في العام 1992، كان المتوقع أن تكون الانتخابات الرئاسية بمثابة نزهة انتخابية للرئيس الأمريكي جورج بوش “الأب”، رجل قادم من انتصار ساحق في حرب الخليج الثانية، سقطت في عهده إمبراطورية الشر السوفيتية، كما أنه يخوض ولاية ثانية، ما يعني أن له الميزة في جلب الأنظار باعتباره الرئيس الموجود فعلًا، وإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، سيحصل الرئيس على ولاية ثانية مريحة، خاصة أن المنافس شاب مجهول من ولاية أركانساس، هارب من حرب فيتنام يدعى بيل كلينتون.
لكن المفاجأة وقعت حين فاز ذلك الشاب بأغلبية مريحة، محققًا 43% من الأصوات مقابل 37% لبوش و18% للمرشح المستقل روز بيروت.
كان مرد ذلك الفوز ببساطة أن بوش لم يركز بما يكفي على عامل الاقتصاد الذي يحدد وجهة الناخبين الأمريكيين، وفي ظل الاقتصاد المرهق من الحرب الباردة والعجز الذي وصل إلى 300 مليار دولار، ركز كلينتون برنامجه على هذا الجانب بنصيحة من مدير حملته جيمس كارفيل التي جاءت بشعار بسيط لا يخلو من سخرية: “إنه الاقتصاد أيها الغبي”!
لماذا قد يفوز ترامب؟ الأمريكيون من ينتخب ليس نحن!
مع الإقبال غير المسبوق في الانتخابات المبكرة التي وصل عدد المصوتين فيها حتى 14 من أكتوبر/تشرين الأول 14 مليون ناخب، لا تزال التوقعات واستطلاعات الرأي تتأرجح بين مرشح الحزب الجمهوري الرئيس الحاليّ دونالد ترامب ومرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، وستبقى هذه الاستطلاعات تتأرجح بالطبع إلى حين وصول رئيس فعلي، كما وصفها الرئيس السابق بوش الابن بأنها مثل قياس نبضات القلب.. تتأرجح حسب الظروف ولا دلالة لها على شيء!
ما العامل الرئيس في وجهة الناخب؟ بحسب البروفيسور مايكل باسكين الزميل الأقدم في معهد هوفر والأستاذ بجامعة ستانفورد: “سيلعب الأداء الاقتصادي للولايات المتحدة دورًا حاسمًا في الانتخابات. إذا ظل الاقتصاد قويًا والبطالة عند أدنى مستوى لها منذ 50 عامًا لجميع العمال وأدنى مستوى لها على الإطلاق بالنسبة للأمريكيين من أصل إفريقي وإسباني، فإن الرئيس دونالد ترامب لديه فرصة جيدة لولاية ثانية”.
كيف ذلك؟ بالنظر للأرقام التي حققها دونالد ترامب، تميل الكفة لصالحه قليلًا، باحتساب عوامل الاضطهاد العنصري وجائحة كورونا، وكلها عوامل تسير ضده طبعًا.
البطالة
في فبراير/شباط من هذا العام – أي قبل جائحة كورونا -، بلغ معدل البطالة 3.5%، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من 50 عامًا، وخلال عهد ترامب، في السنوات الثلاثة التي سبقت الوباء، كان هناك 6.4 مليون وظيفة إضافية، لكن كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم، أدت إجراءات إغلاق فيروس كورونا بسرعة كبيرة إلى ارتفاع مستويات البطالة في الولايات المتحدة.
وقفز المعدل إلى 14.7% في أبريل/نيسان، وهو أعلى مستوى منذ الكساد الكبير في الثلاثينيات، تقول وزارة العمل الأمريكية إن أكثر من 20 مليون شخص فقدوا وظائفهم، ما قضى على عقد من مكاسب التوظيف في شهر واحد، لكن إدارة ترامب تداركت الأمر، ومنذ الذروة في أبريل/نيسان تراجعت البطالة بشكل ملحوظ إلى 7.9% في سبتمبر/أيلول.
أجور العمال
يقول الخبير الاقتصادي ديفيد هندرسون الذي خدم في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس رونالد ريغان: “سياسات الإدارة بشأن التخفيضات الضريبية وإلغاء القيود كانت جيدة لكل من وول ستريت وماين ستريت”، وقال إن التحسن الكبير جاء رغم الحرب التجارية الباهظة الثمن، والنتيجة جاءت بعيدة كل البعد عما توقعه البعض.
بعد انتخاب ترامب، نمت الأجور الحقيقية (المعادلة للتضخم) طوال السنوات الثلاثة الأولى لترامب في المنصب – في اتجاه تصاعدي ثابت -، فبلغ هذا النمو 2.1% سنويًا في فبراير/شباط 2019 قبل انتشار الوباء، لكن إغلاق فيروس كورونا أدى إلى فقدان الأمريكيين ذوي الدخل المنخفض وظائفهم بمعدل غير متناسب في أعقاب الانكماش الاقتصادي، ومع خروج أصحاب الأجور المنخفضة من وظائفهم، انحرف متوسط أجور الساعة صعودًا بشكل حاد ليصل معدل الأجور في أغسطس/آب 29 دولارًا للساعة، ثم بدأ بالتراجع منذ ذلك الحين، مع تخفيف القيود الاقتصادية.
معدل الفقر
في عام 2019، انخفض عدد الذين يعيشون في فقر داخل الولايات المتحدة بنحو 4.2 مليون شخص مقارنة بالعام السابق، وفقًا للبيانات الرسمية، وهو انخفاض كبير جدًا، فبحسب مكتب الإحصاء الأمريكي لم تصل بيانات الفقر لمثل هذه الأرقام منذ نهاية الخمسينيات، وكان أكبر انخفاض في عام واحد عام 1966 في أثناء إدارة الرئيس ليندون بي جونسون، عندما انتشل ما يقرب من 4.7 مليون شخص من الفقر.
شهدت قوة الاقتصاد في عهد الرئيس ترامب (على الأقل حتى وصول الوباء) صعودًا مطردًا أدى إلى انخفاض مستمر في معدل الفقر، رغم ذلك يخفي هذا الرقم القومي الإجمالي اختلافات واسعة عبر المناطق والمجموعات العرقية في أمريكا، ففي عام 2019، بينما تم تعريف 10.5% من السكان على أنهم يعيشون في فقر، كان الرقم بالنسبة للأمريكيين السود 18.8 وللأمريكيين البيض (غير اللاتينيين) 7.3%.
(الأرقام الخاصة بعام 2020 ليست متاحة بعد، لكن من المتوقع أن تظهر ارتفاعًا حادًا في مستوى الفقر نتيجة للوباء).
التصنيع
انخفض التصنيع بنسبة 1.2% خلال ربعين حتى منتصف عام 2019 ، قبل أن يتعافى جزئيًا في الربع الأخير المبلغ عنه، لكن بشكل عام، ارتفع التصنيع في ظل إدارة ترامب، وكان ذلك أسرع مما كان عليه قبل توليه الرئاسة.
ارتفع التصنيع بنسبة 3.6% خلال سنوات ترامب الثلاثة، وهو ما يزيد على ضعف الارتفاع بنسبة 1.7% في السنوات الثلاثة تحت حكم أوباما قبل ذلك، وفقًا لبيانات حكومية، كما ارتفعت العمالة الصناعية في عهد ترامب، حيث تم خلق 487 ألف فرصة عمل صناعية، وفي المقابل، في السنوات الثلاثة التي سبقت ولاية ترامب، ارتفعت العمالة الصناعية بمقدار 287 ألف وظيفة فقط.
سوق الأوراق المالية
تُظهر الأرقام أن سوق الأسهم نما بنسبة 31% في 807 أيام تداول قبل انتخاب ترامب، لكنه نما بنسبة 56% في 807 أيام تداول بعد ذلك، حتى الذكرى السنوية الثالثة لتنصيب ترامب.
يُظهر الخط الأزرق الاتجاه قبل انتخاب ترامب، والخطوط الحمراء منذ ذلك الحين. يستثمر أكثر من نصف الأمريكيين في سوق الأوراق المالية، إما بشكل مباشر وإما من خلال صناديق التقاعد الأخرى، وخلال شهر فبراير/شباط، استمر سوق الأسهم في الصعود مقابل ارتفاعات جديدة، حيث يسير الشهر على المسار الصحيح ليكون أحد أقوى الأسواق وفقًا للمعايير التاريخية.
يبدو إذن من الأرقام أن دونالد ترامب حقق قفزة مذهلة في الاقتصاد، قفزة تلامس حياة الناخب العادي وتوازي تلك التي حققها أوباما خلال الأزمة الاقتصادية عام 2008، بل وتتفوق عليها أحيانًا، وقد يكون من اللافت أن الديمقراطيين يواجهون خصمًا يصارعهم بسلاحهم المفضل “الاقتصاد”!
“لطالما وجه الديمقراطيون سياساتهم لإفادة الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وهم يعتقدون أن الحد من عدم المساواة في الدخل هو أفضل طريقة لتعزيز النمو الاقتصادي” تقول كيمبرلي أماديو، أحد أكبر المحللين الاقتصاديين في موقع “The balance”، “يعتمد هذا الاعتقاد على فكرة أن الأسر ذات الدخل المنخفض تميل إلى إنفاق أموال إضافية على الضروريات، مما يزيد الطلب بشكل مباشر.
يدعم الديموقراطيون أيضًا النظرية الاقتصادية الكينزية التي تقول إن الحكومة يجب أن تشق طريقها للخروج من الركود”، وفي الوقت الذي كان فيه الجمهوريون يعتمدون كثيرًا على السياسات الخارجية أو الأزمات – بإشعالها أو إخمادها – مثل ريغان وقت الحرب الباردة ونيكسون في أزمة فيتنام وبوش الابن في غزو العراق، فإن ترامب القادم من عالم تجارة الأعمال يعرف على ما يبدو من أين تؤكل الكتف: “إنه الاقتصاد أيها الغبي”!