قال الباحث والمستشرق الفرنسي الدكتور “فرانسوا بورجا” إنّ انبعاث وتجدّد المدّ الجهادي من “تنظيم القاعدة” إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، مرورا بـ “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، وجماعة “أنصار الدين”، إضافة إلى “الجماعة الإسلامية المقاتلة”، يشكّل خلاصة للإقصاء التاريخي لـ “المثلّث السنّي المضطهد” من العراق وسوريا والعالم، فكان أن تحوّل إلى ضحية كنتاج لفشل ثلاثي.
وربط “بورجا” أن أصل المدّ الجهادي المتنامي بداية تسعينات القرن الماضي، بولادة موجة متطرّفة تبنّت، في جزء كبير من العالم العربي، خطابا يتضمّن نوعا من “القطيعة”، سرعان ما تمكّن من الانتشار، حالما برزت “ثلاثية الفشل”.
أوّلها، يكمن في الفشل الذي أظهرته الكيانات الحكومية لحقبات ما بعد الاستعمار، فيما يتعلّق بتوفير إجابات شافية ومناسبة لتطلّعات عدد من سكّانها، وخاصة الشباب منهم والطبقات الفقيرة. فتلك الكيانات المحرومة من تمثيلية صادقة لمواطنيها، أي من المؤسّسة الوحيدة القادرة على تعديل التوتّر الداخلي، كان لابدّ وأن تلجأ، في كثير من الأحيان، إلى قمع التطلّعات المصاغة بطرق مشروعة، وهو ما قاد، باعتبار عامل المراكمة وعنف ردود أفعال الكيانات الحكومية، إلى انسلاخ تلك التطلّعات عن صبغتها المعتدلة لتجنح نحو الراديكالية أو التطرّف.
أمّا الفشل الثاني، فيرى “بورجا” أنّه يتّصل بالمؤسّسات الفوق وطنية في البلدان التي كانت تحت الاحتلال. فعجز تلك المنظّمات الإقليمية والدولية عن تسوية، أو حتى احتواء النزاعات والصراعات التاريخية ذات الحساسية الدينية الفائقة، على غرار النزاع الفلسطسني الإسرائيلي، انتهى بتدمير الثقة في المبادئ السلمية الرامية، باسم القانون، إلى تحقيق التعايش السلمي، ليوجّهها، بدلا من ذلك، إلى مشارب بديلة.
وعن الفشل الثالث، قال “بورجا” بأنّه يتعلّق بـ”عسكرة الدبلوماسية النفطية” الأمريكية، والتي شهدت نموا ملحوظا عقب انهيار ما كان يعرف سابقا بالاتحاد السوفياتي، لتتحرّر بذلك من حمل ثقل مضاد معتبر. فهذه السياسة قادت نحو العنف، وساهمت بالتالي في انفجار الإحباط المخيّم على فئة مهمّشة تخطو نحو التطرّف على نحو متزايد.
فهذا الهامش المتطرّف (الفئة المهمّشة)، والذي سيبشّر بتنظيم القاعدة، دخل حيّز التفاعل مع المتروكين على جنب من عملية إعادة توزيع السلطة والثروات، والمضطهدين بالمناطق المهمّشة، وخصوصا “هذا المثلث السنّي المضطهد”، والذي أنتج بضلعيه السوري والعراقي الدولة الإسلامية، التي تعرف إعلامياً بـ “داعش”.
الضلع السوري من المثلّث يمثّل مفترقا برز أمام الأغلبية السنّية في سوريا والمقصاة منذ عقود، من السلطة لصالح الأقلية العلوية التي تمثّلها عائلة الأسد من الأب إلى ابنه، إضافة إلى طائفة منبثقة على نطاق واسع من نفس الأقلية الشيعية، والتي لم تبخل جهدا في سبيل قمع السنّة المستهدفين العام 1982 ضمن أحداث حماة (أو مجزرة حماة، وهي أوسع حملة عسكرية شنها النظام السوري ضد الإخوان المسلمين في حينه، وأودت بحياة عشرات الآلاف من أهالي مدينة حماة).
يتابع المستشرق الفرنسي أن العراق شهد التجربة ذاتها، مع تقاطع بين أنصار الجهادية بلا حدود وضلع هام من السكان السنّة، والذين وهنت تطلّعاتهم بفعل “سياسة مناهضة السنة” التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي الشيعي “نوري المالكي”، وهذه السياسة تجد –على الأرجح- جذورها في قمع الشيعة في عهد الرئيس العراقي السابق “صدّام حسين”. فهذا التوجّه يفسّر في مرحلة موالية انهيار الجيش العراقي، والذي لم يكن ينظر إليه على أنّه جيش عراقي وإنّما جيش شيعي.
أمّا الضلع الثالث فيشكّله السنة “الغاضبون” في جميع أنحاء المعمورة: فالشيشان “يجاهدون” في سوريا انتقاما من حليف روسيا (بشار الأسد)، و”الإيغور” (شعوب مسلمة يشكلون واحدة من 56 عرقية في جمهورية الصين الشعبية) المضطهدين في الصين، مرورا بالمسلمين الغربيين، المعزولين في الغالب، بفعل تصنيفهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وعجزهم عن رفع المنحدر الاجتماعي الموروث عن الجيل الأول من العمّال. فأولئك يعتبرون أنفسهم مستبعدين من عملية إعادة توزيع الموارد، وهذا ما يدفعهم، في فترات، لإظهار العنف الأكثر راديكالية (قضية محمد مراح، وهو إرهابي ذو جنسيتين فرنسية وجزائرية، اشتهر بعد قيامه بعمليات إطلاق نار وقتل جماعي في ميدي بيرينيه في 2012. قتل من قبل قوات النخبة الفرنسية).
وفيما يتعلّق بردود الأفعال حيال الدولة الإسلامية، تحدّث “بورجا” عن محدودية أو قصور التدخّل العسكري الغربي، وذلك فيما يتعلّق ببثّ الشكوك حول قدرته على اجتثاث جذور هذا العنف، والذي يشبّهه، في كثير من الأحيان، بالأعراض البسيطة، أو حتى الآثار البسيطة لأسباب ضاربة في العمق.
وأضاف “الغرب لم يعد يمتلك اليوم الموارد البشرية اللازمة لخوض حرب ضد الدولة الإسلامية، وبالتالي يتحتّم عليه البحث، على الأرض عن حلفاء من أجل الإكتفاء بعدد قليل من الغارات الجوية التي يمكن أن تحقّق التقارب بين إيران والغرب”.
ودعما لأطروحة القيود المتأصلة في التدخل العسكري، أقام “بورجا” مقارنة مع “الحرب ضد الإرهاب” المعلن عنها في عام 2001 من قبل تحالف دولي واسع النطاق في أفغانستان للإطاحة بنظام طالبان، لافتا إلى أنّ “13 سنة التي قضاها أفراد طالبان أمام باب السلطة في كابول، لم تكن إجابتها لتقتصر على الجانب الأمني فحسب”.
ويشغل الباحث السياسي “فرانسوا بورجا” منصب مدير الأبحاث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، حيث ألّف العديد من الكتابات حول الإسلام، أهمّها “الإسلام في بلاد المغرب” (1988)، و”الإسلام في الواجهة” (1995)، “لا ربيع لسوريا” (2013)، والأخير قدّم من خلاله عددا من المفاهيم المفاتيح لاستيعاب أطراف وتحدّيات الأزمة السورية.
وكالة الأناضول – مقابلة مع الباحث “فرانسوا بورجا”