منذ أن نجح التحرك الانقلابي المصري في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي بدأت بعض قوى المعارضة التونسية تنظر بعين حالمة إلى إسقاط حكومة الترويكا والسيطرة على مقاليد السلطة وكان أن تم استنساخ التجربة المصرية بكل تفاصيلها بداية من تأسيس حركة تمرد وجمع التوقيعات لسحب الشرعية من الحكومة القائمة مرورا بتشكيل جبهة الإنقاذ في نسخة تونسية وصولا إلى اعتصام الرحيل أمام مقر المجلس التأسيسي ومحاولة الانقلاب على نظام الحكم القائم .
لقد بدا المشهد وكأننا أمام صورة طبق الأصل من المشهد المصري لولا جملة من العوامل أفشلت تحركات جبهة الإنقاذ التونسية وجعلتها تنكفئ على ذاتها وربما بصورة تدعو إلى السخرية حينا والى الرثاء حينا آخر .ويمكن تحديد مجمل العوامل التي أسهمت في فشل الانقلاب في تونس على النحو التالي :
العامل الأول: بنية السلطة الحاكمة
لقد كان نظام الحكم القائم في تونس مُشَكَلا من ترويكا تضم أحزابا مختلفة بالإضافة إلى عدد من الوزراء المستقلين ممن تولوا أهم الوزارات السيادية ونعني بها الداخلية والخارجية والدفاع والعدل وهو ما ينفي دعاية الانفراد بالحكم التي حاولت المعارضة ترويجها بخصوص مشاركة الإسلاميين في الحكم .ولأن النظام القائم لم يكن قائما على حزب حاكم بقدر ما هو ائتلاف مفتوح ومتعدد فقد كان من الصعب إقناع الناس بأننا إزاء دكتاتورية دينية ناشئة كما روج الإعلام في مصر مثلا عندما تلاعب بالعقول من خلال حديثه عن أخونة الدولة ،حيث ظلت أجهزة الدولة التونسية تعمل بمعزل عن الانتماء السياسي لأفرادها واستمرت في تقديم خدماتها حتى في أحلك الظروف أيام فرار المخلوع بن علي .
ثانيا : لم يكن من الممكن الرهان على الجيش التونسي الذي لم يكن يوما جيشا انقلابيا وإنما ظل يمارس مهامه بحيادية تامة بعيدا عن الانحياز لطرف سياسي محدد أو أن يكون هو ذاته صاحب مصلحة في الوصول إلى السلطة فخلافا للجيش المصري لا يتدخل الجيش التونسي في الحياة المدنية وليست لديه استثمارات اقتصادية كما أن عناصره القيادية لم تكن تاريخيا تتولى مناصب سلطوية على نحو ما يجري في مصر حيث يتولى متقاعدو الجيش مناصب وزارية أو في المحافظات أو إدارة شركات كبرى ومصانع قطاع عام ومن هذا المنطلق لم يكن الجيش التونسي ساعيا إلى السلطة وهو الذي أتيحت أمامه الفرصة للاستيلاء على إدارة الدولة اثر فرار المخلوع ولكنه خيَر العمل في كنف الشرعية .
ثالثا : مثلت القوى الأمنية الرقم الصعب في الدولة التونسية وربما فكرت جبهة الإنقاذ في الاستفادة منها في تغيير الوضع السياسي القائم غير أن معطيات الواقع والتغييرات التي لحقت ببنية وزارة الداخلية جعلت القادة الأمنيين أكثر حرصا على الاستقرار وعدم المراهنة على القفز في المجهول مع ما يعنيه من السقوط في سيناريو الفوضى .
العامل الثاني: طبيعة المعارضة الانقلابية
لم تكن المعارضة الساعية للانقلاب تتمتع بحضور شعبي مناسب وفشلت في تعبئة الشارع أو جمع التوقيعات التي توحي للمراقب المحايد أنها بالفعل تمثل قطاعا واسعا من الشعب التونسي ،هذا بالإضافة إلى أن ما حدث كان صورة مقلوبة لما جرى في مصر حيث كان الجيش قد استعد للانقلاب ولم يكن تحرك المعارضة أو مجموعة تمرد سوى مجرد غطاء سياسي لإنجاز الانقلاب بشرعية شارعية مزعومة من خلال ثورة الساعات الست أما في تونس فقد بدا أن المعارضة المنهكة والمشتتة والضعيفة أصلا هي من يعد للانقلاب ثم تريد استدعاء الجيش والأمن لانجاز هذا الهدف وهو ما يعني أن القوة الصلبة في الدولة ستتحرك ليس خدمة لمصالحها ( مثل مصر ) وإنما خدمة للمعارضة وهو أمر يصعب التجاوب معه فلا احد يجازف بانقلاب ليقدم الثمرة جاهزة للآخرين .
ثانيا : عندما تحركت المعارضة من اجل الإطاحة بالحكم القائم كان المجلس التأسيسي يوشك على إنهاء مهامه ومن ثم المرور إلى الانتخابات والخروج من الفترة الانتقالية وهو الأمر الذي أعطى انطباعا عن معارضة ضعيفة تخشى الاحتكام لصندوق الاقتراع وإلا ما الداعي للانقلاب إذا كان بإمكانها الإطاحة بالترويكا الحاكمة انتخابيا .
ثالثا : كان مطلب المعارضة بإسقاط المجلس التأسيسي المنتخب مطلبا عدميا ويدفع نحو الفراغ وهو موقف عبر عنه جملة من خبراء القانون الدستوري المعروفين مثل الدكتور قيس سعيد أو حتى عياض بن عاشور القريب ايديولوجيا من بعض قوى المعارضة .
رابعا : أثار اعتصام الرحيل الذي نظمته جبهة الإنقاذ في تونس سخرية الرأي العام حيث بدا تجمعا بشريا متواضعا عدديا يضم جملة من السياسيين ممن يحترفون الثرثرة بالإضافة إلى ظهوره بصورة اعتصام أصحاب المصالح والأثرياء حيث غابت عن المشهد القوى الشعبية الحقيقية ( سكان الأحياء الشعبية ) والقوى الثورية الفعلية التي شاركت في اعتصام القصبة 1 و2 الذي أطاح بحكومة محمد الغنوشي بعد فرار المخلوع .
خامسا : لقد حاولت جبهة الإنقاذ التي تضم خليطا غير متجانس من قوى يسارية كانت تطالب بإقصاء أنصار النظام السابق ( الجبهة الشعبية ) مع نداء تونس الذي يضم في صلبه عناصر محورية في نظام بن علي أن توظف الاغتيالات السياسية التي حصلت في تونس ( اغتيال محمد البراهمي ومن قبله شكري بلعيد ) غير أن هذا التوظيف كان فاشلا بسبب صعوبة تمرير فكرة أن طرفا سياسيا في الحكم ويسعى إلى الاستقرار يمكن أن ينفذ اغتيالا ضد معارضيه لإثارة الفوضى والاضطرابات التي تضر أصلا بوجوده في السلطة.
العامل الثالث: دور القوى الخارجية
من المعروف أن الجوار الجغرافي لتونس والمتمثل في الاتحاد الأروبي هو المعني بالدرجة الأولى بما يجري بتونس وإذا كان نفوذ فرنسا ظل مستمرا منذ الاستقلال ولديها امتدادات داخل أحزاب ومنظمات تونسية وهي لا تخفي قلقها من وصول الإسلاميين للسلطة غير أن قوى أروبية أخرى باتت بدورها معنية بالملف التونسي ونعني بها خصوصا ألمانيا وايطاليا حيث يدرك الأروبيون أن أي محاولة انقلابية وتغيير النظام بطريقة غير آمنة يمكن أن تفضي للفوضى مع ما يعنيه ذلك من تدفق آلاف اللاجئين على الساحل الشمالي للمتوسط والجميع يذكر هجرة القوارب التونسية اثر سقوط المخلوع بن علي هذا بالإضافة إلى إن دخول تونس مرحلة العنف سيفتح الباب واسعا أمام الجماعات العنيفة التي تجد لها امتدادا في الجزائر ( فشل النظام الجزائري في استئصالها رغم سنوات الدم ) وتجد لها دعما وسلاحا من الحدود الليبية حيث لازالت الدولة رخوة وغير قادرة على ضبط حدودها أو سلاحها .
لقد كان التدخل الأروبي واضحا في لقاءات السفير الألماني مع رموز السلطة والمعارضة والتي شهدنا بعدها تغيرا في لهجة بعض سياسيي جبهة الإنقاذ ولنرى تتويجا لهذا في لقاء راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة مع الباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء تونس ولم يكن المكان غير باريس مع ما يعنيه الموقع الجغرافي من معنى . فإذا أضفنا إلى هذا ضعف الدور الصهيوني الذي ساهم في الإطاحة بحكم مرسي في مصر بوصفها من دول الطوق وهو عامل لا يؤثر بذات الحدة في المشهد التونسي.
كما لعبت الأحداث المتلاحقة في مصر دورا مهما في التخفيف من رغبة البعض في الانقلاب والدفع إلى الفوضى حيث كانت مشاهد الدم والخراب وجثث القتلى على يد العسكر المصري دافعا لمزيد العقلانية في صفوف الشعب التونسي المعروف عنه سلميته ورفضه للعنف مهما كان ،وهنا يأتي دور العامل السيكولوجي .
العامل الرابع: سيكولوجيا الشعب
لم تعرف تونس تاريخيا حالات عنف واسعة أو حروب أهلية رغم بعض الأحداث المتفرقة فهي خلافا للأوضاع في بعض الدول الأخرى يرفض شعبها الانجرار إلى الفوضى والعنف ويميل إلى الاستقرار وثقافة الحوار وربما يعود هذا إلى نسبة التمدرس العالية فيه بالإضافة إلى غياب ظواهر موجودة في دول أخرى مثل البلطجة التي تمثل قطاعا مهما في مصر ولها جذورها وتحالفاتها مع أطراف في الداخلية أو العسكر وفي المقابل لم يعرف الشعب التونسي ظواهر عنفية منظمة وهو أمر يجعله أكثر حرصا على الأمن وميلا إلى السلمية في التعبير والاحتجاج .
إن محاولة استنساخ السيناريو المصري لم تكن ناجحة في تونس رغم أن ممولي الأزمة في مصر وتونس هم ذاتهم في كلا الدولتين ونعني بهم الإمارات والسعودية ومن الأكيد أن محاولة الإطاحة بالمسار الديمقراطي في تونس ستتواصل ولكنها في النهاية محكومة بعوامل بنيوية ذاتية وأخرى خارجية تجعلها غير قابلة للتحقق .. بقي أن نقول إن التجارب الإنسانية لا يمكن استيرادها أو استنساخها فكل شعب يصر على نحت تجربته وخوضها بنفسه.