تُلقب بـ”عصمة الدين” فهي المعتصمة بدينها ودومًا في خدمة العلم والعلماء، وهي “أخت السلاطين”، فلها من الأشقاء وأبناء الأعمام والأخوات ما يقرب من 35 ملكًا، وقالوا عنها “ست الشام” لما تكنه من حب وبر بالشام وأهله، هي فاطمة خاتون بنت الأمير نجم الدين أيوب وأخت القائد صلاح الدين الأيوبي.
نشأت في بيت يبلغ أصله وشرفه وعزته من الوضوح ما يغنيه عن التوضيح، فكانت مدرسة تخرج فيها عشرات العلماء والفقهاء، ولعل صلاح الدين الذي تربى على يديها خير نموذج على ما كانت تتمتع به من مكانة علمية رفيعة.
بلغ حبها للشام وأهله أن سخرت حياتها لرفعة دمشق والمدن المجاورة، فوضعت البذور الأولى لبناء تعليمي مميز، وروته بمعين الرعاية والاهتمام، وأنفقت عليه من سنين عمرها وخزائن مالها، فأخرج بستانه اليانع الذي فاح عبيره في كل ربوع الشام، فتنسمه القاصي والداني.
وصفها المؤرخ الذهبي بأنها “سيدة الملكات في عصرها” فكان بيتها مقصدًا لكل ملهوف وقبلةً لكل حائر ومنارةً لكل تائه، فاستحقت عن جدارة أن تكون سيدة السيدات وأميرة الأميرات وسلطانة زمانها ودرة تاج النساء في وقتها، فمن فاطمة خاتون الذي ذاع صيتها منذ بدايات القرن الثالث عشر وحتى اليوم؟
بيت السلاطين والأمراء
ولدت فاطمة بدمشق وترعرت في كنف والدها الذي كان يلقب بـ”الملك الأفضل” كونه كان أحد كبار رجالات السلطان نور الدين محمد زنكي، فكان من أفضل المقربين منه وأكثرهم ثقة لديه، كذلك عمها أسد الدين شيركوه، واحد من كبار القادة لدى السلطان.
كانت تحتل فاطمة مكانة كبيرة في قلب الناصر صلاح الدين، فكان قدوتها الأقرب إلى عقلها قبل قلبها
وتعد “ست الشام” أحد أبرز أميرات الأسرة الأيوبية، فهي شقيقة الملك نور الدولة شاهنشاه صاحب بعلبك، وشقيقة المعظم شمس الدين توران شاه صاحب الإسكندرية، والعادل سيف الدين وظهر الدين سيف الإسلام، كذلك هي شقيقة الأميرة ربيعة خاتون، ذات الصيت الكبير.
وقبل هذا وبعد فهي شقيقة سلطان مصر والشام ومحرر بيت المقدس صلاح الدين الأيوبي، وقد تزوجت مرتين، الأولى بداية حياتها من عمر بن لاجين الذي وافته المنية مبكرًا، وأنجبت منه ابنها الوحيد “حسام”، ثم تزوجت بعد ذلك ابن عمها ناصر الدين محمد بن شيركوه وعاشت معه في حمص، إلا أنه توفي هو الآخر في 1186م بعد أن ترك لها ثروة هائلة، لتنتقل بعدها إلى دمشق، حيث اشترت منزلًا كبيرًا أمام البيمارستان النوري (مستشفى).
الأقرب لقلب صلاح الدين
كانت تحتل فاطمة مكانة كبيرة في قلب الناصر صلاح الدين، فكان قدوتها الأقرب إلى عقلها قبل قلبها، فلم يطئ بأقدامه موطئًا إلا ونزلت فيه، طالبة للعلم تارة، وللجهاد تارة أخرى، فكانت أكثر الأشقاء تشبهًا به، وهو ما أهلها لأن تكون الأقرب إليه، يأخذ رأيها ويستشيرها في أمور حياته الخاصة والعامة.
درست معه علوم الحديث والشرع والفقه، فبرعت فيهم بشكل كبير، حتى انتقلت من التلقي إلى الإلقاء، فدرستها لنساء دمشق حتى صارت أحد أكبر علماء المدينة في المذهب الشافعي، في وقت كانت دمشق فيه قلعة لعلماء المذاهب المختلفة، إلا أن “عصمة الدين” استطاعت أن تثبت حضورها بقوة.
وزادت على ذلك أن تعلمت صناعة الدواء والطب، فأنشأت مصنعًا للأدوية، وكانت الأولى في عصرها التي تدشن هذا المشروع الذي ظل حكرًا على الرجال، بل كانت تورد الأدوية لجيش أخيها صلاح الدين، وجعلت من هذا المصنع قبلة للنساء الراغبات في العمل، فانضم إليه مئة امرأة لكن بشروط، الأول حفظ كتاب الله، والثاني أن تكون المرأة ماهرة في ركوب الخيل، وحين سئلت عن هذا الشرط الأخير أجابت: “ما أراهن إلا مجاهدات يحتجن إلى ركوب ظهر الخيل ويكن في قلب الجيش الإسلامي”.
مجاهدة في صفوف جيش المسلمين
في أحد الأيام قالت فاطمة لزوجها ناصر الدين شيركوه وأخيها صلاح الدين: “أريد عدة لكتيبتي (تقصد النساء العاملات معها في مصنع الأدوية وطالبات العلم في المساجد)، وكانت تطلب توفير الخيل على وجه التحديد، فأجاباها لماذا؟ فأشارت حتى يكن على أهبة الاستعداد حال قيام أي حرب مع جيوش العدو.
وبالفعل سمح لها أخيها بتوفير الخيل لكنها اشترطت أن يكون زوجها هو المشرف العام على اختيار الخيول وتدريبها والوقوف على جاهزيتها.
وبعد أن أعدت الأميرة عدتها وجهزت كتيبتها بالعتاد، قادت ما سمي بـ”الكتيبة الطبية” التي كان يطلق عليها وقتها “كتيبة الحافظات”، وكانت مهمتها تطبيب المرضى وإسعاف الجرحى وتضميد جراح المقاتلين داخل المعركة، وبالفعل أبلت بلاءً حسنًا وكانت تقاتل لا فرق بينها وبين أشرس المقاتلين في صفوف جيش المسلمين.
حادثة الكرك
لم تكن ست الشام وحدها المقربة من قلب أخيها محرر القدس وقائد جيش المسلمين، بل ولدها الوحيد حسام الدين كان يتمتع بنفس المكانة تقريبًا إن لم يكن أكبر، فكان أحد المقربين من عقل وفؤاد صلاح الدين، وكان يقول عنه إنه ما رأى فتى نشأ كما نشأ حسام الدين، ولا رأى امرأة ربت ولدها كما ربت أخته ابنها.
تربى الأمير الصغير على عين خاله، الذي لم يدخر جهدًا لتأهيله ليكون مقاتلًا من الطراز الأول
يذكر أنه في إحدى رحلاتها الخارجية، ارتأت الأميرة السفر من دمشق إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، رفقة ولدها حسام، وحين وصلت إلى منطقة قريبة من الكرك (مدينة تقع بالأردن حاليًّا)، تعرض لها حاكم المدينة الصليبي وكان يدعى “أرناط”، وحين بلغ صلاح الدين ما حدث أقسم أن يقتله لما بدر منه، وبالفعل قتله فيما بعد.
تربى الأمير الصغير على عين خاله الذي لم يدخر جهدًا لتأهيله ليكون مقاتلًا من الطراز الأول، وبالفعل، حتى أصبح أحد أفضل المقاتلين في معركة حطين 583هـ -1187م، ثم أرسله لفتح نابلس ففتحها بالأمان، ثم ولاه عليها حتى توفي في دمشق عام 587هـ-1191م، ليدفن في التربة المعروفة حتى اليوم باسم “التربة الحسامية” بالمدرسة الشامية البرانية التي بنتها والدته والواقعة في حي ساروجة بدمشق.
ست الشام
كانت رعاية الفقراء ونصرة الضعفاء الهم الأكبر لفاطمة خاتون على مدار سنوات حياتها، فجعلت بيتها الكبير مقصدًا للاجئين وملاذًا للخائفين من ملاحقات الإفرنج، وفي هذا الشأن ذكرها المؤرخ الإسلامي ابن كثير قائلًا: “كانتْ مِن أكثرِ النساءِ صدقةً وإحسانًا إلى الفقراءِ والمَحاويجِ (المُعْدَمينَ)، وتَعْمَلُ في كُلِّ سنةٍ في دارِها بِأُلوفٍ مِنَ الذَّهَبِ أَشْرِبَةً وأَدْوِيَةً وعَقاقيرَ وغَيْرَ ذلكَ فَيُفَرَّقُ على الناسِ”.
وكانت تقدم يد العون والمساعدة لكل المحتاجين من أبناء الشام دون تفرقة، وهو ما زرع حبها في قلوب الجميع هناك، حتى المختلفين معها من أبناء الأطياف الأخرى، فكانت لا تفرق بين هذا وذاك في العطايا والمنح، الأمر الذي دفع بعض المؤرخين لتسميتها بـ”سيدة الإنسانية”.
كما كان اهتمامها بالعلم والعلماء أبرز ما يميز مسيرتها، فأنفقت على إنشاء العديد من الكيانات التعليمية على رأسها المدرستين الأشهر في دمشق، الأولى: “المدرسة الشامية البرانية” التي تقع خارج أسوار مدينة دمشق القديمة، وتم بناؤها عام 1187 واكتمل البناء بصورة نهائية عام 1191م، وكانت من أكبر مدارس الفقه في الشام في ذلك الوقت، كما نالت شهرة فائقة وتحولت مع مرور الوقت إلى جامعة.
شهدت جنازتها حضورًا مهيبًا قُدر بنحو 450 ألف مُشَيِّعٍ، لتغادر ست الشام الحياة تاركة خلفها إرثًا كبيرًا يخلد اسمها في سجلات عظماء المسلمين
كانت تخشى خاتون على مدرستها تلك من التعدي عليها من أي أحد، بعد رحيلها، فأشهدت قاضي القضاة في دمشق ومعه أربعين شاهدًا من أعيان المدينة الثقات، أن يحافظوا عليها من العبث، وأوقفت لها 300 فدان، وهذا كان السر في بقاء المدرسة حتى العصر المملوكي كقبلة المدارس في دمشق، وتعلم فيها كبار فقهاء الشام وعلمائه المشاهير.
أما المدرسة الثانية فهي المدرسة الشامية الجوانية، وسميت بهذا الاسم لأنها أوصت ببنائها داخل بيتها المجاور للبيمارستان، وهو ما تحقق بعد وفاتها، وظلت لسنوات طويلة منارة للعلم ومقصدًا للباحثين الشرعيين، ليبقى الكيانان شاهدين على الأيادي البيضاء لست الشام في رعاية العلم ودعم العلماء.
وفي الـ16 من ذي القعدة للعام 616هـ الموافق 1220م توفيت خاتون بدارها في دمشق، لتدفن بجوار ابنها الذي توفي قبلها بـ32 عامًا، وقد شهدت جنازتها حضورًا مهيبًا قُدر بنحو 450 ألف مُشَيِّعٍ، لتغادر ست الشام الحياة تاركة خلفها إرثًا كبيرًا يخلد اسمها في سجلات عظماء المسلمين أصحاب الإسهامات الجليلة في دعم المجتمع المسلم.