منذ شهر أبريل/نيسان لعام 2019 شنت القوات الروسية والنظام السوري حملة عسكرية عنيفة على مدينة إدلب شمالي سوريا آخر معاقل المعارضة السورية، وامتدت 11 عشر شهراً استخدمت فيها قوات الأسد وحليفتها شتى أنواع الأسلحة حتى المحرمة دولياً منها، دون أن تلقي بالاً لأرواح نحو 3 ملايين مدني في المنطقة، علماً أن هذه الحملة لم تكن الأولى لكنها الأقوى والأعنف منذ أن سيطرت قوات المعارضة على المدينة عام 2015.
عمدت قوات النظام وروسيا خلال هذه الحملة على اتباع سياسة الأرض المحروقة في هجماتها على القرى والبلدات المحيطة بإدلب، وبالتوازي شنت ميلشيات الأسد وروسيا وإيران عشرات الهجمات الجوية والبرية على المناطق المأهولة بالسكان مستهدفة المرافق العامة من المدارس والنقاط الطبية وأماكن تجمع المدنيين، مخلفة دماراً شاملاً في البنى التحتية وآلاف الشهداء ومئات الآلاف من النازحين ممن قرروا النوم بالخيام على الحدود بدلاً من البقاء تحت القصف أو في قبضة الأسد.
إذ اقتحمت قوات النظام مئات القرى والبلدات التي كانت تحت سيطرة المعارضة، متجاوزة بعض نقاط المراقبة التركية، الأمر الذي استدعى أنقرة لحشد قوة ضاربة من جيشها في المناطق المتبقية لإيقاف خطى النظام، وبعد معارك عنيفة بين كافة الأطراف اجتمع الطرفان الروسي والتركي ليخرجوا باتفاق إيقاف إطلاق النار خلال شهر مارس/آذار الماضي، إلا أن هذا الاتفاق لم يوفر خيار العودة الآمنة للنازحين إلى قراهم، كما أنه لم يوقف الهجمات الجوية من قبل قوات الأسد وحلفائها على المدنيين الذين بقوا في خوف دائم من عودة الصراع واندلاع الاشتباكات.
وتوثيقاً لهذه الجرائم، أصدرت مؤسسة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية تقريرًا يرصد هجمات النظام السوري وروسيا على مدينة إدلب وضواحيها والدمار الذي ألحقوه بالمنطقة مع إحصائيات للضحايا والجرحى وتفصيل في البنية التحتية التي دمرها القصف من قوات موسكو وبشار الأسد، وهو ما سنستعرضه في هذا التقرير بذكر أهم ما تناوله تقرير المنظمة الدولية الذي جاء تحت عنوان “عم يستهدفوا الحياة بإدلب” ويبدو أن كتابة العنوان بهذه الصيغة، أي باللهجة الدارجة، ما هو إلا محاولة للفت الأنظار والانتباه إلى الحالة الإنسانية الصعبة التي تسببت بها تلك الهجمات.
جدير بالذكر أن “هيومن رايتس ووتش” اعتمدت في إعداد تقريرها المطول على شهادات من 77 مدنيًا شهدوا الهجمات الجوية والبرية التي واجهتها مدنهم وقراهم، كما قابلت أعضاء بمنظمة الخوذ البيضاء وهم الدفاع المدني السوري العامل في تلك المناطق، كما حللت المنظمة الدولية صور الأقمار الصناعية للمواقع التي تعرضت للقصف إضافةً إلى مراجعتها للمقاطع والصور الواردة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وهي تعمل كل عام على إصدار تقاريرها عن الحالة السورية التي تعتبرها أشد الحروب “فتكًا” منذ الحرب العالمية الثانية، فقد وثقت هجمات النظام السوري وروسيا المتتالية ضد الشعب السوري وبناه التحتية، مع إحصائيات لعداد الهجمات والضحايا.
مقارنة بين مكانين قبل وبعد القصف الروسي على أجزاء من مدينة معرة النعمان
الهجمات على البنى التحتية
خلال الهجمة الشرسة لجيش النظام السوري والقوات الروسية على كامل محافظة إدلب، دمرت العشرات من نقاط البنى التحتية التي يحميها القانون الدولي منها مشاف ومدارس ودور عبادة، ووثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” هجمات أخرى على المدن الرئيسية في المحافظة وهي أريحا، ومدينة إدلب، وجسر الشغور، ومعرة النعمان. كما ذكرت في تقريرها عن وقوع هجمات عنيفة على مدن أخرى ومخيمات للنازحين في مدن معرة مصرين والدانا وحاس وسرمدا ذهب ضحيتها 224 مدنياً وجرح عشرات آخرين.
دمرت الهجمات الجوية 12 مركزاً صحياً منها مستشفيات ونقاط طبية، إضافةً إلى تسوية 10 مدارس بالأرض، فيما استهدفت الطائرات الحربية 5 أسواق و4 أحياء سكنية كما استهدفت سجناً مركزياً وكنيسة وملعب ومقراً لإحدى المنظمات الإنسانية.
يقدّر “مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان” أن 1.600 مدني على الأقل قتلوا خلال 11 شهراً من الهجمات الروسية على المحافظة، وفي هذا السياق أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها صدر في مايو/أيار 2020 عن وقوع 882 هجوماً في إدلب ومحيطاً على البنية التحتية المدنية منذ أبريل/نيسان 2019.
كما تقع جميع البنى التحتية التي استهدفها القصف الروسي ضمن مناطق مأهولة بالسكان ولا تستخدم لأغراض عسكرية، وهي هجمات “غير قانونية ومتعمدة”، ولم “تكترث القوات المهاجمة للقانون الدولي” بحسب تقرير “رايتس ووتش”. فقد استخدم النظام السوري وروسيا في هجماتهم أسلحة متفجرة ذات تدمير واسع، شملت الأسلحة المتفجرة المستخدمة قنابل، وصواريخ، ومدفعية.
كما استخدمت القوات المهاجمة ذخائر عنقودية ذات أثر تدميري عشوائي وواسع الانتشار، ناهيك عن أنها تشكل خطرًا بعيد المدى لأنها تبقى كالألغام في حال عدم انفجارها.
المسؤولية
وجهت “هيومن رايتس ووتش” اتهامها لقيادة النظام السوري متمثلة ببشار الأسد ووزير دفاعه عن الهجمات التي استهدفت المدنيين والبنى التحتية في إدلب ومحيطها، بالإضافة إلى اتهامات تطال روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين والضباط الروس المسؤولون عن العمليات العسكرية لموسكو في سوريا، إذ تقول المنظمة: “لا تعلم هيومن رايتس ووتش بأي جهود من قبل الحكومتين السورية أو الروسية لإجراء تحقيق ذي مصداقية أو وقف الهجمات على المدنيين والأعيان أو البنية التحتية المدنية”.
وتضيف المنظمة الحقوقية أيضًا في معرض تحميلها المسؤولية لروسيا عن هجمات إدلب وتأزيم الوضع في سوريا: “منذ 2011، منعت روسيا والصين بشكل متكرر محاولات في مجلس الأمن الدولي لمعالجة الوضع في سوريا، بما في ذلك قرار عام 2014 الذي كان من شأنه تمكين المحكمة الجنائية الدولية من التحقيق في الجرائم الخطيرة في سوريا”.
وترى أن طبيعة الغارات الجوية والهجمات البرية على المدنيين التي ارتكبها التحالف السوري-الروسي خلال هجومه إدلب بين 2019 و2020 قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
مأساة النزوح
تسبب الهجوم العسكري السوري الروسي على إدلب ومحيطها بنزوح جماعي من مناطق كثيرة كان أهمها معرة النعمان وأريحا اللتان أفرغتا بالكامل ومنطقة جسر الشغور وهي المدينة التي لاقت انخفاضًا كبيرًا بعدد السكان بعد نزوح القسم الأكبر منها نتيجة الهجمات عليها، كما لاقت أكثر من 300 قرية وبلدة تهجيراً كلياً، أكثر من 230 منها حاليا تحت سيطرة قوات النظام.
تقدّر الأمم المتحدة فرار قرابة 1.4 مليون شخص في إدلب من ديارهم، من أصل تعداد السكان المقدر بـ 3 ملايين شخص بين بدايات 2019 و2020. كان هناك نحو 2.8 مليون شخص في الشمال الغربي بحاجة إلى المساعدة لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وإمعاناً منها في الإجرام استخدمت روسيا حق النقض “الفيتو” ضد تجديد التفويض الكامل لإدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود، إلا أن مجلس الأمن تمكن من إعادة التفاوض على قرار أضعف حيث يستطيع تمرير المساعدات باستخدام معبرين حدوديين فقط باتجاه شمال غرب سوريا لمدة ستة أشهر.
وفي توصياتها دعت المنظمة الحقوقية “جميع أطراف النزاع في سوريا إلى الالتزام الكامل بقوانين الحرب”، كما دعت الاتحاد الأوروبي وسويسرا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على المسؤولين عن جرائم الحرب، وأشارت إلى أنه “ينبغي للدول أن تنظر في رفع قضايا بحق كبار القادة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بموجب الولاية القضائية العالمية والقوانين الوطنية. الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2016”.
كما أوصت المنظمة تركيا بالسماح للمدنيين الفارين من العنف في سوريا باللجوء إلى أراضيها وضمان حماية المدنيين أثناء أي هجوم عسكري، ودعتها كذلك إلى الاستمرار في ضمان منح وكالات الأمم المتحدة وشركائها المنفذين الوصول الإنساني لتوصيل الغذاء، والوقود، والأدوية، والإمدادات الطبية إلى المدنيين المحتاجين في شمالي سوريا.
لا يبدو أن النظام السوري وروسيا يكترثون لهذه التقارير من المنظمات الحقوقية، خاصةً وأنهم يمعنون في قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية كما تؤكد شهادات المدنيين الذين شهدوا تلك المآسي بكل أحجامها وآلامها، ومع ذلك فهي تقاوم محاولات تزوير الوقائع والمجريات، والأهم من ذلك أنها تُبقي أصابع الاتهام موجهة نحو مرتكبيها الحقيقيين، النظام السوري وروسيا، دون أن يكون هناك مجالًا للتضليل أو التمييع فيما بعد.