ترجمة وتحرير نون بوست
ليس غريبا أن تزدهر الموسيقى مجددا في السودان، وهي التي كانت دائما حاضرة بقوة في المشهد الثقافي والسياسي وقدّمت فكرة عن هذا البلد الأفريقي للعالم. في منتصف القرن الماضي، كانت الموسيقى السودانية من بين الألوان الموسيقية الأكثر حيوية وتنوعًا وتأثيرًا في العالم. خلال فترة الستينيات والسبعينيات، أي بعد استقلال السودان سنة 1955، اندمجت التقاليد القديمة مع التطلعات السياسية الجديدة، مما أفسح المجال لتعيش البلاد عصرا ذهبيا.
يقول فيك سوهوني، مؤسس شركة اوستيناتو ريكوردز، وهي شركة تسجيل تركز على الموسيقى في البلدان الأفريقية التي عانت من الاضطرابات والتهجير: “اللغة التي يتحدثها الناس ليست اللغة العربية، بل لغة الموسيقى”. سنة 2018، أصدرت الشركة ألبومًا بعنوان “نيلان يغنيان لحنا”، يضم مجموعة من أشهر الأغاني في العصر الذهبي للموسيقى السودانية.
صورة لآمال طلسم، عضوة فرقة البلابل السودانية وهي تحمل صورتها عندما كانت الفرقة في بداياتها أوائل السبعينيات.
كانت الألحان السودانية وأشهر الفنانين موضع تقدير واحترام في معظم أنحاء القارة. كان هذا هو الحال بشكل خاص فيما يسمى بالحزام الثقافي السوداني، وهي منطقة تمتد على طول الطريق من جيبوتي في القرن الأفريقي إلى موريتانيا في الشمال الغربي. لكن لم يدم هذا المجد طويلا. سنة 1983، وضع جعفر نميري، العقيد الذي استولى على الحكم بعد انقلاب 1969 وحكم البلاد حتى سنة 1985، تفسيرًا متطرفًا للشريعة الإسلامية. لهذا السبب، شهد المشهد الموسيقي في البلاد نكسته الأولى.
بعد استيلاء الزعيم المتشدد عمر البشير على السلطة سنة 1989، تعرضت أغاني الستينيات والسبعينيات لعملية طمس وتغييب ممنهجة. أضحت الموسيقى أداة دعائية، وتعرّض العديد من الموسيقيين للمضايقة والممارسات القمعية، ناهيك عن إجبار بعضهم على ترك البلاد واغتيال البعض الآخر.
يقول سوهوني “وقع طمس الهوية الثقافية للسودان على مستوى العالم”. ويضيف: “عندما يأتي ذكر السودان، لا يتبادر في الأذهان إلا الصراعات والإبادة الجماعية وكل هذه الأمور التي تشكل جزءا من تاريخ البلاد، ولكن هناك أشياء أخرى تميز هذا البلد… عندما نتحدث عن الموسيقى الأفريقية، تُذكر نيجيريا وجنوب إفريقيا وربما مالي والسنغال. لكن السودان ظل مهمشا”.
خلال السنوات الأخيرة، ظهرت بعض المبادرات لإحياء التراث الموسيقي السوداني، وخاصة في أعقاب الثورة السودانية التي أطاحت بالبشير في نيسان/أبريل 2019. أحدها مشروع “أصوات من السودان” والذي أُطلق سنة 2018 بهدف أرشفة الإرث الموسيقي في السودان وحفظه من الضياع.
صورة لفيك سوهوني (على اليمين)، مؤسس شركة اوستيناتو ريكوردز، ومنسق المشروع أحمد أسيوطي (على اليسار) في لقاء مع المطرب عماد يوسف في منزله بالخرطوم سنة 2017.
يقول حاتم العجيل مؤسس المشروع: “بشكل عام، لم تحظ الموسيقى السودانية بتوثيق جيد، الكثير من الموسيقى السودانية لم يتم أرشفتها بطريقة منظمة”. وأضاف أن الأرشفة الموسيقى ليست أمرًا حيويًا للتراث الموسيقي السوداني فحسب، بل إنها “تعطينا فكرة أفضل عن حياة الناس في السودان وطريقة تفكيرهم في الماضي. وتتيح لنا التعرف على القدرات الموسيقية للشعب السوداني”.
يتضمن أرشيف العجيل الأغاني الخمس التالية، والتي تميز العصر الذهبي للسودان في ال30 سنة التي أعقبت الاستقلال.
حبيبي اكتب لي، إبراهيم الكاشف
ولد إبراهيم الكاشف، الملقب بالأب الشرعي لفن الغناء الحديث في السودان، في بداية القرن العشرين في مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان. وقد برز الكاشف في أعقاب ما يُعرف بموسيقى الحقيبة، وهي أسلوب تقليدي تطور في السودان خلال العشرينيات والثلاثينيات، وساعد في إرساء أسس الموسيقى السودانية الحديثة.
كلمات أغنية “حبيبي اكتب لي“، إحدى أشهر أغاني الكاشف، مأخوذة من قصيدة كتبها ابن بلده عابد عبد الرحمن، وفقًا لمشروع “أصوات من السودان”، الذي ترجم كلمات الأغاني. ويقال إن القصيدة كُتبت بعد أن افترق الشاعر عن صديقه المقرب، وهو ما يتجلى في بداية الأغنية:
حبيبي اكتب لي .. وانا اكتب ليك
بالحاصل بي .. والحاصل بيك
الحاصل بي ..انا شوق وحنين
واقيم الليل .. آهات وانين
فارقني حبيب .. آلفني سنين
ماليك امان .. يا دا الزمان
الأغنية مليئة بالإشارات الساحرة إلى صداقتهما والوقت الذي أمضياه معًا:
يا ليالى زمان .. الله عليك
اذكر جلوسنا .. على الربى
نستعرض .. أسراب الظبى
نسمع لهمسات ..الصَبا
ونحنا في .. فجر الِصبا
كما تتناول كلمات الأغنية مشاعر الحزن على الفراق (“بالحاصل بي، انا شوق وحنين/ واقيم الليل، آهات وأنين”) وطريقته في التعامل مع البعد والذكريات:
أنا أكتب ليك .. وأنت أكتب لي
يا وحيد عمري.. مادمت حي
أذكر ودادي
تصبح الكلمات أكثر روعة من خلال الألحان التي تخلق حوارًا بين المغني والموسيقى. ويشير العجيل إلى أنه قبل بروز الكاشف، كانت الموسيقى السودانية تعتمد على عدد قليل من الآلات الموسيقية. لذلك، فقد كان له الفضل في إدخال آلات جديدة، على غرار الكمان الذي لعب دورًا مهمًا في تطوير الأوركسترا السودانية. وفي هذه الأغنية، يدمج المطرب الفلوت والكمان والعود والطنبورة (آلة تقليدية تشبه العود).
عموما، ساهمت هذه الأغنية وعدة أغان أخرى، في أن يصبح الكاشف واحدًا من أفضل المطربين السودانيين في الفترة التي سبقت الاستقلال.
يا وطني، سيد خليفة
ولد سيد خليفة سنة 1928 بالقرب من الخرطوم، وهو أحد أشهر المطربين والملحنين في العصر الذهبي للموسيقى السودانية. وقد أصبح من أوائل المطربين السودانيين الذين تلقوا تعليمًا موسيقيًا أكاديميا – بدلاً من الطريقة التقليدية التي تعتمد الاستماع والترديد – بعد أن حصل على منحة للدراسة في معهد الموسيقى العربية الشهير في القاهرة سنة 1947.
استخدم خليفة العربية الفصحى واللهجة السودانية في أغانيه. وبفضل الإعلام المصري الذي برع في الجمع بين التأثير الثقافي والسياسي في عهد جمال عبد الناصر من خلال الترويج للفنانين الذين دعموا النظام وأجندته، تردد صدى صوت خليفة القوي في جميع أنحاء العالم العربي.
ومن أشهر أعماله، أغنية “يا وطني“، والتي تعتبر واحدة من أكثر الأغاني الوطنية شعبية في السودان، وهي إحدى المقطوعات الموسيقية التي ألّفها إبان استقلال السودان والتي صنعت شهرته. هذه الأغنية التي كتبها إبراهيم رجب، هي قصيدة تمجّد الوطن، وتبدأ بلمحة رومانسية عن أيام الشباب ” بتذكر فيك عهد صبايا على شاطئ النيل حبيبى جالس حدايا أسمر وجميل”.
يمدح خليفة بلاده ويتغزل بجمالها:
قلبي هايم في غرامك
أنا بفخر فيك..
بالروح أفديك..
ويعلن خليفة إخلاصه للسودان مهما كان بعيدا – “في وجودي أريدك، وغيابي”، مشيرا إلى الفترة التي قضاها بعيدا عن وطنه.
استخدمت في الأغنية عدة آلات تقليدية مثل الكمان، وآلات حديثة مثل غيتار البيس الكهربائي والبيانو والساكسفون والأكورديون، هو مثال جيد على النمط الموسيقى السوداني في تلك الفترة.
وعلى الرغم من طبيعتها كأغنية وطنية، تم حظرها بمجرد تولي البشير السلطة في السودان، إلا أن رجب أفلت من السجن بسبب تقدمه في السن وشهرته.
3. طفل العالم الثالث، مصطفى سيد أحمد
ولد مصطفى سيد أحمد في ولاية الجزيرة وسط السودان، وهو أحد أشهر المطربين والملحنين السودانيين. ومثل غيره من الفنانين في عصره، كان موسيقيًا ملتزما وسياسيًا نشطا، وخصص الكثير من أغانيه لمعالجة قضايا بلده، مثل العدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق، والنضال ضد الدكتاتورية العسكرية.
غادر أحمد الذي توفي عن 43 عاما، السودان في سنة 1989، وهي نفس السنة التي تولى فيها البشير السلطة، لتلقي العلاج الطبي في روسيا، لكنه لم يعد إلى بلده أبدا، بل انتقل إلى مصر، ثم استقر في قطر حيث أمضى أيامه الأخيرة وقام بتأليف عدد من الأغاني التي تتحدث عن بآلام الغربة.
وفقًا لمشروع “أصوات من السودان”، فإن أغنية طفل العالم الثالث كتبت كلماتها الشاعرة السودانية ليلى المغربي، وهي جزء من ألبوم صدر سنة 1992، وقد غناها أحمد مع ثلاثة فنانين آخرين، وجسدت انشغاله بقضايا العدالة الاجتماعية.
تتحدث كلمات الأغنية عن انعدام الفرص المتاحة لأطفال العالم الثالث: (“أنا جيل المعاناة / ويومي ما له بعد / وعمري ما له وعد”). كما تتحدث عن الظروف المعيشية السيئة:
خيام الرياح أبياتي
وأحجاري أثاثاتي
تداول دورة الأيام نقماتي ومأساتي
فقرص الخبز قرص الشمس ينأى عن حشاشاتي
كما تؤكد الأغنية على الالتزام بالقضية: “فصوغوا وقع موسيقاكم المحزون من رجع استغاثاتي”، وقد تردد صدى هذه المشاعر في العديد من الأغاني خلال تلك الفترة.
4. “اللبيسأل ما بتوه”، فرقة البلابل
تعتبر فرقة البلابل من الفرق الموسيقية الأكثر شعبية في البلاد، حيث تتألف من ثلاث شقيقات سودانيات من أصل نوبي، آمال وهادية وحياة طلسم.
ولدت الشقيقات في أم درمان، ومنها بدأت رحلتهن سنة 1971، عندما طلب منهن الملحن وعازف العود بشير عباس الانضمام إلى فرقة فولكلورية.
عادة ما يُعزى النجاح الكبير الذي حققته الفرقة إلى الأصوات الرنانة والأداء المميز والفساتين الجميلة والأغاني الرائعة – بعضها من كتابة أفضل الملحنين السودانيين – التي قدمها الثلاثي.
مع حرصهن على عدم طرح القضايا السياسية في كلمات أغانيهن، أصبحت أمل وهادية وحياة أيقونات للمرأة السودانية، إذ حققن انتشارا واسعا في رغم الطبيعة المحافظة للمجتمع السوداني. ويشير العجيل إلى ظهور مغنيات أخريات قبل فرقة البلابل، لكن لم يسبق لأي منهن أن حققن شهرة تضاهي ما حققه الثلاثي.
تعد أغنية “البسأل ما بتوه”، التي ألفها عباس، من أول أغاني الفرقة، وعنوانها مستوحى من مقولة عربية تُستخدم لتشجيع الناس على عدم الخوف من طرح الأسئلة. تروي كلماتها الرومانسية قصة إنتظار الحبيب: “كان سألت علينا كنت عرفت نحنا الليلة وين/ لسا مستنين تجينا ناسي طالبنك زيارة”.
5. “سلم مفاتيح البلد” محمد وردي
ينحدر محمد وردي من مدينة وادي حلفا النوبية، التي تقع شمال السودان بالقرب من الحدود مع مصر. يُعتبر وردي من بين أكثر المطربين والشعراء والناشطين تأثيرا خلال العصر الذهبي للبلاد.
محمد وردي، أيقونة الموسيقى السودانية الذي كان يعيش في المنفى، خلال جلسة تسجيل في الخرطوم سنة 2011.
في الخمسينيات من القرن الماضي، استقر وردي في الخرطوم، المدينة التي صنعت شهرته بعد أن بدأ فيها مشواره الفني. أصبح المغني النوبي أيضًا أحد أشهر الموسيقيين السودانيين في الخارج، وكان يتمتع بشعبية كبيرة. ويتذكر سوهوني أنه قدم حفلا في ملعب يتّسع لـ60 ألف متفرج في العاصمة الكاميرونية ياوندي أمام جمهور فرنكوفوني.
ترتبط مسيرة وردي الفنية ارتباطا وثيقًا بنشاطه السياسي، بصفته يساريا وعضوا في الحزب الشيوعي. ولطالما تعرض للاعتقال والسجن، وكانت أغانيه في بعض الأحيان تخضع للحظر والتهميش. في سنة 1989، أصبح من أوائل الفنانين الذين أجبروا على العيش في المنفى، إذ طلب اللجوء في القاهرة بعد الانقلاب العسكري، قبل أن يعود إلى بلاده بعد سنوات طويلة في المنفى.
كتب كلمات “سلم مفاتيح البلد” الشاعر السوداني الشهير محمد المكي إبراهيم، وقام بأدائها وردي لأول مرة سنة 1997 خلال فترة نفيه في مصر.
يبدو أن الأغنية موجهة إلى البشير نفسه، إذ تنتقد كلماتها النظام بشكل واضح: “سلّم عباياتنا وملافحنا/ مصاحفنا ومسابحنا/ تراث أجدادنا/ عقول أولادنا/ أحلامنا العشناها”.
كما تشير الكلمات أيضا إلى “الوطن العزيز الجاع” و”شعب سقاك لبنه وسقيته من الهوان والجوع”، وتتساءل الأغنية “حتهرب وين وانت ايدينك الإتنين ملوثة دم”.
“وليك الشعب متلملم ومتحزم” كما لو كانت هذه الكلمات تتنبأ بالوضع الحالي الذي تعيشه البلاد. تم إحياء الأغنية خلال انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر 2018 التي أطاحت بالبشير، ما دفع الفنانة السودانية زوزيتا لإنتاج نسخة شعبية للأغنية بلمسة حديثة.
خلال الاحتجاجات التي اندلعت في السودان قبل سنتين، أحيا الفنانون العديد من أغاني العصر الذهبي، ويقول سوهوني: “أعتقد أنهم وجدوا أن هناك فصلا من تاريخهم الفني يمكنهم إحياؤه واستغلاله، وأنه لا يجب فقط أن ينظروا إلى المستقبل. لعلهم قالوا، لدينا أغاني جميلة في الستينيات والسبعينيات. دعنا نرى كيف نعيد إليها الحياة ونحن نبني السودان ونتخلص من إرث البشير”.
المصدر: ميدل إيست آي