جهلٌ هو الحنين، أو نتيجة جهل، أو إرادة جهل، هذا ما عبّر عنه كونديرا، في دلالة ما، في روايته “الجهل L’ignorance” (2000)؛ لا نحنّ (رغبة بالماضي، بالطفولة المفقودة أو بالحب الأول) إلّا لأننا نجهل، نغترب، نتعثّر، نضيع. إنّه “الغثيان” – الذي يبدأ – في المُخيلة. حين نجهل ما حولنا من أمكنة وأشخاص وعلامات وتشكيلات خطابية، ونبحث عن الإجابات النّاجزة، نلجأ للحنين، مأوى الجهلاء. وهو يجعلنا ننحني، يقولون: “حنَى الدَّهرُ الرَّجلَ”، أو نلتفّ. ليس تذكرا أو استذكارا أفلاطونيا، بل أكثر جذرية في ضياعه. وهو، إذ تصير له تجليات، نوع من الإعاقة الكرونولوجية، أو الابتعاد عن التزامُن. وإذا كان “الجهل المقدس La sainte ignorance” (2008) عند أوليفييه روا يعني القطيعة بين الثقافي والديني أو الدين بلا ثقافة، فإن “الجهل الفنّي” الذي سنتناوله هنا، مقصود به نوع من فصل الفن عن “نفسه”، أو حِرمان ومنع الفن من فَنّيّته في سبيل الحنين إلى ما هو غير فني.
لا نتغيّا هنا تناول أسئلة كبرى في الاستطيقا، من نوعية ما الجميل؟ ما الجليل؟ ما القبيح؟، ولا إشكالات مهمة في الجماليات المعاصرة، عن “الريدي-ميد ReadyMade” أو منعرج أدورنو – فهذا مما لا تسمح به مساحتنا الضيقة، كما أن هدفنا أكثر تواضعا من كل ذلك (يُنظَر بشأن هذه المسائل كتابات مارك جيمينيز وشربل داغر وأم الزين بنشيخة المسكيني)-، لكننا سنتعاطى مع حالة/ثيمة/تقليعة ما فتئت تتأكد في ما جرى نعته، في التداول المصري، بفن “الأندر-جروند Underground”.
زخم الأغنيّة المعاصرة غير غنائي أو موسيقي أو أداتي، فهو أحيانا يتمظهر في مادة إعلانية وبورنوغرافيّة، أو دينية وقومية في أحايين أخرى. ولطالما ضخت كل هذه الروافد دماء جديدة في الأغنية، وفي التدبير الفني عموما، لكن الحاصل – هنا والآن – قضاء على التدبير الفني ورفت له لمصلحة الدين أو البرنوغرافيا أو القضيّة، فصل للفن عن “نفسه” من أجل ما هو غير فني (لا يُفهم من كلامنا أننا من مدرسة الفن للفن، فهذا كلام رومانسي ليس لنا الحق في رفع رايته حاليا). لم يعد مطلوبا الاقتدار الصوتي أو الدراية الأداتية أو الإلمام الموسيقي لتصدر المشهد الغنائي، أو للخوض فيه عمليا، لم يعد مطلوبا أو حاسما منذ وقت طويل، مع وجود عوامل أخرى “تُمكيج” النَّشَز و”التخبيص” الموسيقي والعشوائية الأداتية، وقد انضاف لهذه العوامل/المساحيق، مؤخرا وعلى نحو ملفت، التراث العربي الإسلامي والموروث الشعبي الجهوي. وهذا الانضواء الانتهازي تحت الأصيل والقديم والخصوصي، بغية تجسير الهاوية (الجهل) التي تسكننا، ليس خصوصية إسلاموية أو دولتيّة، بل حالة تعيث في كل المجالات والمساحات. تقنية رائجة في تغطية الجهل يستخدمها الساسة وأجهزة الإعلام والأروقة الأكاديمية، وكل من يلعبون على الحنين والعودة والنوستالجيا.
حالة التترس بالقديم و”الحنيني”، من قبل نجوم الأندرجروند، التي تكرس الجهل كموقف من اللحظة و”الجهل الفني” كمُركب يتفرع على الجهل/الحنين، لا تختلف كثيرا عن حالة “الجهل المقدس” عند الإسلاميين؛ كلتاهما توضح حجم الأزمة الأخلاقية والمعرفية والجمالية التي نعيشها في مصر، وفي عالمنا العربي كلّه.