ما الأداة التي يمكنها إنقاذ طفل يتيم ومصاب في بلد تمزقه الحرب أو التي تستطيع إيقاف زواج طفلة ذات 11 عامًا من صديق والدها والتي بمقدورها حتى أن تفضح اتفاقات دولية وتجرّم شخصيات في مناصب رفيعة؟ الصحافة هي هذه الأداة التي إذا أُحسن استخدامها بإمكانها قلب الموازين وتحريك المياه الراكدة.
تلعب الصحافة دورًا حيويًا ومهمًا في المجتمعات عمومًا والدول الديمقراطية خصوصًا، فالصحافة هي صوت من لا صوت لهم، كما أنها الأداة التي نتعرف من خلالها على آراء مختلف شرائح المجتمع، بالإضافة إلى كونها الجسر الذي يصل الشعب بالسلطات، وبالمختصر يمكننا القول إن مهمة الصحافة الرئيسية توعية المواطنين لواقع العالم الذي يعيشونه وضمان فهمهم لحقوقهم.
لكن من جهة أخرى، فقدت الصحافة الكثير من مصداقيتها في نظر الشعوب، وتوقف كثيرون عن الإيمان بدورها في المجتمع، كما تعاني من شح في التمويل وبالتالي صعوبة في الاستمرار، لذلك من الواجب التذكير بدور الصحافة بشكل متكرر وبالأثر المهم الذي يمكن أن ينتج عن قصة صحفية جيدة. في هذا التقرير نستعرض بعض الأمثلة على تقارير مكتوبة أو مرئية من الوطن العربي والعالم، أدت إلى تغييرات ملموسة أو صنعت التاريخ.
تسلّط الصحافة الضوء على القصص المجتمعية المعقدة، وفي بعض الأحيان تروي قصة إنسانية ببساطة، فيصل صوت الشخص المحوري في القصة إلى جمهور واسع يتفاعل مع قصته بعدة طرق، منهم يعرض أو يحاول المساعدة، ومنهم من يشارك بزيادة الزخم الإعلامي حول القصة لتبقى تحت الضوء أطول مدة ممكنة.
الطفل العراقي المصاب
نيفين دالاتي صحفية سورية تعمل في تليفزيون سوريا، استطاعت من خلال عملها الصحفي تغيير حياة العديد من الأشخاص وخصوصًا الأطفال، من خلال تسليط الضوء على معاناتهم، تقول نيفين في حديث لها مع نون بوست :”معظم التقارير الإنسانية التي عملت عليها لاقت تفاعلًا واسعًا، بالإضافة إلى عروض الدعم، ومن أهم الأمثلة قصة الطفل العراقي المصاب والموجود في إدلب، بعد نشر التقرير تواصلت معي عدة جهات أهمها القنصلية العراقية التي عملت على إعادة الطفل إلى العراق مع وفد رسمي، كما تكفلت بعلاجه وتدريسه، وانتشرت القصة على وسائل الإعلام العراقية بقوة من بعد إذاعة التقرير الذي عملت عليه”.
“ما بسامحك.. توسلت ليك قلتلك يمّا لا تعوفيني آني ماعندي أحد” ? تخلت عنه أمه ونهش الشلل أطرافه قصة مؤثرة لطفل عراقي في مخيم للنازحين بريف #إدلب إعداد: Neveen Aldalati #تلفزيون_سوريا
تم النشر بواسطة Syria TV تلفزيون سوريا في الجمعة، ٥ أكتوبر ٢٠١٨
وبالفعل حازت قصة الطفل العراقي التي نُشرت تحت عنوان “يتيم مصاب تخلت عنه أمه” ردود فعل كثيرة وتعاطف المتابعين، ونُشرت عدة تقارير عنه لاحقًا كان آخرها خبر وصوله إلى العراق مع موكب حكومي رسمي.
بعد أن نشر #تلفزيون_سوريا قصته الطفل العراقي عباس.. من مخيمات #إدلب إلى #بغداد بموكب حكومي إعداد: Neveen Aldalati #سوريا #العراق
تم النشر بواسطة Syria TV تلفزيون سوريا في الجمعة، ٩ نوفمبر ٢٠١٨
زواج الطفلة التايلندية أيّو
لا يقتصر دور الصحافة على المجتمعات المحلية، ويمكن للقصة أن تتجاوز حدود الدول وتتحول إلى قصة عالمية ومحط تركيز العالم كله، كما في قصة زواج فتاة تايلندية صغيرة تبلغ من العمر 11 عامًا في ماليزيا، من والد صديقتها المقربة الذي يكبرها بـ30 سنة، ولاقت هذه القصة موجة من ردود الفعل على مستوى العالم، ونشرتها أهم الصحف العالمية بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز، وبعد أن تحولت قصة “أيو” إلى قضية رأي عام، دفعت باتجاه بدء النقاش في البرلمان الماليزي بشأن الجانب الأخلاقي من السماح بزواج الأطفال في ماليزيا.
وفي خضم المناظرة القائمة حينها، تواصلت مديرة مكتب صحيفة نيويورك تايمز في جنوب شرق آسيا مع جميع أطراف القصة، ونشرت مادة مفصلة عن الموضوع أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الماليزية والعالمية، وبعد أسابيع قليلة تواصلت السلطات التايلندية مع نيويورك تايمز لإعلامهم بأنه تم إعادة أيو إلى تايلند وهي الآن تحت رعاية مكتب الدعم الاجتماعي.
فضيحة إيران كونترا
نشرت صحيفة الشراع اللبنانية أول نبأ عن الفضيحة في نوفمبر/تشرين الثاني 1986، الذي يشرح كيف تبيع الحكومة الأمريكية تحت إدارة الرئيس ريغن الأسلحة لإيران، مقابل استخدام إيران لنفوذها في إطلاق سراح مواطنين أمريكيين خطفوا وأخذوا كرهائن في لبنان من مليشيات شيعية موالية لها، وكان بيع الأسلحة إلى إيران ممنوعًا بموجب القانون الأمريكي آنذاك، كما كانت السياسة الأمريكية تنص على تحريم دفع أي نوع من الفدى لخاطفي الأمريكيين.
وتبع تقرير صحيفة الشراع تحقيقات صحفية كثيرة تناولت القضية بعمق واستطاعت أن تكشف انتهاكات عديدة للقانون الأمريكي، حيث كشف تقرير لاحق لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن الحكومة الأمريكية طالبت الإيرانيين بأسعار مرتفعة لقاء الأسلحة التي زودتهم بها، وحولت المبالغ الفائضة إلى قوات “الكونترا” التي كانت تحارب حكومة حركة ساندينيستا اليسارية الحاكمة في نيكاراغوا، ويعد هذا خرقًا آخر للقانون الأمريكي الذي يضع حد أقصى لتمويل قوات الكونترا يُمنع تجاوزه.
لا بد من الاعتراف بأن السلطات والحكومات الديكتاتورية تحد من قدرات الصحافة الهائلة على إحداث تغييرات جذرية في المجتمع والسياسة
بالنهاية تم تشكيل لجان تحقيقية خاصة في مجلسي الشيوخ والنواب، وإدانة عدد من مسؤولي إدارة ريغان منهم مستشار الأمن القومي الأدميرال جون بويندكستر ونائبه المقدم أوليفر نورث.
تبرئة متهمي فورد هايتس
عام 1978 اتُّهم أربعة شبان من أصحاب البشرة السوداء بجريمة قتل زوجين فيما يعرف بحادثة “فورد هايتس فور” في ولاية إلينوي، وفيما كان اثنان منهم بانتظار حكم الإعدام عام 1996، أجرت ثلاث طالبات بكلية الصحافة في جامعة Northwestern University تقريرًا استقصائيًا لتحري تفاصيل هذه الجريمة، تحت إشراف بروفيسورهم الجامعي ديفيد بروتس، وخلُص عملهم الاستقصائي إلى نتيجة براءة الشبان الأربع والتوصل إلى القتلة الحقيقين.
وفي عام 2000 أعلن جورج رايان حاكم ولاية إلينوي وقف تنفيذ عقوبة الإعدام في الولاية مستشهدًا بحادثة فورد هايتس كمثال على الرجال الذين كانوا سيُعدمون لولا العمل الصحفي غير المدفوع الأجر لأساتذة وطلاب جامعة نورث وسترن.
في النهاية، لا بد من الاعتراف بأن السلطات والحكومات الديكتاتورية تحد من قدرات الصحافة الهائلة على إحداث تغييرات جذرية في المجتمع والسياسة، لكن حتى في ظل هذه التضييقات هنالك طرق كثيرة يستطيع الصحفي من خلالها أداء دوره الأساسي في معالجة القضايا المحقة ونشرها وحث الجمهور على التفاعل معها، حيث ينتهي دوره كصحفي ويبدأ دور الجمهور بإحداث التغيير، بناءً على المعلومات التي تم جمعها وتقديمها بطريقة احترافية من مؤسسات الصحافة المهنية.