من الواضح أن “إسرائيل” تعرف جيدًا ماذا تريد من اتفاقها الموقع مع كل من الإمارات والبحرين، فالخطوات المتسارعة التي تخطوها نحو حلب الإمارتين الخليجيتين عبر استثمارات متعددة داخل الأراضي المحتلة وخارجها يعكس وبشكل كبير أبعاد تلك الخطوة التي تتجاوز بعدها السياسي بمسافات كبيرة.
ولم تكن الرحلة الجوية التجارية التي انطلقت أمس بين أبو ظبي وتل أبيب وهي الأولى منذ توقيع الاتفاق في 15 من سبتمبر/أيلول الماضي، وما تلاها من تدشين رسمي للعلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية البحرينية في المنامة، سوى إيذان رسمي بفتح باب أوسع للتعاون بين الجميع في مجالات الاقتصاد والطيران المدني والمال والاتّصالات والزراعة.
ولم تمض أيام قليلة حتى بدأ الإسرائيليون في حصد مكاسب التطبيع الاقتصادي مع الإمارات والبحرين، فيما انطلقت أصوات فلسطينية تحذر من انخراط الإماراتيين في تمويل المشروعات الاستيطانية الإسرائيلية تحت ستار الاستثمار السياحي والعقاري، وهو ما يتجسد في المشروع المسمى بـ”وادي السيليكون”.
ويتضمن هذا المشروع الواقع في حي وادي الجوز في وسط القدس الشرقية المحتلة إقامة فنادق ومعاهد تكنولوجيا حديثة ومرافق اقتصادية إسرائيلية، على أنقاض ورش ومصانع ومنازل مملوكة لفلسطينيين، فيما خرجت تسريبات تشير إلى أن تمويل هذا المشروع الاستيطاني الجديد سيكون من أموال الإماراتيين.
تناقض غريب تبدو عليه السياسة الخارجية الإماراتية، وشيزوفرينيا فجة تسقط القناع عن المزاعم والشعارات التي سعى أبناء زايد من خلالها لتمرير خطوة التطبيع وإيهام الشارع العربي بأنها لصالح القضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي رفعت فيه أبو ظبي شعار “الاتفاق مقابل وقف قرار ضم أراضي الضفة لإسرائيل” كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يطرح هذا الشعار أرضًا، واليوم تشارك الإمارات بأموالها في تمويل مستوطنة جديدة.. فما قصة “وادي السيليكون”؟
المشروع لم يكن وليد اليوم كما يعتقد البعض، بل يعود إلى عام 1976 بحسب مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس
مشروع “تاريخي”
من المفترض وفق ما أعلنت بلدية القدس أن يقع هذا المشروع على بعد مئات الأمتار إلى الشمال من البلدة القديمة في القدس الشرقية، وتبلغ كلفته الأولية نحو 2.1 مليار شيكل (نحو 606 مليون دولار)، ويعتبر بحسب بيان البلدين أن “جزءًا من خطة الحكومة الإسرائيلية الخمسية لتقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية (…) وتوفير 10 آلاف وظيفة، وزيادة الثقة بين سكان المدينة الشرقية والبلدية والحكومة”.
رئيس بلدية القدس موشيه ليؤون يصف المشروع “بالتاريخي في القدس الشرقية”، ويمثل جزءًا من خطة لبناء مشاريع للتكنولوجيا الفائقة وأخرى تجارية وفندقية على مساحة 250 ألف متر مربع، لافتًا إلى أنه يهدف إلى “رفع نسبة توظيف النساء (…) وتعزيز مكانة المناهج الإسرائيلية كأداة نحو التعليم العالي والتوظيف”.
وفي الجهة الأخرى يصف رئيس الغرفة التجارية الفلسطينية في القدس كمال عبيدات البيان الصادر عن بلدية القدس بأنه مجرد “ادعاءات إسرائيلية لتمرير المشروع المتخذ بقرار فردي”، معتبرًا أن هذه الخطوة تهدف إلى “تصفية الأسواق التاريخية وطمس معالم المدينة وتهويدها”.
المشروع لم يكن وليد اليوم كما يعتقد البعض، بل يعود إلى عام 1976 بحسب مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس خليل التفكجي الذي كشف عن مشروع قديم لبلدية القدس قبل 44 عامًا، وكان ينحصر بإقامة مناطق خضراء وحدائق في المنطقة، لكن مع مرور الوقت تم إدخال تحديثات عليه وتحوّل إلى “وادي السيليكون”، لافتًا في الوقت ذاته إلى “صفة سياسية” في هذا المشروع.
أثار هذا المشروع حفيظة العديد من السياسيين الفلسطينيين، حيث وصفته عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي بأنه يمثل “جريمة حرب”
جريمة حرب
تعود ملكية أراضي تلك المنطقة الصناعية وهي أراضي وقفية في الأساس إلى عدد من العائلات الفلسطينية الذين استقروا فيها منذ عشرات السنين، وأسهموا في بنائها وتحويلها إلى واحدة من المناطق الصناعية والحرفية المميزة في القدس، إذ يعمل بها ما يزيد على مئتي ورشة.
ورغم مساعي أصحاب تلك الورش من الفلسطينيين للحصول على تراخيص رسمية للعمل، فإن البلدية ترفض منحهم إياها، الأمر الذي أثار مخاوف الكثير منهم من مخطط يستهدف ترحيلهم خارج تلك المنطقة، ويعرض مستقبل مئات الأسر إلى مخاطر البطالة والعراء.
وحتى كتابة هذه السطور لم يبلغ أصحاب تلك الورش بالإخلاء، غير أنهم على يقين أنه في حال تنفيذ المشروع سيتم إغلاق كل تلك المحال الحرفية والمهنية العاملة في مجالات تصليح مركبات ومواد البناء بجانب المطاعم الشعبية التي توظف مئات الشباب، فيما تقدر الخسائر المتوقعة حال مغادرة المحال بملايين الدولارات.
الخبير الاقتصادي محمد قرش يرى أن خسائر الورش الفلسطينية ستكون “كبيرةً جدًا ومدمرةً”، مشيرًا في تصريحاته لـ”القدس” إلى أن الرضوخ لهذا القرار يعني بالنسبة للفلسطينيين “البحث عن أماكن أخرى لاستئجارها وتكبد مبالغ مالية أكبر”، فيما أوضح مدير مركز القدس للحقوق القانونية والاجتماعية، زياد الحموري، أن المشروع “يأتي في سياق مخطط إسرائيلي أوسع، يهدف إلى تغيير المعالم العربية لمدينة القدس وتهويدها”.
وقد أثار هذا المشروع حفيظة العديد من السياسيين الفلسطينيين، حيث وصفته عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي بأنه يمثل “جريمة حرب”، محذرة “الشركات من المشاركة في المشروع (…) الذي سيعرضها للمساءلة القانونية والمالية”، فيما اعتبرته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على لسان الناطق باسمها عبد اللطيف القانوع بأنه “غطرسة صهيونية تأتي في إطار تفريغ مدينة القدس من مقدراتها الحيوية”.
“إسرائيل” أسرعت مبكرًا لحصد ثمار الاتفاق اقتصاديًا، حيث سخرت كل طاقاتها لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، على رأسها خطتها لجذب 100 ألف سائح من الإمارات سنويًا
هل تموله الإمارات؟
تحذيرات عدة أطلقها فلسطينيون بشأن ما يثار عن تمويل الإمارات لهذا المشروع الاستيطاني، لا سيما بعدما أعلنت نائبة رئيس بلدية “إسرائيل” في القدس، فلر حسن-ناعوم، التي زارت أبو ظبي الأسبوع الماضي، وجود حماسة إماراتية لتمويله، لافتة في مقابلة لها مع صحيفة “ماكور ريشون” الإسرائيلية، أنها طرحت المشروع على مسؤولين ورجال أعمال إماراتيين، ولاقت منهم ترحيبًا كبيرًا.
العديد من المؤشرات تذهب في اتجاه ضخ استثمارات إماراتية هائلة في الأراضي المحتلة، وهو ما بدأت إرهاصاته تتضح عقب توقيع الاتفاق، وذلك على مستويات عدة، فالبعد السياسي في مسار التقارب بين البلدين ربما يكون في مرتبة متأخرة مقارنة بالمكاسب الاقتصادية التي يسعى كل طرف لتحقيقها ولو على أنقاض القضية الفلسطينية.
“إسرائيل” أسرعت مبكرًا لحصد ثمار الاتفاق اقتصاديًا، حيث سخرت كل طاقاتها لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، على رأسها خطتها لجذب 100 ألف سائح من الإمارات سنويًا، وفتح الباب أمام الاستثمارات الخليجية، وهو ما تحقق في توقيع العديد من المشروعات الاقتصادية والرياضية بين الطرفين.
فبعد مرور شهر تقريبًا على افتتاح مكتب لـ”صندوق الاستثمارات الوطني” الإماراتي في تل أبيب، وقعت كل من أبوظبي وتل أبيب، الأسبوع الماضي، اتفاقًا لتشجيع الاستثمارات بينهما وتقديم ضمانات لتأمينها، هذا بجانب استثمار بعض رجال الأعمال الإماراتيين في أندية عبرية معروف عصبيتها الشديدة ضد العرب والمسلمين بصفة عامة.
الاتفاق المبرم بين البلدين يمكن المستثمرين الإماراتيين فقط من شراء أسهم في الشركات الإسرائيلية، لكن دون الاستئثار بالنسبة الأكبر لاعتبارات أمنية، كما هو الحال حين وافقت حكومة الاحتلال على امتلاك شركة “موانئ دبي” على 30% من أسهم ميناء حيفا، مع تدشين البلدين منطقة تجارة حرة.
الأمر ذاته على الجانب البحريني، حيث تمثل الأزمة الاقتصادية التي تواجه المملكة بسبب فيروس كورونا وتراجع أسعار النفط العالمية فرصة جيدة لـ”إسرائيل” للتوغل داخل منظومة الاقتصاد البحريني وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، وهو ما يمنح الشركات العبرية فرصة الاندماج في السوق البحرينية.
وهكذا يقدم الإماراتيون والبحرينيون على طبق من ذهب تأشيرة العبور لنتنياهو وحزب الليكود نحو ترسيخ أركان حكمهما واستعادة شعبيتهما التي تأثرت كثيرًا بسبب تهم الفساد والفشل في إدارة الملف الاقتصادي خلال أزمة كورونا، ليسجل أبناء زايد اسمهم في سجلات تاريخ العار كونهم أول دولة عربية تساهم في بناء مستوطنات يهودية على أنقاض الدولة الفلسطينية وأراضي الفلسطينيين وبيوتهم وذاكرتهم.