وتسعى هذه التحركات إلى وضع حد للنزاع الدائر بين الطرفين على منطقة في البحر المتوسط، تبلغ مساحتها نحو 860 كيلومترًا مربعًا، وتعرف بالمنطقة رقم 9 الغنية بالنفط والغاز، حيث أعلنت بيروت في يناير/كانون الثاني 2016، إطلاق أول جولة تراخيص للتنقيب فيها، الأمر الذي زاد من توتير الأجواء مع الجانب الإسرائيلي، ما دفع واشنطن إلى تعزيز ضغوطها لدفع الطرفين إلى الانخراط في عملية تفاوضية لترسيم الحدود البحرية بينهما.
وتتزامن تلك التحركات الدبلوماسية مع حالة الاستنفار الأمني الشديدة على الحدود بين البلدين، حيث قيام الجيش الإسرائيلي بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية (جنوب مدينة حيفا) تبدأ اليوم وتستغرق نحو 7 أيام يحاكي خلالها اندلاع حرب مع حزب الله اللبناني.
أزمة توصيف
يضم الوفد اللبناني المشارك في المفاوضات أربعة أعضاء، عسكريين ومدنيين، هم العميد بسام ياسين والعقيد الركن مازن بصبوص والخبير التقني نجيب مسيحي وعضو هيئة قطاع البترول وسام شباط، وفي المقابل يضم الوفد الإسرائيلي 6 أعضاء هم: المدير العام لوزارة الطاقة أودي أديري والمستشار الدبلوماسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورؤوفين عازر ورئيس دائرة الشؤون الإستراتيجية في الجيش.
توصيف عملية التفاوض كان مثار خلاف بين مسؤولي البلدين، حيث وصفها الجانب الإسرائيلي بـ”المباشرة” في الوقت الذي ينفي فيه اللبنانيون هذا التوصيف، في ظل وجود وسيط أمريكي يدير اللقاء ويحول دون الاتصال المباشر بين الوفدين المشاركين.
يقدر إجمالي حجم الاحتياطات البحرية اللبنانية من النفط بـ865 مليون برميل، ومن الغاز 96 تريليون قدم مكعبة
تسمية تل أبيب لسياسيين ضمن وفدها أثار هو الآخر جدلًا داخل لبنان، فبينما تسعى “إسرائيل” لإصباغ هذه الخطوة بصبغة سياسية أسوة بما حدث مع الإمارات والبحرين وما يحدث مع السعودية والسودان، يصر الجانب اللبناني على طابع التفاوض التقني، إذ أكد الرئيس اللبناني ميشال عون أن “المفاوضات تقنية والبحث يجب أن ينحصر في هذه المسألة تحديدًا”.
اللبنانيون يدخلون هذا المسار على غرار جولات سابقة من المحادثات جمعت بين البلدين، كالتي حدثت في إطار لجنة تفاهم نيسان إثر عملية “عناقيد الغضب” الإسرائيلية في 1996، أو عند مفاوضات ترسيم الخط الأزرق عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب في 2000، ولعل آخر تلك الجولات الاجتماع الثلاثي الذي يعقد دوريًا منذ حرب 2006 برئاسة قوات الأمم المتحدة (اليونفيل) وبحضور بعض العسكريين من الدولتين.
ليست جديدة
تعود تلك المفاوضات إلى عشر سنوات مضت، تناوب على الوساطة فيها 4 موفدين أمريكيين لكن دون جدوى، وفق ما ذهب عضو كتلة التنمية والتحرير (يترأسها نبيه بري) النائب محمد نصرالله، الذي أشار في تصريحاته لـ”الأناضول” أن البدء بالتفاوض ليس إلا خريطة طريق أولية تستند إلى اتفاق 1996 و1701 تحت راية الأمم المتحدة.
يذكر أن اتفاق أبريل/نيسان عام 1996 لم يكن اتفاقًا رسميًا بين “إسرائيل” وحزب الله، لكن تم التوصل إليه نتيجة الجهود الدبلوماسية لإنهاء النزاع العسكري بين الجانبين، أما قرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 11 من أغسطس/ آب 2006 فيدعو إلى وقف كل العمليات القتالية بين لبنان و”إسرائيل”.
ويسعى لبنان من وراء عملية الترسيم إلى تحقيق أكبر استفادة ممكنة من موارده المائية المتاحة، لا سيما موارد الطاقة، إذ يقدر إجمالي حجم الاحتياطات البحرية اللبنانية من النفط بـ865 مليون برميل، ومن الغاز 96 تريليون قدم مكعبة، هذا في الوقت الذي تتفاقم فيه الأوضاع الاقتصادية نتيجة الاضطرابات السياسية الداخلية، حيث بلغ إجمالي الدين العام 86.2 مليار دولار في الربع الأول من 2019.
وتعود الأزمة إلى ترسيم لبنان حدوده البحرية عام 2002، حين كلفت الحكومة وقتها أحد المراكز البريطانية لإعداد دراسة لترسيم حدود المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، بهدف البدء في إجراء عملية مسح للتنقيب عن النفط والغاز هناك.
لكن العديد من الصعوبات التي واجهت هذه الخطوة جاءت بنتائج غير دقيقة ما دفع الحكومة لإعادة إجراء دراسة محدثة أخرى، تلك التي مهدت لإقرار قانون تحديد المناطق البحرية اللبنانية عام 2011، كما وقعت بيروت اتفاقية جديدة لتعيين الحدود مع قبرص في 2010.
غير أن الأمور ازدادت تعقيدًا بعد توقيع “إسرائيل” وقبرص اتفاق ترسيم حدود بحرية هذا العام، هذا الاتفاق الذي تجاهل الاتفاق السابق بين قبرص ولبنان، الأمر الذي أدى إلى خسارة لبنان مساحة مائية تزيد على 860 كيلومترًا مربعًا، في واحدة من أغنى المناطق التي تحوي أكبر حقول الغاز الطبيعي، ما أضفى مزيدًا من التأزم.
وفي ظل تلك الوضعية الحرجة بين البلدين التي تنذر بتصعيد جديد دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة، في محاولة لتوظيفها سياسيًا لصالح إدارة ترامب، رافعة شعار الوساطة من أجل تعبيد الطريق نحو التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود بين الجانبين، مستغلة الوضع الداخلي المضطرب لبنانيًا، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي.
الثنائي الشيعي، الحزب وحركة أمل، في بيان مشترك لهما أعلنا رفضهما مشاركة مدنيين لبنانيين في الوفد، معتبرين أن ذلك يضر بموقف الدولة، كما يمثل تسليمًا بالمنطق الإسرائيلي الساعي إلى التطبيع
صعوبات وتحديات
العديد من التساؤلات تفرض نفسها بشأن تفاصيل عملية التفاوض وما يمكن أن تُفضي إليه من اتفاق محتمل، أبرزها ما يتعلق بسلاح “حزب الله” فمن المتوقع أن واشنطن وتل أبيب سيطرحان شروطًا خلال جلسات المفاوضات منها مستقبل تسليح الحزب والصواريخ الدقيقة، ونطاق عمل قوات الطوارئ الدولية، بحسب المحلل السياسي منير الربيع.
الشروط المحتمل كشفها سترتبط بشكل كبير بالتنقيب عن النفط والغاز، إذ إن التنقيب يحتاج إلى استقرار، ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل وجود سلاح من الممكن أن يزيد من وتيرة التهديد، لذا فمن وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية لا بد من إبعاد السلاح، حسب الربيع.
وفي الجهة الأخرى هناك من يرى أن ما تم إعلانه ليس إلا اتفاق إطار، وأن عملية التفاوض سيطول أمدها، ومن ثم فإن الحديث عن سلاح الحزب أمر سابق لأوانه، وهو الرأي الذي ذهب إليه الكاتب والمحلل السياسي المقرب من حزب الله، قاسم قصير، الذي أكد أنه “طالما العدو ينفذ اعتداءات، ستبقى هناك مقاومة وخيار مواجهة، أما ترسيم الحدود لا يتعارض مع الحق بالمقاومة”.
ويعد نزع سلاح حزب الله اللبناني أحد المطالب الرئيسية التي رفعها المحتجون المشاركون في تظاهرات الشارع اللبناني منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي تمثل وفق البعض معضلة رئيسية للتنمية والنهوض، في ظل ما يحمله هذا الملف من تداعيات سياسية واقتصادية على البلاد بأكملها.
الثنائي الشيعي، الحزب وحركة أمل، في بيان مشترك لهما أعلنا رفضهما مشاركة مدنيين لبنانيين في الوفد، معتبرين أن ذلك يضر بموقف الدولة، كما يمثل تسليمًا بالمنطق الإسرائيلي الساعي إلى التطبيع، مطالبين بإعادة تشكيل الوفد اللبناني المشارك بما يتوافق مع مرتكزات اتفاق الإطار، التي تحصر الاجتماعات بضباط عسكريين.
أما بخصوص النتائج المرجوة من اتفاق ترسيم الحدود المزمع، يرى العميد المتقاعد إلياس حنا أنه من الصعب أن يكون هناك انعكاسات إيجابية لتلك الخطوة على الاقتصاد اللبناني في الوقت القريب، لافتًا إلى أن الذهاب نحو التنقيب مسألة تحتاج إلى وقت لا يقل عن 5 سنوات.
إنجاز أمريكي
رغم أن الأمر من المستبعد أن يُحسم مبكرًا، كونه يحتاج إلى جولات أخرى من المفاوضات في ظل الصعوبات التي تعتري المسار برمته، فإن مجرد جلوس الطرفين على طاولة الحوار للمناقشة يعد إنجازًا كبيرًا يحسب لإدارة ترامب الساعية إلى البحث عن أكبر قدر من الانتصارات التي تعزز موقف الرئيس في الانتخابات المقبلة.
وتواصل واشنطن وساطتها بين الجانبين، إلا أن جهودها الدبلوماسية كُثفت منذ توقيع لبنان أول عقد للتنقيب عن الغاز والنفط في إحدى المناطق المتنازع عليها مع “إسرائيل” قبل عامين، الأمر الذي أرجعه البعض كورقة سياسية يمكن لترامب اللعب بها في أكثر من اتجاه، سواء في علاقته بإيران ودول الخليج من جانب أم الانتخابات الرئاسية القادمة من جانب آخر.
خبراء يرون أن ضغوط الأمريكان لأجل توقيع هذا الاتفاق قبيل الانتخابات هدفه الأساسي رغبة إدارة ترامب في إظهار أن هناك مسارًا للسلام في المنطقة، وذلك عبر هذا المسار التفاوضي بين البلدين، الذي ربما تضغط واشنطن أكثر لتجاوزه حاجزه التقني إلى المفاوضات الشاملة على غرار ما حدث مع الإمارات والبحرين، وإن كان ذلك أمرًا صعبًا في الوقت الراهن.
المشكلة الأكبر أن تلك التحركات تأتي في وقت يعاني فيه لبنان من “لحظة ضعف تاريخية” وهو ما يتوقع أن توظفه “إسرائيل” بدعم أمريكي لصالحها في المسار التفاوضي، في الوقت الذي ربما لا يأبه اللبنانيون بتلك الاجتماعات ولا ما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج، كونهم غارقين في أزماتهم المعيشية على وقع الانهيار الاقتصادي.