تعد منطقة البحر الأسود من أكثر مناطق تركيا المميزة بموقعها الجغرافي وطبيعة سكانها وثقافتهم بدءًا من لهجتهم المميزة وليس انتهاءً بموسيقاهم وطباعهم الحادة، ويعرف أهل منطقة البحر الأسود بقوة في عالم السياسة والأعمال، إذ ترجع أصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مدينة ريزا شرقي البحر الأسود، أما وزير الداخلية سليمان صويلوا فتعود أصوله إلى مدينة طرابزون.
وتقسم الدولة التركية منطقة البحر الأسود إداريًا إلى ثلاثة أقسام رئيسية، القسم الغربي ومن أشهر مدنه مدينتي بولو وزنغولداق التي تشتهر بمناجم الفحم الحجري، والأوسط ومن أشهر مدنه مدينتي سينوب وأماسيا التي تشتهر بمواقعها الأثرية العثمانية، وأخيرًا القسم الشرقي للبحر الأسود ومن أشهر مدنه مدينتي جيرسون وطرابزون.
السكان
شهدت منطقة البحر الأسود ازدهار عدد من الحضارات الإنسانية، الأمر الذي انعكس على طبيعة سكانها حيث يغلب عليهم التنوع العرقي، فاستوطن هذه المنطقة اليونانيون والروس والجورجيون والأرمن وشعب اللاز والأتراك، وانعكست هذه الفسيفساء على ثقافة ولهجة أهل المنطقة، حيث تختلط موروثات هذه الشعوب في قالب حضاري خاص بهذه المنطقة ونجد ذلك في لهجة أهل البحر الأسود المميزة عن باقي المناطق في تركيا، حيث تكثر الكلمات القادمة من اللغة اللازية والجورجية، بالإضافة إلى الموسيقى والفن وحتى اللباس، فنحن أمام ثقافة مكانية مستمدة من هذه الشعوب.
عاشت فسيفساء منطقة البحر الأسود لسنوات طويلة بسلام في ظل حالة من التسامح والتعايش، لكن الأحداث التي شهدتها تركيا خلال الحرب العالمية الأولى انعكست على التركيبة السكانية للمنطقة التي رحل عنها جزء كبير من الجالية اليونانية والأرمنية بعد اتفاقية المبادلة بين الجمهورية التركية واليونانية.
ومع قيام الجمهورية التركية وانتهاء حرب الاستقلال تعرضت منطقة البحر الأسود لخسائر كبيرة في الأرواح، حيث شكلت المنطقة المادة الأساسية للجنود خلال حرب الاستقلال، وبحلول الخمسينيات بدأ سكان منطقة البحر الأسود كباقي سكان الجمهورية بالهجرة نحو مدن الغرب التركي التي بدأت تشهد نهضة اقتصادية مدفوعة بنهوض القطاع الصناعي حيث تحتل الفئات القادمة من منطقة البحر الأسود المرتبة الأولى على مستوى الشعوب التي تطقن مدينة إسطنبول.
الموسيقى
تشتهر منطقة البحر الأسود بموسيقاها وأغانيها الشعبية التي امتزجت فيها الكلمات التركية مع الكلمات اللازية مغلفة بلهجة أهل البحر الأسود المميزة، ويلاحظ انعكاس تضاريس وجغرافيا منطقة البحر الأسود المتقلبة والعوامل والأحداث التاريخية التي مرت بها المنطقة على الموسيقى التي تتراوح بين الحزن الشديد والفرح الشديد.
وتشتهر موسيقى أهل البحر الأسود بالاستخدام الواسع للكامنجا التي تلعب دور العصا السحرية في أغانيهم، فتارة تنتج الكامنجا أكثر الألحان حزنًا وكآبةً وتارة تتحول إلى أكثر الأدوات صخبًا وحركةً.
تاريخيًا قدمت منطقة البحر الأسود عددًا كبير من الفنانين والمغنيين الذين تركوا بصمة واضحة في الموسيقى التركية من أهمهم الفنان كاظم كوينجو الذي استطاع تقديم أغاني البحر الأسود بقوالب حديثة، حيث دمج الأدوات الموسيقية التقليدية مع الأدوات الحديثة، كما تكمن أهمية كوينجو في دوره الرائد في تقديم الأغاني التراثية لشعب اللاز، فهو من أوائل الفنانين الذين غنوا باللغة اللازية واستطاع تحقيق نجاح كبير لدى شرائح واسعة في المجتمع التركي.
كما يعد فوالكن كوناك “Volkan Konak” من الفنانين الذين تركوا بصمة واضحة في موسيقى أهل البحر الأسود التي بدأ في غناها منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، وإلى جواره يبرز اسم الفنان رسول ديندار الذي بدأ مشواره الفني مع فرقة كارميتا “Karmate”، كما برز اسم المغنية شيفال سام “Şevval Sam” التي قدمت عددًا من الأعمال الفنية إلى جوار عدد من الفنانين ككاظم كوينجو ورسول ديندار، بالإضافة إلى هؤلاء برزت في السنوات الأخيرة فرقة “إيمير İmera” المكونة من عدد من الفنانين الصاعدين.
وإلى جوار الغناء تشتهر منطقة البحر الأسود برقصاتها الشعبية المميزة وعلى رأسها رقصة الهورون “Horon” التي تنتشر بالدرجة الأساسية في مدن القسم الشرقي من منطقة البحر الأسود كمدن سامسون وأوردو وحيرسون وطرابزون وريزا وأرتفين وجوموشهانه.
تعود أصول كلمة هورون إلى اللغة اليونانية وتعني “رقص”، حيث تتعد أنواع رقصة الهورون حسب الجنس المشارك وحسب المدينة، فرقصات الهورون في مدينة أرتفين غير تلك الشائعة في جوموشهانة أو مدينة أوردو، وبالإضافة إلى ذلك تشتهر منطقة البحر الأسود برقصات أخرى شائعة منها رقصة البار “BAR” وخاصة في مدينتي أردهان وبايبورت وبعض أحياء جوموشهانة وجيرسون.
الاقتصاد: الشاي والصيد
تشتهر منطقة البحر الأسود بنشاطها الزراعي الناتج عن أجوائها الرطبة ووفرة مياه الأمطار والأنهار، ومن أهم السلع الزراعية التي تنتجها المنطقة الشاي، حيث تشتهر مدينة ريزا بزراعته وإنتاجه، وترجع جذور علاقة الأتراك مع الشاي إلى القرن التاسع، حيث سجلت الدفاتر التجارية للدولة العثمانية استيراد الشاي من عدد من الدول والمناطق، وخلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني جرت محاولات لزرع نبتة الشاي في مدينة بورصا غربي تركيا لكنها باءت بالفشل.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى جلب الأسرى والجنود الأتراك القادمون من الجبهة الروسية حبوب نبتة الشاي من مدينة بطوم في جورجيا حيث تتشابه الظروف المناخية مع مدن البحر الأسود، فقامت الحكومة التركية في ذلك الوقت برعاية الجهود الساعية لزراعة الشاي التي تكللت بالنجاح ووصلت كمية الشاي المنتجة عام 2019 إلى ما يقرب من 1.45 مليون طن، وإلى جانب الشاي تنتج منطقة البحر الأسود ما يقرب من 80% من البندق و40% من الذرة كما تشكل غاباتها 27% من الغابات الموجودة في تركيا.
وعلى صعيد الأسماك تنتج منطقة البحر الأسود 70% من الصيد في تركيا وذلك لطبيعة البحر الأسود الذي تزدهر فيه الحياة البحرية على خلاف البحر المتوسط، ومن أهم الأسماك التي تشتهر بها المنطقة الهمسي “السردين” الذي يعد من أهم الأطباق في السفرة التركية.
وجهة السياحة المحافظة
تشتهر منطقة البحر الأسود بمناظرها الطبيعية الخلابة التي تجمع جمال الغابة والجبل والبحر، وشهدت السنوات الماضية تزايدًا في إقبال السياح الأتراك والأجانب وخاصة العرب القادمين من دول الخليج، فعلى صعيد السياحة الداخلية وصل عدد السياح الأتراك الذين زاروا مدينة طرابزون عام 2018 ما يقرب من 1.190 مليون سائح، فيما وصل عدد السياح الأجانب في ذات العام لما يقرب من نصف مليون، جاء في صدارتهم السياح القادمون من السعودية ودول الخليج.
يرجع إقبال السياح العرب على زيارة منطقة البحر الأسود لطبيعة الفعاليات السياحية التي يغلب عليها الطابع المحافظ على خلاف السياحة في مناطق البحر المتوسط التي يغلب عليها الطابع المنفتح حيث تستقطب السياح القادمين من أوروبا بالدرجة الأساسية.
وتعد مدينة طرابزون من أهم المدن السياحة في منطقة البحر الأسود، حيث تحتوي المدينة على بحيرة “أوزون جول” التي تعد أهم المعالم السياحية في المدينة، كما يقصد السياح مدينة ريزا المشهورة بحقول الشاي، وتبرز مدينة سامسون كأحد المراكز السياحية المهمة في المنطقة.