شعب الاينو
عند زيارة اليابان، من المؤكد أنك ستعجب بمتاجرها وأسواقها المنتشرة في كل مكان وحدائقها الممتدة ومعابدها ومراكز ممارسة اليوغا والرياضات الروحية فيها، فضلًا عن حفلات الشاي والمهرجانات والاحتفالات التي يرتدي فيها الرجال والنساء الملابس اليابانية التقليدية، لكن من الصعب أن تتعرف على شعب الاينو رغم كونه أول الشعوب التي استوطنت البلاد.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست ضمن ملف “حكايا الشعوب”، سنتطرق إلى شعب الآينو ورحلة معاناتهم الطويلة من الاضطهاد والتهميش الممنهجين من السلطات الحاكمة في اليابان لقرون حتى الاعتراف بهم قبل سنتين فقط، كما سنتحدث عن خصائصهم الثقافية ومعتقداتهم خاصة عبادتهم للدببة.
سكان اليابان الأصليين
يشير مصطلح الآينو عمومًا إلى الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة والشعر الطويل والأجساد الطويلة والضخمة، وهم مجموعة عرقية شرق آسيوية أصلية في اليابان، تاريخيًا كانوا ينتشرون في هوكايدو وأجزاء من جزيرة هونشو وجزر كوريل وساخالين (تعدان الآن جزءًا متنازعًا عليه من روسيا الاتحادية)، لكنهم يعيشون اليوم في الغالب بهوكايدو.
يمتلك رجال شعب الاينو شعرًا مموجًا وفيرًا ولحى طويلة في أغلب الأحيان، وتشير بعض التقارير إلى أن بشرة شعب الاينو بنية فاتحة وهذا يرجع إلى حقيقة أنهم يعملون في البحر وفي الرياح شديدة الملوحة طوال اليوم، أما كبار السن الذين توقفوا منذ فترة طويلة عن عملهم في الهواء الطلق غالبًا ما يكونون من البيض مثل الرجال الأوروبيين.
تحمل الكثير من المناطق في جزيرة هوكايدو الواقعة في أقصى شمال اليابان، أسماءً مشتقة من لغة شعب الاينو مثل سابورو التي تعني “نهر كبير جاف”، بلغة الآينو، بسبب موقعها بالقرب من نهر تويوهيرا، وقد أدى ارتباط هذه الأقلية بالجزيرة إلى تسميتها بـ”إيزوتشي” التي تعني “أرض الأينو”.
يستقرشعب الاينو على ضفاف الأنهار أو البحار، في المناطق التي يعتبرون أنفسهم فيها محميين من الكوارث الطبيعية
تقول بعض المراجع التاريخية إن أفراد شعب الاينو ينحدرون من مهاجرين منغوليين دخلوا الجزر اليابانية قبل عصر جومون، وقد تم تهجيرهم لاحقًا واستيعابهم تدريجيًا عندما وسع اليابانيون في فترة ياماتو أراضيهم من غرب اليابان شمالًا.
فيما تشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أن ثقافة الآينو نشأت من اندماج ثقافات جومون وأوكوتسك وساتسومون، وهي إحدى الثقافات الأثرية القديمة التي يُعتقد أنها مشتقة من ثقافات فترة ما قبل جومون في الأرخبيل الياباني.
يوجد اليوم ما بين 25 ألف و200 ألف فرد من هذه المجموعة العرقية، لكن لم يتم إجراء إحصاء دقيق لأن العديد من الآينو يخفون أصلهم أو في كثير من الحالات لا يعرفون حتى أصلهم حيث أخفاه أهلهم عنهم لحمايتهم من التمييز والعنصرية.
صيد وجمع وتبادل
في الأصل، كانت الأراضي اليابانية مغطاة بالغابات، وفي الظروف القاسية للبيئة الشمالية، كان شعب الاينو يعيشون على صيد الحيوانات وجمع الفاكهة والنباتات، حيث يتم استخدام العديد من الأدوات خلال عملية الصيد بناء على الفريسة منها الأقواس والسهام والفخاخ المعقدة (المصائد وغيرها) والخطافات وشبكات الصيد وأنظمة الحفر ومعاول النباتات والسكاكين.
بالإضافة إلى الموارد التي يتم الحصول عليها من خلال الأنشطة التقليدية، يحتفظ شعب الاينو ببعض العناصر من أجل تبادلها مع السكان المجاورين كالفراء والجلود وريش الطيور، فقد كان شعب هذه الأقلية تجارًا عظماء، حيث بنوا حياتهم على الاتصال مع السكان الآخرين وشاركوهم وتبادلوا “سلعهم” بالإضافة إلى معرفتهم.
على الرغم من أن شعب الاينو كان في الغالب يعيش على الصيد وجمع الثمار وتبادل البضائع، فقد انخرط بعض الأعضاء أيضًا في الزراعة المتغيرة، وهي طريقة تُستخدم فيها الحقول لبضعة مواسم ثم تُترك حتى لا تستنفد التربة.
يستقر شعب الاينو على ضفاف الأنهار أو البحار، في المناطق التي يعتبرون أنفسهم فيها محميين من الكوارث الطبيعية، كما أنهم يعيشون في مجتمع، مجتمعين معًا في قرى تسمى كوتان، حيث يوجد لكل أسرة مقرها (منزل)، ويتكون الكوتان في المتوسط من نحو عشرة أزواج.
كما يوجد في الآينو العديد من المباني خارج المنطقة المأهولة بالسكان، وهي عبارة عن مخازن يتم فيها تجفيف الأسماك على وجه الخصوص، وأيضا تجفيف الملابس، كما توجد فيها أقفاص للدببة والعديد من “المذابح” الرأسية التي تحمي كوتان.
يقع مدخل منازل شعب الاينو عادة في الغرب، وهو مكون من غرفة واحدة فقط، وما يميز هذه المنازل أنها لا تحتوي على مدخنة حيث يتم إخلاء الدخان من خلال الفتحات الموجودة في زاوية السقف، وتحتوي مساكن الآينو دائمًا على ثلاث نوافذ.
ينام الرجال والنساء في مساحتين منفصلتين، على مقاعد محمية بسجاجيد معلقة، فيما يجلس الزوار على حصائر من القصب على الأرض، ولتناول الطعام، تجلس الأسرة على حصائر حول المدفأة الموجودة في وسط المنزل.
احتفالات الدببة
كانت الروحانية الدين التقليدي لشعب الاينو، حيث جرت أهم طقوس على مدى عدة قرون وشملت أسر شبل الدب الذي تربى بعد ذلك كأحد أفراد الأسرة، وفي الوقت المحدد يُقتل الدب بشكل طقسي، حيث يعتقد الآينو أن روح الدب بعد موته ستضمن رفاهية مجتمعه.
ينطلق الصيادون إلى كهوف الدب في نهاية الشتاء، بينما لا تزال الدببة في حالة سبات وإذا وجدوا شبلًا مولودًا حديثًا، يقتلون الأم ويأخذون الشبل إلى القرية، حيث يربونه في الداخل كما لو كان أحد أطفالهم ويتم التعامل معه على أنه إله.
إلى جانب قطع الخشب، تميز شعب الاينو بالنسيج، حيث يعتبر التطريز عند هذا الشعب فنًا فريدًا
تقول بعض التقارير إنهم حتى يزودوا الشبل بحليب الأمهات، بعد أن يبلغ الشبل سنة أو سنتين يأخذونه في الهواء الطلق ويتم ربطه بعامود مصنوع من جذوع الأشجار، ثم يقوم الذكور في القرية بإطلاق السهام على الشبل حتى يضعف.
بعد إضعاف الدب من ضربات الأسهم العديدة وأصبح أضعف من أن يدافع عن نفسه، يقترب أحد القرويين منه ويطلق النار عليه في العنق، للتأكد من موته، ثم يتم قطع حلقه وشرب الدم، كما يتم توزيع لحمه بين القرويين، فيما توضع جمجمة شبل الدب على رمح، ثم يُعاد لفها بفراء الدب من جديد، هذه “الدمية” هي موضوع عبادة للقرويين حيث تم “إرسال” الدب إلى عالم الآلهة لجلب السعادة للأهالي.
نقش ونسيج
حافظ شعب الاينو على العديد من التقاليد وطوروها وأثروها على مر القرون، وصاغوا تنوعًا كبيرًا في المهارات والتعبيرات الفنية، من ذلك قطع الخشب، حيث يُقال إن أولاد شعب الاينو يصبحون رجالًا فقط عندما يكونون ماهرين في فنون الصيد وصيد الأسماك وقطع الأخشاب أيضًا.
ويعتبر فن قطع الأخشاب أحد طقوس العبور إلى مرحلة البلوغ، ولا تزال أدوات وأثاث الآينو الجميلة محفورة إلى الآن في الجزيرة، وجدير بالذكر أن الأداة الوحيدة التي كان يستخدمها الآينو هي “ماكيري” وهي قريبة من السكين.
إلى جانب قطع الخشب، تميز شعب الاينو بالنسيج، حيث يعتبر التطريز عند هذا الشعب فنًا فريدًا، لدرجة أنه تم تمثيلها لحماية المالكين الأصليين من تدخل الأرواح الشريرة (المرض، العفن، الإصابة، الموت)، ويصنع الآينو ملابسهم من ريش الطيور وألياف اللحاء.
لحى وأوشام.. وأساطير
بعد سن معينة، يتجه رجال الآينو إلى عدم الحلاقة والسماح لشعرهم بالنمو بحرية، وهو ما يميزهم عن باقي سكان المنطقة، وفي نفس الفترة، يحصلن النساء من جانبهن على الوشم وتكون الأجزاء الموشومة عادة، الذراعين والفم والشفة العليا وأحيانًا الجبين لأنها أكثر الأجزاء وضوحًا.
يتم اللجوء إلى الوشم وتلك الأماكن بالتحديد لتخويف شيطان المرض، بحيث عندما تأتي الشياطين، وتجد أن نساء الآينو قد تم تمييزهن بنفس الطريقة، يعتقدون أنهم آلهة ويهربون على الفور، وعندما تكبر المرأة ويضعف بصرها، يتم تشجيعها على إعادة الوشم على فمها وذراعيها لاستعادة صحتها.
عندما يتفشى المرض في إحدى القرى، كانت النساء يتجمعن ويوشمن بعضهن البعض مرة أخرى لمكافحة المرض بما يسمونه “رائحة الوشم”، وتحذر نساء قرى الآينو بناتهن من أن الزواج دون وشم يعد خطيئة كبرى، وإذا تزوجت إحداهن دون وشم فإنها ستموت وتذهب إلى الجحيم حيث تأخذ الشياطين سكاكين كبيرة ويقومون بعمل الوشم مرة واحدة، وفق أساطيرهم.
من التهميش إلى الاعتراف
يعيش الآينو حاليًّا مثل الهنود الحمر، حيث عانوا الكثير طيلة عقود عديدة نتيجة ممارسات اليابانيين، وعلى الرغم من أن هوكايدو يُنظر إليها الآن على أنها جزء لا يتجزأ من اليابان، فإنها ظلت خالية من الحكم الياباني حتى القرن التاسع عشر، بعد تقلد الإمبراطور ميجي الحكم عام 1867، تحولت اليابان إلى الصناعة بسرعة وبدأت في التوسع الإمبراطوري، وقد كانت هوكايدو أول مكان يُطالب به ميجي وقد تم ضمها فيما بعد.
بدأ اليابانيون في استعمار أراضي الآينو، وعلى الرغم من المقاومة المسلحة، فقد السكان الأصليون معظم أراضيهم التقليدية، وفي النهاية أعيد توطينهم في أقصى شمال الأرخبيل الياباني، وهناك كان يُنظر إليهم على أنهم حاجز ضد الغزوات المحتملة من الروس في الشمال.
لم تكتف السلطات اليابانية بذلك، حيث رأت أن فرض سيطرتها على ممتلكاتها الجديدة، بحاجة إلى استيعاب الشعوب هناك، حيث تم منع شعب الآينو من استخدام لغتهم وأجبروا على التحدث باللغة اليابانية، وأجبروا على التخلي عن تقنيات الزراعة والصيد وصيد الأسماك التقليدية، كما مُنعوا من ممارسة ثقافتهم القديمة بأي شكل من الأشكال.
كما تم تجريد الآينو من أراضيهم وأُجبروا على العيش في مخيمات ما أدى إلى موت الآلاف منهم، وبمرور الوقت تقلص عددهم بشكل كبير، وتم القضاء على ثقافتهم تقريبًا، فوجد من بقي حيًا منهم نفسه يعاني داخل المحميات المخصصة لهم.
هذه الخطوات من الحكومة اليابانية تجاه شعب الآينو تعتبر كبيرة ومهمة، لكنها خطوات ليست نهائية
وتعرض شعب الآينو لممارسات أخرى شنيعة، كان أبرزها أن الباحثين اليابانيين اعتادوا نبش قبورهم من أواخر القرن التاسع عشر وحتى الستينيات من القرن الماضي، وجمعوا كميات كبيرة من بقايا جثامين أجداد الآينو لدراستها، ولم يعيدوا العظام التي أخذوها قط.
سنة 1960، بدأ الآينو يجتمعون للحصول على “الحق في أن يكونوا مختلفين”، لكن مطالبهم لم تكن لها نتيجة إلى غاية عام 1994، إذ انتخب الناشط كايانو شيغيرو عضوًا في البرلمان الياباني عام 1994، وسلطت بعض سلاسل قصص المانغا اليابانية المصورة الشهيرة، الأضواء على المظاهر الثقافية لشعب الآينو.
في عام 1997، تم إصدار قانون الترويج لثقافة الآينو ونشر ودعم تقاليدهم وواجب تعزيز ثقافتهم واختلافهم، نتيجة ذلك انتشرت العشرات من المتاحف والمراكز الثقافية للتعريف بهذا الشعب، كما تصدر الآن صحيفة بلغتهم، وتم أيضًا تضمين ثقافة الآينو في الكتب المدرسية، حيث يجب أن توجد في صفحتين على الأقل في كتب التاريخ والجغرافيا.
سنة 2008، أصدرت حكومة اليابان قرارًا غير ملزم يدعو إلى الاعتراف بشعب الآينو على أنهم من السكان الأصليين لليابان ، ويحث على إنهاء التمييز ضد هذه المجموعة العرقية، واعترف القرار بشعب الآينو “كشعب أصلي له لغة ودين وثقافة متميزة”.
حينها قالت الحكومة: “تود الحكومة أن تقبل رسميًا الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن العديد من الآينو قد تعرضوا للتمييز ضدهم وأُجبروا على الفقر مع تقدم التحديث، على الرغم من كونهم متساوين قانونًا مع الشعب الياباني”.
سنة 2019، عززت الحكومة اليابانية الوضع القانوني لشعب الآينو من خلال تمرير مشروع قانون يعترف رسميًا بهم كشعب أصلي، بناءً على المادة 14 من الدستور، “متساوون أمام القانون” ويحظر التمييز على أساس العرق، علاوة على ذلك، يهدف مشروع القانون إلى تبسيط إجراءات الحصول على أذونات مختلفة من السلطات فيما يتعلق بنمط الحياة التقليدي لشعب الآينو وتعزيز هوية وثقافات الآينو دون تحديد المجموعة العرقية حسب النسب.