حياة البشر غالبًا ما تكون فوق اليابسة، فإن رأيت إنسانًا فوق البحر أو في السماء فذلك للضرورة (ترفيهًا أو عملًا)، هذه هي القاعدة، لكن في هذه الحياة دائمًا ما يوجد استثناءات، والاستثناء هذه المرة نجده عند شعب “الباجاو” أو ما يطلق عليهم “غجر البحر” أو “بدو البحر”.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست”، ضمن ملف “حكايا الشعوب”، سنتحدث عن شعب خالف العادة واختزل حياته في البحر، فيه يعيشون ويموتون، مشتتين سياسيًا بين دول آسيوية عدة دون أوراق جنسية ولا بطاقات هوية.
لا أوراق ثبوتية
سنة 1521، اكتشف المستكشف والرحالة الإيطالي أنطونيو بيجافيتا الذي كان جزءًا من الرحلة الأولى للإبحار حول العالم، شعبًا جديدًا في سواحل جنوب شرق آسيا، لا يشبه أفراده أي فرد آخر على كوكب الأرض، لديهم القليل من الإحساس بالوقت والعمر، فلا يكاد يكون لديهم أي ساعات أو تقويمات أو أعياد ميلاد وما شابه ذلك.
يعيش هذا الشعب الذي يعرف باسم “شعب الباجاو” أو “شعب ساما باجاو” في مياه جنوب شرق آسيا، تحديدًا منطقة أرخبيل سولو ومجموعة جزر مينداناو التابع لدولة الفلبين، وجزيرة بورنيو (سياسيًا هذه الجزيرة مقسمة بين إندونيسيا وماليزيا وبروناي)، متوزعين بين إندونيسيا والفلبين وماليزيا.
وضعهم غير القانوني لا يترك لهم إلا القليل من الخيارات، فهم مجبرون على مواصلة أسلوب حياتهم المتنقل في البحر
تعتبر هذه المجموعة واحدة من أكبر المجموعات العرقية اللغوية وأكثرها تنوعًا في جنوب شرق آسيا، وبسبب تنقلهم وتوزعهم الواسع عبر أرخبيل المنطقة، وتصنيفهم غير المتسق داخل وعبر الحدود السياسية، من الصعب الحصول على رقم دقيق لعددهم، لكن توجد إحصاءات بناءً على معايير اجتماعية ولغوية مختلفة تقدرهم بـ95 ألف شخص.
يتحدث شعب “الباجاو” أكثر من لغة ضمن اللغات الأسترونيزية، ويشكلون مجموعات أشهرها “سيناما” و”باهاسا”، ويمكن لمجموعات شعب الباجاو أن تفهم لغة بعضها بعضًا، وتقول بعض المراجع التاريخية إنهم من السكان الأصليين في أرخبيل سولو وأجزاء من مينداناو.
لا يعترفون بحدود برية ولا بحرية ولا مكان عندهم لمصطلح “وطن”، فهم مشتتون سياسيًا وجغرافيًا بين دول آسيوية عدة ما جعلهم دون أوراق جنسية ولا بطاقات هوية ولا انتماءات لأي دولة كانت إلا البحر الذي يعيشون فيه.
شعب مهاجر يقيم في المياه، ينجرف أهله من مكان إلى آخر ويبقون غير مرتبطين بأي معنى رسمي بأي من البلدان التي يعيشون على ضفافها، ما جعلنا أمام شعب فريد يتوارث أهله قصتهم من جيل إلى جيل بطريقة شفوية.
وضعهم غير القانوني لا يترك لهم إلا القليل من الخيارات، فهم مجبرون على مواصلة أسلوب حياتهم المتنقل في البحر، بعد أن حُرموا من الأوراق الثبوتية وملكية الأراضي الزراعية والرعاية الصحية والتعليم.
سكان البحار
في أثناء اكتشاف هذا الشعب قال البحارة الأوروبيون إنهم أمام مجموعة بشرية فريدة، لا يعرفون إلا البحر الذي أبحروا فيه لآلاف السنين في جنوب شرق آسيا، يمارسون صيد السمك والغطس ويعيشون في تناغم مع المياه.
مباشرة بعد الولادة، يتعلم الأطفال المشي، لكن عند الباجاو يتعلم الأطفال السباحة قبل المشي وقبل كل شيء، كما أنهم يتعلمون التجديف في سن مبكرة جدًا، ويمضون وقتًا كبيرة من حياتهم تحت الماء فتعتاد عيونهم على التركيز من دون النظارات الواقية، ويقدمون على تمزيق طبلة الأذن لتسهيل الغوص.
يعيش الباجاو فوق قواربهم أو في مساكن صغيرة مبنية على ركائز متينة فوق الماء، ويرسون في مجموعات في مراسٍ مشتركة في جميع أنحاء المنطقة، ومن أجل الأمن والسلامة وكي لا تستغل مواردهم الطبيعية بشكل مفرط، فإنهم عادة ما يتحركون في مجموعات صغيرة تتكون من 10-20 زورقًا، كل قارب يضم أسرة واحدة.
يمارسون الصيد في المناطق البحرية المفتوحة بين الفلبين وإندونيسيا وماليزيا، فممارسة الصيد عندهم عبارة عن تقليد ضروري لتحديد هويتهم، وهو تقليد أساسي لوجودهم الروحي ومعتقداتهم الدينية، كما أنه عبارة عن صلة مباشرة مع الآباء والأجداد.
تأخذهم رحلات الصيد بعض الأحيان حتى شمال أستراليا، حيث يتنقلون حسب أحوال الطبيعة وتوافر السمك، وتستمر الرحلات لأسابيع عدة، وبعد الرجوع من رحلات الصيد، يُحضر الباجاو حصيلة صيدهم إلى أحد أسواق جزيرة سيمبورنا الماليزية حيث يبيعون الشعاب المرجانية وخيار البحر وأصداف اللؤلؤ لتصديرها، كما يقايضون أغراضهم بالأرز والمال وبعض الطعام.
يتميز شعب “الباجاو” الفريد بمعرفته الدقيقة بالمحيطات والبحار والأنهار، وبدلًا من الدقائق والساعات، يعتمد الباجاو حركة المد والجزر مقياسًا للوقت، لذلك لا يعرف الأهالي عمرهم بدقة، فلا أهمية لهذا الأمر بالنسبة لهم.
لهم قدرة على الغوص على عمق عشرات الأمتار تحت الماء دون مساعدات غطس تقليدية وعلى البقاء تحت الماء أكثر من 15 دقيقة بنفس واحد، ويعود سبب تحملهم لضغط المحيطات الكبير في الأعماق إلى تمزق طبلة الأذن منذ صغرهم وتعلمهم الغوص في المحيطات في سن مبكرة، وتلاؤم عيونهم مع ملوحة البحار، فضلًا عن التغيرات الجينية التي جاءت نتيجة تكيفات تطورية ناشئة عن الانتقاء الطبيعي.
في الواقع، لقد تطوروا ليعيشوا تحت الماء بطرق تجعلهم متميزين علميًا عن غيرهم من البشر، حيث وجدت أبحاث منشورة في مجلة علمية عام 2018 أن أهالي الباجاو لديهم طحال (يوفر الطحال الأكبر مزيدًا من الأكسجين في دمائهم للغطس) أكبر بنسبة 50% من متوسط سكان المناطق المجاورة.
أساطير البداية
لا أحد يعلم سبب اختزال حياتهم في البحر، لكن توجد أساطير عديدة في هذا الشأن، إحداها تقول إن رجلًا كان اسمه الحقيقي “باجاو”، رجل كبير جدًا، دخل إلى الماء ثم تبعه شعبه لأن كتلة جسمه ستحل ما يكفي من الماء بحيث يفيض النهر، مما يسهل على الناس جمع الأسماك.
أسطورة أخرى تقول إن شعب الباجاو كان يسكن اليابسة ويحكمهم ملك له ابنة بعد أن ضاعت إما جرفها في البحر (بسبب عاصفة أو فيضان) أم أسرها من مملكة مجاورة، فأمر الملك شعبه بالبحث عنها، فرحلوا إلى البحر، لكنهم لما فشلوا في العثور عليها قرروا البقاء فيه خوفًا من الملك.
تتجنب هذه المجموعة البحرية بوعي أنماط الحياة المستقرة، لأن القيام بذلك سيؤدي في النهاية إلى الاستيعاب في المجتمعات القائمة على الأرض
رواية أخرى رُوِيت على نطاق واسع، تقول إن شعب الباجاو ينحدرون من حراس الملك الجوهريين الذين كانوا يرافقون أميرة في طريقها للزواج من حاكم في جزيرة سولو، لكن سلطان مملكة بروناي وقع أيضًا في حب الأميرة، فهاجم حراس الملك الجوهريين وأسر الأميرة وتزوجها، فقرر الحراس المرافقون للأميرة، الاستقرار في بورنيو وسولو بدلًا من العودة إلى منطقة جوهور.
أسطورة أخرى، شعبية ومنتشرة بكثرة بين الأهالي، تقول بوجود أميرة جرفها الفيضان، ثم تم العثور عليها وتزوجت في النهاية من ملك أو أمير في غوا الهندية، وأنجبت سلالة الباجاو سكان البحار.
القرصنة
تشمل المهن النموذجية لسكان البحر كما قلنا صائدي الأسماك الساحلية والبحرية وغواصي اللؤلؤ وبناة القوارب وتجار المنتجات البحرية وطاقم السفن، وأحيانًا – لعدم وجود مصطلح أفضل – “القراصنة“.
غالبًا ما يتم ربط شعب الباجاو بالغارات البحرية والقرصنة في جنوب شرق آسيا، حيث كان نطاق أنشطة القراصنة الخاصة بهم واسعًا كونه نشاطًا مربحًا على الأرجح، وقد اعتُبرت القرصنة امتدادًا منطقيًا وثقافيًا لاقتصاد البدو الصيادين، فقد اعتادوا أخذ كل ما يحتاجون إليه من البحار.
تأقلمهم مع البحر وقدرتهم الكبيرة على البقاء فيه لفترة طويلة من الزمن، أدى إلى استغلال القراصنة الأوروبيين لبعضهم في عمليات القرصنة التي انتشرت في بحار جنوب شرق آسيا، بشكل كبير جدًا.
ارتفاع معدل القرصنة جاء نتيجة تفكك الدول الكبيرة مثل أورفيجايا ومالاكا وبروناي وسلطنة سولو، تلاها غياب سلطة الدولة القوية وضمان سبل العيش من خلال التجارة المنتظمة، نتيجة لذلك، أصبحت الغارات البحرية المنظمة راسخة في مجتمع الباجاو المعزول.
تتجنب هذه المجموعة البحرية بوعي أنماط الحياة المستقرة، لأن القيام بذلك سيؤدي في النهاية إلى الاستيعاب في المجتمعات القائمة على الأرض، خاصة أنهم ينظرون إلى طريقة حياتهم الأصلية على أنها تبرز الحرية والشعور بهوية فريدة.
الصيد ليس مجرد تجارة والماء ليس مجرد مورد، فكلاهما يمثل صميم هويتهم، لذلك فإن الحفاظ عليهما لا يتعلق فقط بالحفاظ على الحياة البحرية، لكن ثقافتهم أيضًا، والوطن.