أدت عملية الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، إلى دفع إيران لملء الفراغ الأمني والإستراتيجي الذي خلفته الولايات المتحدة، ما أدخل العراق في دوامة جديدة من الصراعات السياسية والأمنية، التي هيأت بدورها الظروف الداخلية في العراق لبروز تنظيم داعش في يونيو 2014، الذي هيأ بدوره البيئة لبروز الفصائل الولائية، تحت عنوان أمني عريض هو الحشد الشعبي، وبعد نهاية الحرب على تنظيم داعش في ديسمبر 2017، خرجت من رحم الحشد الشعبي، العديد من الفصائل الولائية التي عرفت باعتقادها وارتباطها بولاية المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وبدأت تطرح نفسها كجزء من محور المقاومة الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط.
أصبحت الفصائل الولائية تتمايز شيئًا فشيئًا عن الحشد الشعبي اليوم، بحيث أصبحنا أمام الحشد الولائي المرتبط بخامنئي، وحشد العتبات التابع للسيد علي السيستاني، وأخذت الفصائل الولائية على عاتقها تأدية الوظيفة الإيرانية في استنزاف الولايات المتحدة في العراق منذ عام 2018، وبدأت تثبت وجودها الإستراتيجي والعسكري في العديد من المناطق التي توجد فيها القوات الأمريكية، وتحديدًا المدن المحررة من سيطرة تنظيم داعش.
ومن خلال متابعة سياقات التعاطي الأمريكي مع الحشد الشعبي، نجد أن الولايات المتحدة حددت مسارات تعاملها مع الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، وتحديدًا الفصائل الكبرى (كتائب حزب الله، عصائب أهل الحق، حركة النجباء، كتائب الإمام علي، سرايا الخرساني)، أو تلك التي ظهرت في الآونة الأخيرة كـ(عصبة الثائرين وأصحاب الكهف وسرايا ثورة العشرين الثانية وغيرها التي تعرف بخلايا الكاتيوشا)، وهاجمت القوات الأمريكية في العراق بصورة مستمرة، وأدت دورًا بارزًا في الهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد منذ مطلع العام الحاليّ، فضلًا عن تلقيها للدعم المالي والعسكري المستمر من إيران.
تشكل الفصائل الولائية أحد أبرز التحديات الأمنية التي تواجهها القوات الأمريكية في العراق، لهذا سعت الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية إلى الضغط على حكومات السيد حيدر العبادي والسيد عادل عبد المهدي، لإيجاد طريقة تضبط حركة هذه الفصائل، عن طريق دمجها بالقوات الأمنية العراقية أو حلها أو تنظيم وضعها بصورة مشددة قانونًا، وهي ضغوط يخضع لها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بالوقت الحاضر.
أشارت صحيفة واشنطن بوست إلى احتمالية غلق السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وضربات أمريكية محتملة ضد الفصائل المقربة من إيران
إستراتيجية أمريكية متعثرة
في تطور جديد لإستراتيجية تعاطي الفصائل الولائية مع الوجود الأمريكي في العراق، شكلت خلايا الكاتيوشا بروزًا مؤثرًا في هذا المجال، إذ نجحت هذه الخلايا في استهداف العديد من المقرات التي توجد فيها القوات الأمريكية في العراق، فشنت خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى سبتمبر/أيلول 2020 ما يقرب من 70 عملية استهداف للمقرات الأمريكية، بالإضافة إلى استخدام هذه الخلايا طائرات استطلاع دون طيار (درون)، لتصوير السفارة الأمريكية في بغداد، وقاعدة عين الأسد في الأنبار، وفي الآونة الأخيرة غيرت هذه الخلايا من إستراتيجيتها العملياتية، عبر استهداف قوافل تحمل إمدادات إلى منشآت الولايات المتحدة أو التحالف الدولي، التي وصلت إلى 25 هجومًا مسلحًا، وتحديدًا في البصرة والناصرية وصلاح الدين، فضلًا عن منطقة أبو غريب غرب بغداد في 17 من سبتمبر/أيلول 2020، التي أعلنت جماعة (قاصم الجبارين) مسؤوليتها عنها.
جاءت عملية انسحاب القوات الأمريكية من تسع قواعد عسكرية، لتعكس طبيعة القناعة الأمريكية، بفشل الحكومة العراقية عن الإيفاء بالتزاماتها في حماية المصالح الأمريكية في العراق، لتتمحور اليوم في قواعد البغدادي وحرير وعين الأسد، ضمن خطة طويلة المدى لحصر الوجود الأمريكي في العراق، في إطار التدريب وتبادل المعلومات والدعم اللوجستي، ويأتي ذلك ضمن توجه أمريكي لتحصين القوات الأمريكية في العراق من أي اعتداء وعدم إتاحة الفرصة لحلفاء إيران جرها لمواجهة مسلحة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، فيما لو قررت إيران ذلك.
شكلت إستراتيجية ردع النزاع إحدى أبرز الإستراتيجيات التي اعتمدتها القيادة الأمريكية في العراق، خصوصًا في إطار ردع الهجمات الصاروخية التي تقوم بها خلايا الكاتيوشا، إذ حددت منطقة حرم أمني بمسافة 70 كيلومترًا حول القواعد العسكرية التي توجد بها القوات الأمريكية، وتحديدًا قاعدة عين الأسد في الأنبار، بحيث تصبح الفصائل الولائية وخلايا الكاتيوشا عرضة لاستخدام القوة المميتة، في حال ما إذا تجاوزت هذه المسافة، كما نصبت العديد من أنظمة الدفاع الجوي C-RAM المضادة للصواريخ حول السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء أو عبر تفعيل الجهد الاستخباري حول ردع الهجمات التي تتعرض لها القوافل الأمريكية، بحيث تجعل هذه الهجمات غير فاعلة ومميتة، بالإضافة إلى أنها تجنب الولايات المتحدة الرد عليها بضربات انتقامية.
وفي هذا الإطار أيضًا، أشارت صحيفة واشنطن بوست إلى احتمالية غلق السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وضربات أمريكية محتملة ضد الفصائل المقربة من إيران، في حال ما إذا استمرت الهجمات الصاروخية ضد الأهداف الأمريكية، وهو توجه أمريكي جاء بعد تحذير مسبق وجهه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للرئيس العراقي برهم صالح، بعد يوم واحد من فرض العقوبات الأمريكية سناب باك على إيران في 20 من سبتمبر/أيلول 2020، إذ أبلغه انزعاج الإدارة الأمريكية الكبير من استمرار استهداف السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وأرتال الدعم لقوات التحالف الدولي، محملًا كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، مسؤولية أي أخطار تتعرض لها القوات الأمريكية في العراق.
ما زالت خيارات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران غير محسومة في العراق
هدنة مؤقتة
أعلنت الفصائل الولائية في يوم 12 من أكتوبر/تشرين الأول 2020، وعلى لسان المتحدث باسم كتائب حزب الله العراقي محمد محيي، أن الفصائل الولائية ستعلق الهجمات الصاروخية على أهداف أمريكية لإتاحة الوقت للحكومة العراقية لطرح جدول زمني لانسحاب هذه القوات، ليعيد التأكيد في اليوم اللاحق، بإلغاء الهدنة مع واشنطن، في حال تعرض عناصر في الفصائل لما وصفه بـ”الغدر”، سواء من القوات الأمريكية أم الحكومية، إذ ما زالت هذه الفصائل تنظر لوجود القوات الأمريكية في العراق على أنه تهديد مباشر لها، وأن الغاية الرئيسية لإخراج القوات الأمريكية من العراق، هو من أجل تلبية حاجات الأمن القومي الإيراني وليس العراقي، على عكس ما تصرح به هذه الفصائل مرارًا.
نجح الكاظمي في الحصول على موافقة الفصائل الولائية على الهدنة مع الولايات المتحدة، لكنها هدنة مشروطة، ويقول القائد شبه العسكري لفصيل مسلح مدعوم من إيران: “ناقشنا الأمر بيننا، ووافقنا على الهدنة التي طلبها الكاظمي، لكن بشروطنا، نريد جدولًا زمنيًا لخروج القوات الأمريكية من العراق، وبعد 40 يومًا إذا لم يتحقق شرطنا ستفتح أبواب الجحيم على الأمريكان في العراق”.
إذ قرر الكاظمي الاستعانة بالمساعدة الإيرانية لحل هذه الأزمة، وبحسب مصدر مطلع على هذه المناقشات من الجانب الإيراني، فقد اجتمع الكاظمي بشكل غير معلن مع السفير الإيراني لدى بغداد إيرج مسجدي، لمناقشة المستجدات وأبلغ الكاظمي السفير الإيراني برغبته في إقناع القادة الإيرانيين بطلب هدنة لمدة 40 يومًا من الفصائل المسلحة، لكي تستقر الأمور قليلًا، نظرًا لخطورة إغلاق السفارة الأمريكية على أمن واستقرار العراق.
وبعد أيام من إعلان الهدنة، زار محافظ البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي بغداد، من أجل الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في العراق، بفعل العقوبات الأمريكية عليها، وتحدثت العديد من المصادر عن موافقة الكاظمي على الإفراج عن الأموال الإيرانية، كبادرة حسنة مقابل ضبط إيران لحركة الفصائل الولائية في العراق، حسب مدة الهدنة المحددة، وجاءت زيارة محافظ البنك المركزي الإيراني إلى بغداد، في ظل انحسار موارد البلاد من النقد الأجنبي وتواصل الهبوط الحاد في العملة الوطنية، لا سيما بعد إعلان الإدارة الأمريكية نهاية الأسبوع الماضي، عن فرض عقوبات جديدة، استهدفت ثمانية عشر مصرفًا بهدف فصل النظام المالي الإيراني عن الخارج بالكامل.
الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مستقبل التوافق/الخلاف بين إيران والولايات المتحدة، خصوصًا أن الفصائل الولائية تنظر بترقب كبير لمخرجات الحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة
ماذا بعد الهدنة؟
ما زالت خيارات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران غير محسومة في العراق، وذلك بسبب طبيعة المتغيرات المؤثرة في مسارات العلاقات بينهما في العراق والشرق الأوسط، ولذلك ينظر كلا الطرفين إلى إمكانية حصول تغيير في سلوك الطرف الآخر، للتحول إلى المرحلة الجديدة من مراحل الصراع، والحديث هنا عن كسر الإرادة وتحقيق النصر، فالمرشد الأعلى الإيراني خامنئي يرى أن تصعيد الصراع مع الولايات المتحدة في العراق، قد ينتج عنه ردة فعل غير متوقعة، وقد تكون على شاكلة تلك التي حدثت مع قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، وعليه ينظر خامنئي بأن تأجيل الصراع قد يكون أكثر واقعية، خصوصًا إذا ما حقق المرشح الديمقراطي جو بايدن الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فهو الآخر لا يريد أن تكون هناك عمليات تصعيدية مع إيران، قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، فعملية التطبيع الخليجي مع “إسرائيل” والتعزيزات العسكرية الأمريكية في مضيق هرمز، إلى جانب اللقاءات المكوكية التي تقوم بها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جنين بلاسخارت مع المسؤولين العراقيين، التي كان آخرها اللقاء الذي جمعها برئيس أركان الحشد الشعبي أبو فدك المحمداوي، وقد يكون هذا اللقاء أحد مخرجات الهدنة الأخيرة، بدعم وتنسيق أمريكي غير مباشر.
ويمكن القول هنا إن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مستقبل التوافق/الخلاف بين إيران والولايات المتحدة، خصوصًا أن الفصائل الولائية تنظر بترقب كبير لمخرجات الحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، ففي الوقت الذي لم ترق فيه مبادرة الرياض للحوثيين عام 2014، قاموا بدعم وتأييد إيراني، بالانقلاب على حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وأعلنوا تشكيل حكومة جديدة في صنعاء، فهذا السيناريو أصبح يثير مشاعر العديد من الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، وفي مقدمتها حزب الله العراقي الذي ينظر إلى نفسه كأحد أكبر المستهدفين من إجراءات حكومة الكاظمي الأخيرة.