موجة اللهاث وراء التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي التي ضربت بعضًا من دول الخليج العربي سارت إلى مباركتها دور الإفتاء الرسمية، مستخدمةً النصوص الشرعية والفقهية أداة للفتوى بما يرضي ولاة أمرهم، والتطبيع إنما هو مثال واحد من الأمثلة التي سقط فيها بعض أهل الإفتاء في الدول الإسلامية، حتى وصل بهم الحال أن أطلقوا تحذيراتهم لأوروبا ضد المسلمين!
إلا أن نموذج دار الإفتاء في سلطنة عمان، كان مغايرًا لما سبق من نظرائه في الدول الأخرى، حيث أوجد المفتي أحمد بن حمد الخليلي في الآونة الأخيرة مسارًا مختلفًا، فتكلم بلسان المتبصر بحال أمته والفاهم لواقعها دون التنازل عن المبادئ والقيم التي تهم شعوب المنطقة، حتى أصبح ذكره مرتبطًا برفضه التطبيع رفضًا قاطعًا مخالفًا بذلك رؤية حكومته السياسية التي طالما رحبت بالعلاقات مع “إسرائيل” وباركت الاتفاقيات معها في الدول المجاورة.
مخالف للسلطة
يعتبر مكتب الإفتاء ملحقًا بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، وفي تعريفه كما ورد في موقعه الرسمي أنه “هو الجهة الحكومية الرسمية المعنية بالفتوى والرد على أسئلة الناس، وتمثيل السلطنة في مؤتمرات الفتوى والمجامع الفقيهة الخليجية والعربية والدولية وهو يتكون من رئاسة المفتي العام للسلطنة ومساعده والأمين العام ومستشارين وباحثين وموظفين كل حسب اختصاصه”.
هنا يبرز السؤال، كيف يمكن لتصريحات مسؤول حكومي أن تعارض رؤية بلاده السياسية تجاه قضية ما؟ وهذا ما حصل فعلًا مع مفتي سلطنة عمان أحمد بن حمد الخليلي، إذ إنه فعلًا عارض إقامة العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي منتقدًا حالة “التودد للعدو” التي تمر بها المنطقة وهو ما جعله استثناءً رحب به كثيرون، في ذات الوقت تعتبر العلاقات بين الحكومتين العمانية والإسرائيلية في تطور مستمر وقد تكللت هذه العلاقات بزيارة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى مسقط في أكتوبر عام 2018 التقى فيها سلطان عمان الراحل قابوس بن سعيد.
الزيارة لم تكن الأولى من نوعها، إذا إن مسؤولين كثر من الاحتلال زاروا عمان من قبل، وتمتد العلاقة بين الطرفين لعشرات السنوات من العمل الاستخباراتي، وكانت مسقط قد أعلنت تأييد اتفاق التطبيع بين الإمارات و”إسرائيل”، وفي بيان لوزارة خارجيتها أبدت “تأييد السلطنة لقرار الإمارات بشأن العلاقات مع إسرائيل، في إطار الإعلان التاريخي المشترك بينها والولايات المتحدة وإسرائيل”.
التطبيع خيانة
إثر المباركة العمانية لاتفاقيات التطبيع الخليجية مع تل أبيب، حذر أحمد الخليلي مفتي السلطنة “من المساومة على الأقصى”، مشيرًا إلى أن “تحريره وتحرير ما حوله من أي احتلال واجب مقدس على جميع الأمة ودين في رقابها”، واعتبر الخليلي أنه في حال “لم تسمح الظروف للمسلمين بتحرير الأقصى، فليس لهم المساومة عليه بأي حال، بل عليهم أن يَدَعُوا الأمر للقدر الإلهي، ليأتي الله بمن يشرفه بالقيام بهذا الواجب، كما حدث ذلك في الزمن البعيد”.
واعتبر المفتي الخليلي، أن التطبيع بين الإمارات و”إسرائيل” خيانة لله تعالى ولرسوله ولكتابه وللأمة العربية والمقدسات.
وفي هجوم لاذع شنّ الخليلي هجومًا على المفتين المتوددين للاحتلال الذين يطلقون “الفتاوى التي تعمل على تطويع الأمة”، ويبدو أن المفتي اتخذ من موقع تويتر منبرًا له في الفترة الأخيرة للحديث عن واقع الأمة والأحداث التي تمر بساحتها، ويشير المفتي إلى أن “ثمة ظاهرة سلبية جديدة ظهرت في الأمة، وهي التودد للعدو الذي أمرنا الله تعالى بعداوته، والتباهي من غير استحياء ولا استخفاف”، ويشير الشيخ الخليلي إلى تخلي بعض رموز الأمة عن تاريخهم وتقربهم من عدوهم، يقول: “وقد تسارع إلى هذا بعض رموز الأمة الذين كنا نعدهم لها أوتادًا وقلاعًا، فإذا بهم يتخلون عن ماضيهم المشرق، ويرفعون من الشعارات ما يقربهم زلفى إلى ساداتهم”.
على لكن على المقلب الآخر، فقد رأى رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، عبد الله بن بيه، أن تأسيس العلاقات بين “إسرائيل” والإمارات من صلاحيات ولي الأمر، و”الشريعة الإسلامية مليئة بالنماذج الناظمة للصلح والسلم وفقًا للمصلحة العامة”، وأشاد مجلس الإفتاء بالخطوة الإماراتية، مثمنًا خطوة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، و”سعيه من أجل السلام العادل والدائم في منطقة الشرق الأوسط”.
وبهذا الصدد لاقت مواقف الشيخ الخليلي ترحيبًا واسعًا، فيقول محمد المختار الشنقيطي أستاذ الإسلام والأخلاق السياسية، “تحية من القلب للمفتي العام في سلطنة عمان، الشيخ أحمد الخليلي، على مواقفه الإسلامية الأصيلة، في وقت تواطأت فيه عمائم السوء الظبيانية مع التطبيع والمطبعين”.
ظهرت في الأمة ظاهرة سلبية جديدة وهي التودد إلى العدو الذي أمرنا الله تعالى بعداوته، والتباهي بذلك من غير استحياء ولا استخفاء، وقد تسارع إلى هذا بعض رموز الأمة الذين كنا نعدهم لها أوتادًا وقلاعًا، فإذا بهم يتخلون عن ماضيهم المشرق، ويرفعون من الشعارات ما يقربهم زلفى إلى ساداتهم. pic.twitter.com/tNDqTL3Qmu
— أحمد بن حمد الخليلي (@AhmedHAlKhalili) October 18, 2020
الإسلام في أوروبا
بمقارنة بسيطة بين الشيخ أحمد بن حمد الخليلي ومفتي مصر شوقي علام، نجد بونًا شاسعًا في التعاطي مع القضايا التي تهم المسلمين، حيث صرح المفتي علام بأن “أكثر من 50% من الجيل الثاني والثالث من المسلمين الأوروبيين أعضاء في تنظيم داعش الإرهابي” وهي التصريحات التي تلاقت مع تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعتبر أن “الإسلام يمر بأزمة في كل العالم”، وهو الأمر الذي حذر منه سابقًا مفتي النظام السوري أحمد بدر الدين حسون حيث وجه كلامه للأوروبيين بأن المساجد الكائنة في أوروبا تعد “تهديدًا”، داعيًا إلى إغلاقها حتى لو واجهت مشكلات تهدد أمنها.
إلا أن تعاطي المفتي الخليلي مع الأمر كان شديدًا وصريحًا ضد تصريحات الرئيس الفرنسي، حيث نشر الخليلي رسالة تحدث فيها عن “المناوئين للإسلام الذين لا يزالون يتربصون به الدوائر، وتنفث ألسنتهم وأقلامهم لهيبًا”، مبينًا أن “الزعم بأن الإسلام يمر بأزمة يأتي من باب رمتني بدائها وانسلت”، وأوضح الخليلي أن “هؤلاء ينفسون عن أنفسهم مما يحرزه الإسلام بين عقلاء الإنسانية اليوم من تقدم باهر وتطلعهم جميعًا إلى أن يكون هو سفينة النجاة التي تنقذ العالم من الغرق”.
قضية آيا صوفيا
في قضية أخرى وجه المفتي الخليلي، شكره إلى الأمة الإسلامية “بجميع فئاتها على مشاركتها في الابتهاج والاحتفاء برجوع آيا صوفيا إلى كنف الإسلام بعدما رُزئت بحرمانها من أذان المؤذنين من فوق مآذنها، ومن سبحات الركَّع السُّجود في محرابها، فلبست الحداد على ذلك زهاء قرن من الزمن”، وأردف المفتي قائلًا عن آيا صوفيا “كما نرجو عما قريب أن ترفع يد الاحتلال عن جميع الأراضي المحتلة وتعود إلى أبنائها، وأن تعود مساجد الله المغتصبة في كل مكان إلى أيدي المؤمنين الأمينة، وتحقق ذلك إنما تؤذن به وحده الكلمة وألفة القلوب واجتماع الشمل بين فئات الأمة جميعاً، والله ولي التوفيق”.
رأي مختلف ومغاير يطلقه مفتي مصر شوقي علام، الذي قال عن قرار تركيا تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، بأنه “غير جائز”، وأضاف المفتي “في التاريخ المصري لم نر كنيسة تحوّلت إلى مسجد، أو مسجد حُوّل إلى كنيسة”، ورأى أنه “لا مانع من بناء الكنائس من مال المسلمين، وأن المسلمين مأمورون بالحفاظ على الكنائس”.
بالعموم، فإن موقف الشيخ الخليلي هو امتداد لرأي الشارع العماني الرافض للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من صفته الرسمية في حكومة أصبحت قريبة من إتمام علاقاتها مع تل أبيب هي الأخرى، فإن المفتي الخليلي يستفيد من بعض ميزات الحرية في الكلام التي توفرها الحكومة في مسقط، على عكس حكومات الدول الأخرى التي تكمم الأفواه وتعتقل من يخالفها الرأي.