عام مضى على الانتفاضة اللبنانية التي انطلقت شرارتها الأولى في 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحملت شعارها الكبير الذي ينادي بالقضاء على الفساد ومحاسبة المتورطين أيًا كانت طوائفهم تحت شعار “كلن يعني كلن”، وسط آمال تداعب خيال المحتجين بأن التغيير قادم لا محالة.
12 شهرًا حملت معها إحداثيات أحد أصعب الأوقات التي مرت بها البلاد منذ الحروب الأهلية التي شهدتها على مدار تاريخها الحديث، إحداثيات خط التماس لواقعين لم يراوحا مكانهما، واقع سياسي وآخر اقتصادي اجتماعي، بل على عكس المأمول، تهاويا إلى مستويات من التدني لم يعاصرها الجيل الحاليّ، عزز تموضعهما المر إفلاس السلطات والسياسيين بشتى انتماءاتهم وتفجير مرفأ بيروت ثم أزمة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد.
وشهدت الساحة اللبنانية خلال العام المنقضي العديد من التطورات والأحداث التي قوبلت بتفسيرات عدة، بعضها يعتبره انتصارًا للحراك الشعبي فيما يعده آخرون انقضاضًا عليه، وبين هذا وذاك يقبع شعب بأكمله في انتظار حصاد ما زرع وسط حالة من الترقب لما يمكن أن تحمله الأيام القادمة.
وبعيدًا عن تباين وجهات النظر بشأن تسمية ما حدث قبل عام، وما إذا كان انتفاضة أم حراك أم ثورة كما وصفها البعض، إلا أن الجميع يشترك في البحث عن إجابات لأسئلة تفرض نفسها: ماذا تحقق بعد هذا العام؟ وهل وجد المنتفضون ضالتهم التي لأجلها ثاروا وانتفضوا؟ وما أبرز المحطات التي شهدها المسار الاحتجاجي طيلة الأشهر الماضية؟
هذا ما حققه الحراك
في الوقت الذي لا يمكن التأكيد فيه على أن المحتجين نجحوا في تحقيق أهدافهم الكاملة من وراء حراكهم إلا أنه على الأقل يمكن القول إن المشهد بعد 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 ليس كقبله، فالساحة منيت بالعديد من التغيرات الناتجة عما أحدثته الانتفاضة من تحريك لملامح الخريطة على أرض الواقع.
ولعل أبرز النقاط التي سجلها المنتفضون وتأتي تحت شعار “انتصار الحراك” كانت دفع رئيس الحكومة حينها سعد الحريري للاستقالة في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 أي بعد 12 يومًا فقط من الاحتجاجات، وهي النقطة التي عززت من حالة الزخم الشعبي وصعدت منسوب التفاؤل لدى الشارع اللبناني.
وعلى الفور تم الإتيان بحسان دياب رئيسًا للحكومة الجديدة الذي كُلف في 29 من يناير/كانون الثاني الماضي، ليحقق اختياره للأسماء المرشحة للحقائب الوزارية بعض المطالب الثورية، كنها أسماء روج لها على أنها مستقلة ومن أصحاب الاختصاص، ولا تخضع لمعايير المحاصصة التي أزهقت الحياة السياسية للبلاد على مدار عقود طويلة.
لكن الأمور لم تتحرك على النحو المطلوب، فسرعان ما وقعت تلك السلطة في فخ الممارسات القمعية والأمنية، والاستدعاءات المتتالية للقضاء لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، حيث توغل الطائفية مجددًا، لتتفاقم معها الأزمات التي أدت إلى رفع معدلات الجوع والبطالة والفقر التي زادت بطبيعة الحال بسبب تفشي فيروس كورونا.
ضغط الشارع المنتفض كان له تأثير كبير في المسار التشريعي، حيث أقر مجلس النواب اللبناني (البرلمان) خلال العام المنقضي، قانونين لمكافحة الفساد، فُسرا حينها على أنهما محاولة من الأحزاب السياسية لتهدئة الشارع الثائر من جهة، ومحاولة لمغازلة المجتمع الدولي الذي يطالب بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية نظير الدعم المالي من جهة أخرى.
ومن انتصارات الحراك أن بات المواطن أكثر وعيًا بحجم الكوارث والأزمات التي تواجه بلاده، وأصبح أحد الأطراف الفاعلة (قراءةً وتدخلًا وتأثيرًا) في المشهد الذي كان لا يجيد قراءته سابقًا إلا النخبة والباحثين، ما كان يعزز الفجوة بين الشارع والأحداث التي يشهدها.
ويتصدر قائمة الإنجازات التي حققتها الانتفاضة بعد مرور عام عليها، حتى إن تراجع زخمها، أن توحد اللبنانيون على قلب رجل واحد، تحت راية بلد الأرز، لتسقط الشعارات الطائفية وتكسر الجدران الأسمنتية التي بنتها الطوائف على مدار عقود طويلة، مطالبين برحيل الطبقة السياسة برمتها، كلن يعني كلن، وهو الانتصار الذي سيغير الخريطة السياسية للبلاد ويبني عليها انتصارات أخرى مستقبلية خلال المرحلة المقبلة.
السلطة تستوعب الدرس
لم يمر الحراك دون إفساد من المنتفعين، زبائن الثورات والانتفاضات، يحلون أينما حلت، مستغلين الحالة الرخوة التي بات عليها المشهد لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة على حساب أرواح ومستقبل الشعب، ففي خلال هذا العام انفلتت السوق السوداء التي دفعت بالعملة المحلية “الليرة” إلى الهاوية.
وقد شهدت الأشهر التالية للانتفاضة تهاوٍ غير متوقع للعملة أمام الدولار، حيث وصل سعر العملة الأمريكية الواحدة قرابة 8 آلاف ليرة، الأمر الذي انعكس على خريطة أسعار السلع والخدمات فصعدت بها إلى أرقام قياسية، أرهقت كاهل المواطن وأثقلت من معاناته.
وفي هذا الوضع غير الصحي برزت شبكات التهريب، وتعاظمت القيود المفروضة على المصارف، في ظل غياب شبه تام للرقابة والمحاسبة، ليأتي انفجار مرفأ بيروت المثير للجدل في 4 من أغسطس/آب الماضي ليضع الجميع في موقف حرج، حيث تفاقم الأزمة وتوسيع رقعة تداعياتها على المواطن.
التجربة على مدار الأشهر الإثنى عشر الماضية أثبتت أن السلطة وصلت إلى درجة من الاحتراف في التعامل مع أساليب الاحتجاج الشعبي، فباتت تلجأ إلى إستراتيجيات تنفيس الغضب عبر بعض القرارات التي من شأنها تفتيت اللُحمة والإجهاز على جذوة شعلتها، ومن بينها استقالة الحكومات، الحرير ومن بعده دياب، تحت تأثير الضغط الجماهيري.
هذا بخلاف إستراتيجيات التسويف والمماطلة التي أصبحت أحد أبرز الركائز التي يستند إليها السياسيون في التعامل مع مطالب الغاضبين، بجانب إعادة إنتاج الزعماء التقليديين لأنفسهم مستغلين الأزمة المعيشية التي تحياها البلاد، عازفين على أوتار الطائفية واستعادة تشغيل ماكيناتهم الزبائنية التي تعتمد على الدعاية وتقديم المساعدات المادية والعينية المؤقتة لاستعادة شعبيتهم مرة أخرى.
وفي سياق آخر، ربما نجحت السلطة في استيعاب حركات الاحتجاج تلك، لكن في الوقت ذاته زادت من قلق وخوف السياسيين من فكرة التجمعات بصفة عامة، الأمر الذي أفقد المسؤولين حريتهم، إذ أصبح مجرد نزول الشارع مغامرة تحتاج إلى دراسة، خوفًا من رد فعل الشارع، وهو ما يعني قدرة الثورة على تعرية السياسيين والمنظومة الحاكمة برمتها بعدما بات فشلهم يقينًا مستقرًا في أذهان الجميع.
والأخطر من هذا كله أن البلاد في ظل وضعيتها الرخوة تلك فتحت أبوابها على مصراعيها أمام الغزاة القدامى الذين أغراهم المشهد لإعادة أمجاد الماضي الاستعمارية، فكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فوق تراب بيروت بعد أقل من 48 ساعة من انفجار المرفأ، معانقًا بعض أفراد الشعب وزائرًا لرموزه الفنية، ومتحدثًا – دون صلاحيات – بصوت الشارع حيث التعهد بوصول الدعم إلى مستحقيه والادعاء بالقضاء على الفساد، هذا في الوقت الذي فشل فيه هو في معالجة أزمات بلاده الداخلية حيث احتجاجات السترات الصفراء المشتعلة في فرنسا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
وفي سياق آخر، ربما نجحت السلطة في استيعاب حركات الاحتجاج تلك، لكن في الوقت ذاته زادت من قلق وخوف السياسيين من فكرة التجمعات بصفة عامة، الأمر الذي أفقد المسؤولين حريتهم، إذ أصبح مجرد نزول الشارع مغامرة تحتاج إلى دراسة، خوفًا من رد فعل الشارع، وهو ما يعني قدرة الثورة على تعرية السياسيين والمنظومة الحاكمة برمتها بعدما بات فشلهم يقينًا مستقرًا في أذهان الجميع.
وفي المجمل وبعد عام على الانتفاضة فإن ما تحقق ورغم أنه لم يلب طموح الغاضبين لكن يمكن البناء عليه نحو مسار ثوري أكثر قوةً وتأثيرًا، مستندًا إلى انتصار الثورة على الطائفية كأحد مكتسبات الحراك التي يمكن الانطلاق منها لتوحيد الرؤى وتحديد الهدف وبناء إستراتيجيات واقعية تراعي الظروف والملابسات، مع الوضع في الاعتبار غلق الباب أمام الأجندات الخارجية ومساعي إحياء عصور الاستعمار الظلامية.