ينسب للأديب الإيطالي أمبرتو إيكو قول فصيح عن جرأة عوام الناس على الخوض في الشأن العام بما يخرب الشأن العام ولا يصلحه، ورغم ما قد يكون في قوله من شعور بتفوق المثقف أو غروره وتكبره على العوام، فإن المراجعات لما نطلع عليه في المواقع الاجتماعية يعطيه الكثير من الحق.
لكن هذه الورقة ليست لمجادلة قول عوام كثيرين يخوضون في كل قول ويصدرون المواقف بل ستهتم بخديعة أخرى يمارسها علينا استسهال القول في الشأن العام، وهي الشعور المزيف بأن القول هنا يغير الأمور ويؤثر فعلًا في الواقع، وهو ما أسميه وهم الزعامة الفكرية.
المثقف العضوي كذبة لذيذة
تجربة عشر سنوات من الحرية في تونس، حيث سيطر التواصل عبر الفيسبوك دون غيره، راكمت قولًا كثيرًا في كل أمر، لكن سؤالًا حقيقيًا يطرح في المراجعات الهادئة: هل كان لذلك تأثير حقيقي على مجريات الأحداث السياسية على الأرض؟
القول الافتراضي قول سريع وانفعالي وسريع الزوال والتفاعل معه من جنسه يغلب عليه المزاج المنفعل، لذلك فإنه قول لا يرسخ في العقول وفي النفوس لكنه في سرعته وتقلبه يمنح وهمًا بالتأثير على الناس وليس لأي كاتب أو مدون جدي هنا مقياس موضوعي لمدى التأثير وبلوغ المقصد لأن التفاعل السطحي يوهمه ببلوغ مراده من خلال التعليقات العابرة التي لا يتجاوز مضمونها شكره على ما يكتب أو تمجيد شخصه وعبقريته وفي أحيان كثيرة لعن جدوده.
غياب جهة قياس موضوعية للتقييم ومراقبة التأثير في الواقع يدفع الكاتب إلى مزيد من الكتابة فيجد نفسه في وضع قائد فكري تلاحقه الجماهير وتحرضه فينتج لدى الكاتب/المدون لذة سريعة أو شعور بالمجد هي أقرب إلى غيبوبة السكر بنصر أو بخمر لا يستفيق منها بسهولة بل تتحول إلى دوامة روحية وفكرية يتوّجها الكاتب بمنح نفسه لقب المثقف العضوي، ويستعيد بكل فرح طفولي كل ما قيل منذ قرن عن دور المثقف قائد الجماهير إلى مجدها ببصيرته المستنيرة.
وهم المثقف القائد وهم لذيذ فعلًا خاصة إذا لم يكلف صاحبه شيئًا غير العمل على لوحة المفاتيح في حاسوبه، بل يتحول الحاسوب أو الهاتف المتطور إلى شارع ثوري يستعيض به الكاتب عن عرق النزول إلى الشارع والصراخ في وجه عدوه السياسي. هذا الوهم السعيد جعل الشارع يقفر وأراح عدو الشارع من المواجهة في الميادين، فوسع هامش الكتابة للكتاب ولسان حاله يقول أنت أكتب ما تظنه نضالًا وأنا أفعل ما أريد، فالتفاعل المتحمس وحتى العقلاني الرصين (إن وجد فعلًا) يأتي لاحقًا لما أفعل ولا يغير المقدمات لذلك لا يؤثر على النتائج، والنتائج يصل إليها الممسك بسلطة القرار وأدواته على الأرض.
في غياب النتائج الموضوعية أي التغيير الفعلي يمعن الفاعل السياسي فيما يبغي، فيمعن المثقف في الكتابة هربًا من حقيقة فاضحة أنه يصرخ في واد سحيق ولا يجيبه إلا صدى صوته المتضخم، هنا يتحول فيسبوك كنموذج للعمل الافتراضي إلى بديل فعل لا إلى فعل، فيستريح المثقف من واجب النضال الفعلي مثلما يستريح السياسي من شر المثقف، وعلى الأرض تتحرك القوى التي تملك أدوات السلطة الفعلية تفعل بها ما تشاء.
قوى التأثير الحقيقي لا تكتب بل تفعل
عشر سنوات من الحرية كتبت فيها مقالات سياسية أكثر مما كتب في تاريخ تونس منذ عمّرها البشر، لكن تونس لم تتغير عما كانت عليه زمن بن علي. خريطة القوى الفاعلة في الواقع لا تزال هي نفسها، تملك القرار وتأمر أكثر مما تقترح وسنقدم مثالًا بسيطًا في وضوحه ودلالته.
السياسيون الظاهرون في الصورة مثل المثقفين الافتراضيين اكتفوا بالكتابة، فلكل حزب جيش مدونين يملأون الفضاء الافتراضي
إن تفشي وباء كورونا وحصده للأرواح في خريف تونس 2020 ناتج بالدرجة الأولى عن قرار فتح الحدود لاستقدام السياح في بداية الصيف، فكانت أغلب أقلام المثقفين (الذين يتوهمون قدرة على التأثير تقف مع حكومة الفخفاخ وتطالب بعدم فتح الحدود مستشرفة الخطر بذكاء) كانت الحكومة تسمع لهم وتقرأ ما يكتبون لكنها لم تجد قدرة على القرار ففتحت الحدود وتذرعت بالذرائع الاقتصادية وكانت في الواقع تهرب من أمام ضغط لوبي السياحة الذي لم يكتب مقالًا واحدًا في فيسبوك، فقد فرض هذا اللوبي القوي خياره على الجميع ولم يأت السياح إلى تونس في الصيف ولم يتحسن الوضع الاقتصادي والنتيجة انهيار الوضع الصحي بالكامل، وكلفة ذلك بشريًا واقتصاديًا لا يمكن قياسها أبدًا.
القوة الفعلية صامتة في الفيسبوك وتتحرك في كواليس السياسة تحت طاقية إخفاء اقتصادية، والمثقفون يكتبون ويحصون عدد الموتى مع وزارة الصحة، ويكبرون وهمهم بالعضوية المناضلة التي تغير الواقع بالقول لا بالفعل.
ويمكن تعديد الأمثلة، فالقوى التي خربت إنتاج الفوسفات لا نراها في الفيسبوك لكنها خربت أهم قطاع اقتصادي منتج بصمت افتراضي وفعل مثابر على الأرض، ولو أحصينا عدد المقالات التي حللت الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي دمر إنتاج الفوسفات وتسويقه لوجدنا آلاف المقالات، لكن قبيلة صغيرة العدد تتحرك بعصبية ما قبل الدولة تملك الشاحنات كانت أقوى من كل نخبة الكتابة الافتراضية.
السياسيون الافتراضيون اكتفوا بالكتابة
السياسيون الظاهرون في الصورة مثل المثقفين الافتراضيين اكتفوا بالكتابة، فلكل حزب جيش مدونين يملأون الفضاء الافتراضي وكل ينعت الآخر بالذباب الافتراضي ويختصمون بشأن أسبقية البيضة والدجاجة، لكنهم يعجزون أمام معضلة الفوسفات مثلما يعجزون أمام النقابات التي لا تكتب وأمام لوبي السياحة ولوبي التوريد العشوائي الذي لا يفتح الفيسبوك. يطيب لهم أن يوجهوا جيوشهم إلى خصام حزبي يستهلك الجهد والوقت لكي لا يواجهوا اللوبيات الفاعلة على الأرض.
ويزيد السياسيون خطوة أخرى أنهم يطلبون من المثقفين أن يكتبوا لهم ما يحبون فالمثقف عندهم مفيد وصديق إذا مجدهم وروج لهم وهو عدو وخصم لدود إذا استقل عنهم أو نقدهم وذكرهم بحقيقة وضع البلد الذي يهربون من مواجهته، فهمهم البحث عن مثقف مرتزق أو شاعر مداح على عادة السلاطين الغابرين.
أولى خطوات الوعي هي الخروج من منطقة الإيهام بالتأثير الفعلي عبر الكتابة في الفيسبوك والعودة عمليًا إلى الشارع
تهم الجهل والغرور والتكبر جاهزة لإلصاقها بكل مثقف مستقل لا يكتب لهم والجيوش الافتراضية جاهزة لهتك العرض.
إن الأحزاب السياسية التونسية لا تنتج مثقفيها لذلك تود أن تستخدم الأقلام المستقلة، وعجزها هذا دليل آخر أن تأثير الافتراضي يساوي صفرًا، فعشر سنوات من الحرية كفيلة بإنتاج نخبة حزبية مثقفة تغني الأحزاب عن توسل المثقفين المستقلين، لكن على الأرض لم نجد هذا المنتج الحزبي، فالوجوه المتصدرة هي نفسها والخطاب نفسه، يكرر الجمل السياسة ذاتها منذ ما قبل الثورة، عشر سنوات من الفقر الفكري المستريح إلى لغو افتراضي.
هل نتوقف عن الكتابة؟
صيغة السؤال تتضمن إيمانًا بدور فعلي أي باستمرار الوهم إياه، لكن أولى خطوات الوعي هي الخروج من منطقة الإيهام بالتأثير الفعلي عبر الكتابة في الفيسبوك والعودة عمليًا إلى الشارع، لكن الدوافع التي جعلت المثقفين (إن كانوا فعلًا كذلك) يستسلمون إلى النضال الافتراضي لا تزال قائمة في نفوسهم ولا يبدو أن هناك مؤشرات إلى بلوغ الوعي بالقصور مداه، وعلامة ذلك تواصل الشتات والفرقة بينهم، فهم لا يلتقون حول شيء رغم أنهم قد يكتبون مقالات متطابقة في غرض واحد، لكن اتفاق الكتابة لم ينتج اتفاقات فعل على الأرض، وفي غياب مثل هذا التوافق النضالي الميداني فإن الوهم سيستمر، فاللوبيات تحكم في البلد والمثقفون يلعنونها في الافتراضي وينامون فرحين بتغيير الواقع، لذلك يصبح التواضع أمام الحقيقة خطوة ضرورة نحو احترام الذات.
هذه الغربة يجب أن تنتهي هنا، فاحترام الناس الغارقين في همومهم اليومية القاسية وهم يواجهون الوباء عزلًا من كل قوة سياسية ومالية يبدأ بالتوقف عن بيعهم الأوهام، وأكبر الأوهام أن المثقف التونسي الافتراضي يغير الواقع بالكتابة وحدها، وتلك الجملة اللذيذة التي يؤسس عليها الافتراضيون قولهم (الفيسبوك أسقط بن علي) يجب أن تكون أول جملة يمحوها المثقفون من قاموسهم النضالي، لقد سقط لأن اللوبيات المتنفذة رأت ذلك مفيدًا لها، فسمحت للمثقفين بوهم التأثير وجنت مكاسبها من صراخهم، وهي تمسك الدولة وتفعل بها ما تشاء وتشرب نخب نضال المثقف العضوي في الفيسبوك.