ترجمة وتحرير نون بوست
تعدّ موستار إحدى أهم الوجهات التي يرغب كل شخص في زيارتها عند قدومه إلى البوسنة والهرسك، لكن قلة من السياح الذين يسيرون في شوارعها المرصوفة بالحصى يعلمون أنها المدينة الوحيدة في أوروبا التي لم تجر أي انتخابات محلية منذ أكثر من عقد.
طوال هذه السنوات، شهد سكان المدينة انهيار البنية التحتية من حولهم، بينما تتصارع القوى السياسية المحلية للوصول إلى السلطة. ومع غياب مؤسسات فعالة، انقطعت الاستثمارات وتدهور الوضع في موستار. لذلك عندما أُعلن مؤخرا عن إجراء أول انتخابات في المدينة منذ 12 سنة، مثّل ذلك مفاجأة لسكانها الذين كانوا يشعرون أن الزمن في مدينتهم قد توقف.
يقول بوريس موفيتش أحد سكان موستار إن “هناك أشخاص مثلي في سنّ الثلاثين تقريبا سيصوتون في الانتخابات المحلية لأول مرة في حياتهم. أعتقد أنه من الجنون خلال القرن الحادي والعشرين، وفي دولة ديمقراطية مثل البوسنة والهرسك كما ينص دستور البلاد، أن تجد أشخاصا في مثل هذا العمر، لم يمارسوا قط حقهم في انتخاب ممثليهم”. ويضيف كوفيتش: “أشعر أن الانتخابات هذه السنة لن تكون انتخابات في سنة 2020، بل ستكون تكرارا لانتخابات سنة 2008. لن نبدأ من حيث توقفنا، بل سيتعين علينا العودة بالزمن 12 سنة إلى الوراء”.
في الواقع، لا تتلخص معاناة سكان موستار في ويلات ما بعد الحرب. خلال حرب البوسنة (1992-1995)، دمّرت القوات الكرواتية البوسنية جزءا كبير من الموقع التاريخي في موستار، وشمل القصف سنة 1993 الجسر القديم، وهو أحد مواقع التراثيّ العالمي وفقا لليونسكو.
تسبب التطهير العرقي واضطهاد المدنيين في موستار في موجات هجرة جماعية خلال الحرب، مما أدى إلى تقسيم المدينة إلى منطقتين منفصلتين: أصبح الجزء الغربي من موستار يضمّ بالأساس كروات البوسنة، بينما يتكوّن الجزء الشرقي في أغلبه من البوشناق.
أسفرت جرائم الحرب العديدة التي اُرتكبت ضد المدنيين عن محاكمة ستة قادة عسكريين وسياسيين من كروات البوسنة، وحُكم عليهم بما مجموعه 111 سنة سجنا في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة سنة 2017.
في فترة ما بعد الحرب، كان هناك آمال في توحيد المدينة وتحسّن الوضع، لكن سرعان ما تبخرت الآمال بسبب سياسات الحزبين اليمينيين الحاكمين، حزب العمل الديمقراطي البوسني، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي. عطّل الحزبان آليات صنع القرار في المدينة، بعد أن فشلا في التوصل إلى اتفاق حول تحديد الدوائر الانتخابية.
تتمحوّر نقطة الخلاف الرئيسية حول بند يضمن تمثيلا متساويا لأحياء المدينة الستة في المجلس البلدي، بغض النظر عن عدد الأصوات في كل حيّ. اقترح حزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي حلا لمشكل التفاوت في المقاعد، لكن حزب العمل الديمقراطي اعترض وعبّر عن مخاوفه من أن البوشناق في موستار لن يحظوا بتمثيل كاف.
واقترح حزب العمل الديمقراطي في المقابل إعادة تقسيم المدينة إداريا وتشكيل مجلس موحد، مع إعطاء نوع من الحكم الذاتي لكل حي، إلا أن ممثلي كروات البوسنة رفضوا هذا المقترح أيضا.
في النهاية، أدت هذه الخلافات إلى شل حركة التنمية في المدينة. وخلال هذه الفترة التي تعذر فيها إجراء الانتخابات بسبب الجمود السياسي، احتفظ القائم بأعمال رئيس البلدية ونائب رئيس البلدية بمنصبيهما منذ سنة 2008، بينما لم يكن هناك مجلس للمدينة على مدار السنوات الثماني الماضية.
في هذا السياق، يقول مارين باغو، وهو مدير منظمة فوتورا غير الحكومية والمشرف على منصة “مجتمعنا” على الانترنت، إن عدم وجود مجلس للمدينة فسح المجال لمكتب الرئيس، الممثل الوحيد للسلطة في المدينة، بأن ينفرد بالقرار ويفعل ما يحلو له.
يضيف باغو أن “هذا لا يعفيه من مسؤولية اتخاذ قرارات تخالف القانون. خلّف هذا الوضع آثارا مدمّرة في مختلف المجالات. على سبيل المثال، تآكلت البنية التحتية إلى درجة تعرّض المواطنين للتسمّم.. كانت سياسات الحكومة المحلية وشركات القطاع العام كارثية بكل بساطة. أعتقد أننا لم نشهد حكومة محلية أسوأ من هذه خلال المئة سنة الماضية”.
معارضة حكم القانون
كانت سياسة تكميم الأفواه تروّج إلى أن أي محاولة لتنظيم انتخابات بعد سنة 2008 تُعتبر إما مخالفة لقانون المدينة، أو غير دستورية. يعتقد البعض، مثل الناشطة المحلية إيرما باراليا، أن الوضع الراهن هو المخالف للقانون وللدستور.
في أواخر سنة 2019، فازت باراليا بدعوى قضائيّة كانت قد رفعتها ضد دولة البوسنة والهرسك أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، وزعمت من خلالها أن سكان موستار لا يتمتعون بحقهم في التصويت والترشح للانتخابات. أكدت باراليا أن الأسباب التي دفعتها لرفع الدعوى مهنية وشخصية، وأضافت “أنه من النادر في العالم الديمقراطي أن تمر السنوات دون أن يتغيّر شيء. فإذا كنت تعيش في مجتمع ديمقراطي من الناحية النظرية، ولكنك لا تتمتّع بالمقومات الأساسيّة للديمقراطية، أي الانتخابات، ستشعر حينها كما لو أنك مقيّد”.
منظر علوي لأنقاض جسر من القرن السادس عشر في موستار، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1993، دمرته قذائف الهاون.
مع تصدّر الخلافات السياسية المشهد في موستار، لم يعد تردي الوضع المعيشي في المدينة يجذب انتباه أي طرف، وشعر سكان موستار أنهم حُرموا من أبسط الخدمات.
يقول كوفيتش الذي يعمل في منظمة ثقافية محلية غير حكومية: “لقد أرسلت عدّة مرات بدافع المسؤولية المدنية والشخصية، رسائل بريد إلكتروني إلى المكاتب المحلية لمعرفة ما إذا كانوا سيستجيبون أم لا. كما أبلغت عن وجود حاوية قمامة ممتلئة لمدة 15 إلى 20 يومًا، ووجود حفر في الطرقات. ولكن في النهاية، لم تحلّ أي من هذه المشاكل، فأنت لا تعرف حتى من المسؤول أو ما إذا كان هناك شخص مشرف على هذه المسؤوليات بالأساس”.
ويعتقد باغو أن تجاهل ما يحدث في موستار يفيد عددا من الفاعلين السياسيين، ويوضح قائلا: “بقية مناطق البلاد راضية عما يحدث في موستار. فهم يستغلوننا كذريعة لتغطية إخفاقاتهم وتبرير الوضع المتدهور الذي تعاني منه العديد من المدن والبلديات الأخرى”.
آمال المستقبل
في وقت سابق من هذه السنة، أدت ضغوط المنظمات الدولية في البوسنة إلى عقد اتفاق طال انتظاره بين الحزبين الحاكمين. وأخيرا، تم تحديد موعد للانتخابات المحلية في موستار، وستكون في ديسمبر/كانون الأول. لكن لا يعني ذلك أن المدينة ستعود على الفور إلى الطريق الصحيح، أو أن الاتفاق سيكون خاليا تماما من العيوب.
مع ذلك، يعتقد كوفيتش أن ذلك يشكل فرصة حقيقية لتغيير الوضع أخيرا في موستار، ويقول: “أنا سعيد حقا لأنني سأتمكن من الإدلاء بصوتي هذه السنة. أعتقد أيضا أن الآخرين سيفكرون بجدية في التصويت، بعد أن حصلوا على فرصتهم اليوم. في الواقع، يعتبر سكان المناطق الأخرى من البوسنة أن التصويت من البديهيات، حتى أن بعضهم يمتنعون عن الإدلاء بأصواتهم، بينما سُلبت حقوق الناس في موستار. أعتقد أن سكان هذه المدينة فهموا أخيرا أن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال، وأنه قد حان الوقت للتغيير”.
تأمل باراليا من جانبها أن تسفر الانتخابات عن تحوّل موستار إلى مدينة أفضل وأكثر تقدما، وتقول: “ولد أخي في عام 1995. هناك عشرات الآلاف من الأشخاص الذين ولدوا بعد الحرب والذين لا يذكرون الصراع ولم تتح لهم فرصة التصويت من قبل. لذلك، آمل أن يتمكّن هؤلاء من إحداث التغيير”.
المصدر: يورونيوز