لا شك أن معاناة الأطفال العراقيين هي الأشد في المنطقة العربية باعتبار أنها متواصلة منذ 3 عقود أي بداية من حرب الخليج عام 1991 إلى أيامنا هذه، حيث عرفت هذه الفئة الحرمان والنقص الكبير في الخدمات الصحية والتعليمية وسوء التغذية، وذلك نتيجة لتوالي الأزمات والحروب والصراعات الداخلية والفساد السياسي المستشري على نطاق واسع، الأمر الذي انعكست تأثيراته السلبية على الأطفال وحولتهم إلى الضحية رقم واحد في البلاد، بعد أن دفعتهم الحاجة إلى ترك مقاعد الدراسة وحولتهم الفاقة إلى الشارع للتسول أو للعمالة قسرًا.
ليس من اليسير التحدث عن أطفال العراق وفهم معاناتهم المركبة التي تتفاعل فيها العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الجانب التاريخي قد يفتح لنا أبوابًا لتحديد ملامح الأزمة وتداعياتها الجسدية والنفسية على الفئة الهشة التي تتأثر مباشرة ببيئتها والأحداث التي تعيشها.
أولى محطات القسوة التي عرفها أطفال العراق كانت مع الحصار الذي فرضته القوى الغربية على بغداد عام 1990 وبداية حرب الخليج الثانية (1991)، ثم مع الغزو الأمريكي عام 2003، حيث تعرضت هذه الفئة إلى أبشع الانتهاكات الجسدية والنفسية التي تمثلت أساسًا في القتل والإصابات البالغة التي نتج عنها بتر الأطراف وكذلك اليتم والتشتت والفقر والحرمان.
الدمار الذي لحق العراق في تلك الفترة، شكل صورًا مرعبة لدى جميع الأطفال وبات أغلبهم يعاني من حالات الخوف المزمن والرعب والانهيارات النفسية والعصبية، وذلك نتيجة الوضع الأمني المتدهور وتوالي عمليات التفجير والقتل وحرمانهم من الدراسة ومن أبسط وسائل العيش اليومية ونقص الخدمات من الكهرباء والماء الصالح للشرب.
جيل الحرب
من المعلوم أن الأطفال الذين عايشوا تلك الأحداث الدامية ونشأوا في بداية القرن الحاليّ وترعرعوا زمن تجول الجنود الأمريكيين في الأحياء العراقية وانتهاكاتهم لحقوق المدنيين كبارًا وصغارًا، هم أكثر فئة تأثرت بتداعيات الحرب الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما أن العمليات العسكرية نتج عنها ما بين 4 و5 ملايين يتيم تُعيلهم 1.5 مليون أرملة، بحسب إحصاءات منظمة اليونيسيف، فيما أوقع الغزو الأمريكي للعراق في 2003، أكثر من مليون قتيل أي أن البلد فقد نحو 3% من نسبة سكانه، وذلك وفق إحصاء لمؤسسات بريطانية.
ومن هذا الجانب، يبدو أن أطفال الأمس خاصة جيل حرب الخليج قد مسهم ضر الصراع ولازمتهم تأثيراته على المستوى الجسدي والنفسي، فلم يقدروا على إحراق ذاكرة المآسي والآلام، بل الأكثر من ذلك، فقد رافقهم الخوف طيلة شبابهم وكهولتهم وتجلى ذلك من خلال المظاهر الجديدة التي عرفها العراق في الأوقات الراهنة، كالتفسخ والانحلال الأخلاقي وانتشار ظاهرة الانتحار.
ووفقًا لما نشرته الصحافة العراقية المحلية والعربية، فإن ازدياد حالات الانتحار في العراق وصلت إلى مرحلة وُصفت بالمرعبة، إذ بلغت 293 حالةً، خلال الستة أشهر الأولى من 2020 فقط، ويُرجح أن يكون عدم اليقين بشأن المستقبل والاضطرابات النفسية جراء الحرمان الاقتصادي والتداعيات النفسية للحروب والصراعات المسلحة، وراء تفشي الظاهرة.
ويُعاني العراقيون أيضًا من ارتفاع معدلات الطلاق والعنف والتفكك الأسري التي تعود كلها إلى انهيار الوضع الاقتصادي والصدمات المتلاحقة التي يتعرض لها المواطنون منذ عقود والعنف المسلح المستمر، وهي عوامل تؤثر بشكل مباشر في الأطفال وتُلحق بهم أضرارًا معنويةً ونفسيةً كبيرةً، وتُساعد في توسيع دوائر الفقر والجهل والتسرب من المدارس والزواج المبكر.
ويمكن القول إن الحادثة المأساوية الأخيرة التي هزت المجتمع العراقي والمتمثلة في إقدام امرأة على إلقاء ابنيها في نهر دجلة انتقامًا من زوجها، هي صورة تعكس الأزمة النفسية المتغلغلة في المجتمع العراقي ودليل واضح عن ملازمتها لأطفال الأمس (الأم) وتسلطها على أطفال اليوم، وهم جميعًا ضحايا الحرب والواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي.
مرعب أن يكون مصدر الأمان في هذا العالم بلا قلب. #جريمة_نهر_دجله pic.twitter.com/QQYYQhQInE
— ROAA||رؤى . (@roaasameh05) October 19, 2020
انتهاكات وجرائم
في أي دولة تعرف صراعًا مسلحًا وغيابًا للأمن، يكون الأطفال عرضة للانتهاكات الجسدية ويكون العنف أكثرها شيوعًا، ووفقًا لبيانات نظام إدارة معلومات العنف القائم على النوع الاجتماعي للربعين الأولين من عام 2020، كانت 23% من حالات العنف المبلغ عنها لدى مقدمي الخدمة، قد وقعت بين أوساط الأطفال والمراهقين، من بينهم 6% كانوا بأعمار تتراوح بين (صفر) و(11) عامًا، و17% بين أوساط الفئة العمرية من 12 إلى 17 عامًا.
وبحسب ذات البيانات، يوجد 80% منهم يواجهون العنف في المنزل وفي المدارس، كما تعاني العديد من الفتيات، مثلما هو الحال مع ملايين البنات الصغيرات في مختلف أنحاء العالم، من ظاهرة ختان الإناث وزواج القاصرات والتحرش الجنسي والاعتداء الجنسي وغيرها من الممارسات الضارة الأخرى.
من جانبها، سجلت المحاكم العراقية 1600 دعوى تتعلق بممارسة العنف ضد الأطفال خلال العام الماضي 2019، وفق إحصائية رسمية أصدرها مجلس القضاء الأعلى، وهذا الرقم قد يكون أقل بكثير من الأرقام الفعلية، إذ إن قضايا كثيرة تبقى في البيوت ولا تسجلها المحاكم بسبب “ضعف الوعي القانوني وسيطرة الأعراف الاجتماعية” بحسب متخصصين.
وفي سياق ذي صلة، أشارت التقارير إلى أن أكثر من 2114 طفلًا تعرضوا لانتهاكات جسيمة ومؤكدة في العراق، من بينهم أطفال تعرضوا للقتل والتشويه والاغتصاب، مؤكدةً أنها أرقام جزئية لا تُمثل الواقع، وأن الأعداد الحقيقية قد تكون أكبر بكثير خاصة أن ظروفًا مثل الوفاة أو الخوف من الوصمة الاجتماعية قد يكون عائقًا أمام عمليات الإبلاغ عن حالات الانتهاك.
ويقف وراء هذه الانتهاكات كل من تنظيم داعش والحشد الشعبي والجيش وقوات الشرطة العراقية والبيشمركة وقوات الدفاع الوطني الكردستاني والقوات الإيزيدية والتحالف الدولي، وذلك بحسب تقرير للأمم المتحدة.
من جهة أخرى، وبفعل الصراع والحروب التي شهدها العراق، ارتفعت نسب الجرائم المنظمة التي تستهدف الأطفال كالاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي والعمل القسري والإجبار على التسول وعبودية النساء والفتيات على أيدي أفراد الجماعات المسلحة، ووفقًا لتقرير سابق لـ”نون بوست“، وثق المرصد العراقي لضحايا الاتجار بالبشر منذ تأسسيه في أكتوبر/تشرين الأول 2018، نحو 64 جريمة اتجار، تنوعت بين توظيف النساء في سوق الجنس وتجارة الأعضاء البشرية واستغلال الأطفال في التسول وانتهاكات تتعلق بالعمالة الأجنبية.
سوء التغذية والحرمان
كانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) قد أعلنت في وقت سابق أن قرابة 4.5 مليون عراقي أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر بسبب وباء كوفيد-19 وما نجم عنه من آثار اجتماعية واقتصادية، مضيفةً أن الوباء تسبب في خسائر كبيرة في الأعمال والوظائف وارتفاع الأسعار، مما أدى لارتفاع معدل الفقر في البلاد من 20% في 2018 إلى 31.7% حاليًّا، مشيرةً إلى أن الأطفال هم الأكثر تأثرًا بالأزمة الحاليّة، فبعد أن كان طفل واحد من كل خمسة أطفال يعاني من الفقر قبل الأزمة، ارتفع العدد إلى طفلين من أصل خمسة أطفال مع بداية الأزمة.
وأشارت المنظمة الأممية إلى أن 42% من السكان في العراق يصنفون على أنهم من الفئات الهشة، مبينة أنه بالنسبة للأطفال، هناك طفل واحد من بين كل طفلين أي 48.8% معرض للمعاناة، حيث يعد الحرمان من الالتحاق بالمدارس والحصول على مصادر المياه المحسنة من العوامل الرئيسية التي تساهم في هشاشة الأسر والأطفال.
إخفاء وتجنيد
بحسب “اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، يوجد واحد من أكبر أعداد الأشخاص المفقودين بالعالم في العراق، تقدر “اللجنة الدولية للمفقودين”، أن العدد قد يتراوح بين 250 ألف ومليون شخص (بينهم أطفال)، ومنذ عام 2016 توثق أيضًا “هيومن رايتس ووتش” عمليات الإخفاء القسري المستمرة على أيدي قوات الأمن العراقية.
ووثقت المنظمة الإنسانية أيضًا ما يلي:
– مئات الأطفال اعتقلتهم وأخفتهم قوات الحشد الشعبي في 2014 و2015.
– احتجاز وزارة الداخلية العراقية 1.269 على الأقل، بينهم صِبية لا تتجاوز أعمارهم 13 عامًا، دون تهمة في ظروف رهيبة في ثلاثة سجون مستحدثة.
– في 2018، 20 صبيًا تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا، اتهموا أو أدينوا بانتمائهم إلى داعش في إصلاحية النساء والأطفال بأربيل.
– في أربيل هناك ثلاث منشآت تضم أطفالًا في إقليم كردستان العراق.
وتعمل القوى الفاعلة على الأرض في العراق على تجنيد الأطفال لأسباب لوجستية وفنية، فالأطفال لا يُكلفونهم أموالًا طائلة من حيث التسليح والأجور، كما يمكن استخدامهم في نقل الذخائر وفي الأعمال الكشفية، وبحسب تقارير الأمم المتحدة فإن كل القوى في العراق تورطت في أنشطة تجنيد واستغلال الأطفال في الحرب الدائرة من أعوام.
وفي فترة ما بين مايو 2015 ويوليو 2019، وثقت الأمم المتحدة استخدام الأطفال من قوات الحشد الشعبي (70) طفلًا، وجماعات الحشد العشائري السني (42) وقوات الدفاع الشعبية لحزب العمال الكردستاني (19) ووحدات مقاومة سنجار (4) وقوة حماية إيزيدخان (طفل واحد) وقوات زيرافاني (طفل واحد) وقوات الأمن العراقية (8 في الشرطة و3 في الجيش)، إضافة إلى تنظيم داعش.
التعليم
من أكثر المؤشرات التي تُعطي صورة حقيقية على أوضاع التعليم في بلد ما، الميزانية المخصصة لهذا القطاع وهو الأمر الذي لم تحرص عليه الحكومات المتعاقبة في العراق حيث خصصت في السنوات الماضية نسبة لا تتجاوز الـ6% من الميزانية الوطنية ما يضع البلاد في أسفل الترتيب لدول المنطقة (الشرق الأوسط)، زد على ذلك مؤشر الأمن والاستقرار، فسنوات الصراع أضعفت قدرة الحكومة على تقديم خدمات تعليمية جيدة للجميع، وأدى العنف والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والنزوح الجماعي للأطفال والأسر إلى تعطيل سير مرفق التعليم بشكله الطبيعي.
ووفقًا للتقارير الأممية، فإن البنية التحتية للمدارس في حالة خراب ودمار في أجزاء كثيرة من البلاد، حيث إن واحدة من كل مدرستين قد تضررت وتحتاج إلى إعادة تأهيل، بينما يعمل عدد آخر من المدارس في ورديات متعددة في محاولة منها لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب وتفادي النقص الفادح.
عقودٌ من الصراع وغياب الاستثمار وانتشار الفساد (الإداري والسياسي)، أعاق بشدة وصول الأطفال إلى التعليم الجيد، حيث إن هناك اليوم ما يقرب من 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدرسة، فيما كان الوضع أسوأ في المحافظات المتضررة من النزاع مثل صلاح الدين وديالى، ففيهما ما يزيد على 90% من الأطفال في سن الدراسة خارج النظام التعليمي، وما يقرب من نصف الأطفال النازحين في سن المدرسة، أي نحو 355 ألف طفل وطفلة، ليسوا في المدرسة.
بالإضافة للهجمات التي تستهدف المؤسسات التربوية والإطار المدرسي والطلاب، تم استخدام 79 مدرسة لأغراض عسكرية، 63 منها من تنظيم داعش، و10 استخدمتها قوى الأمن العراقية والبقية بين الحشد والبيشمركة.
مستقبل ملايين من الأطفال الذين حرموا من التعليم في أثناء الحرب الطائفية والصراع مع تنظيم داعش، على المحك أيضًا بسبب جائحة كوفيد-19، حيث كشفت دراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين، أنه منذ تفشي وباء كورونا المستجد في شهر فبراير/شباط الماضي، تم إغلاق آلاف المدارس في العراق، وأشارت أن الجائحة أثرت على أكثر من 10 ملايين طفل في أنحاء العراق بأعمار تتراوح بين 6 إلى 17 عامًا تم تركهم دون تعليم.
وفي سياق متصل، أظهر مسح أجرته منظمة الأيادي الحنونة للمساعدات الإنسانية فرع العراق، أن 83% من مجموع 6.305 طفل تم إجراء استطلاع عليهم في معسكرات النازحين لم يتلقوا أي نوع من أنواع التعليم المدرسي في أبريل/نيسان.
أوراق الثبوتية
أزمة التعليم وتردي الخدمات التربوية في العراق لم تقتصر على استهداف البنى التحتية واستخدام المدارس حصونًا للمقاتلين، فأطفال العراق حرموا من حقوقهم الطبيعية في الحصول على أوراق ثبوتية، باعتبار أن الكثير منهم ولدوا زمن الحرب فيها تسبب النزوح والهروب من القرى والمحافظات في ضياع هوية البعض الآخر، وكان تقرير أممي (يونامي) قد كشف أن 45 ألف طفل نازح في العراق يفتقدون لوثائق ثبوتية شخصية، وأن كثير منهم لا يتلقون التعليم رغم مرور عامين على هزيمة تنظيم داعش.
وأفادت التقارير أن “أسرة من بين خمس أسر، تعيش خارج المخيمات، فيها أطفال لديهم مشاكل في التوثيق، وأن معظم الأسر التي عاشت تحت سيطرة داعش تفتقد على الأقل واحدة من وثائقها الثبوتية الأساسية، إما فقدت وإما صودرت وإما دمرت وإما لم تصدر بالأساس”.
ويسبب عادة فقدان وثائق الهوية المدنية آثارًا خطيرة، أهمها الحرمان من الوصول إلى الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية ومن تسجيل الأطفال في المدارس، وكذلك التنقل بين المحافظات ومزاولة بعض الأنشطة اليومية.
أرقام ومخاطر
- نحو 4.5 مليون عراقي (11.7%) دفعوا إلى ما دون خط الفقر نتيجة لجائحة كورونا وما نجم عنها من آثار اجتماعية واقتصادية.
- ارتفاع معدل الفقر الوطني من 20% في 2018 إلى 31.7%.
- 42% من السكان يصنفون على أنهم من الفئات الهشة.
- طفلان من أصل خمسة أطفال أي (37.9%) يعانيان من الفقر مع بداية جائحة كورونا.
- 48.8% من الأطفال معرضون للحرمان في أكثر من بعد واحد (الصحة التعليم الظروف المعيشية، والأمن المالي).
- انخراط أعداد هائلة من الأطفال في سوق العمل الرثة لمساعدة ذويهم وأسرهم في ظروف العيش الضنكة.
- حرمان الأطفال من فرص النمو الطبيعي العقلي والحق في التعليم والإحاطة.
- انتشار ظاهرة التسكع في الشوارع بين الأطفال.
- استغلالهم في الجريمة المنظمة والزج بهم في مشاريع الإرهاب (انتحاريون).
- استغلالهم في الحرب الطائفية واستعمالهم في محرقة التعصب الاثني.
- انتشار الأوبئة والأمراض المعدية في ظل انعدام الفحوص الدورية الطبية.
- انعدام وسائل الترفيه والتسلية والأنشطة الثقافية.
بالمحصلة، ليس سهلًا الحديث عن أطفال العراق ومعاناتهم باعتبار أنها أزمة شديدة التعقيد تتراكم فيها العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لذلك فإن هذه الفئة بحاجة ملحة إلى مرحلة جديدة تطوي جراح الماضي وتعالج ندوب الحاضر وتقوم أساسًا على مشروع وطني إصلاحي يتضمن برامج متخصصة تشمل الدعم النفسي والاجتماعي من أجل إعادة تنشئة الطفل وجدانيًا ومعرفيًا، وتأهيله للانخراط مجددًا في بيئته الطبيعية.