تؤكد الأرقام الواردة في مشروع قانون الموازنة للسنة القادمة، تمسك السلطة الجديدة في الجزائر بالتقليد المعمول به في العقدين الماضيين من الزمن المتمثل في ضخ مزيد من الإنفاق في موازنة الدفاع السنوية، وذلك على خلفية التحديات الأمنية التي تواجهها الجزائر على حدودها بالأخص في منطقة الساحل الإفريقي التي تصنف في خانة أخطر المناطق بسبب التهديدات التي تعرفها سواء ما تعلق بالإرهاب أم الجريمة المنظمة إضافة إلى الاتجار بالمخدرات أو البشر، يضاف إلى ذلك التوترات الأمنية في ليبيا ومالي والنيجر.
وتشير الأرقام الواردة في المشروع المؤطر للسنة المالية القادمة، الموجودة حاليًّا على طاولة لجنة الشؤون المالية في المجلس الشعبي الوطني الجزائري (الغرفة الثانية في البرلمان)، إلى تربع موازنة الدفاع الجزائرية على عرش الموازنات القطاعية الأخرى، وجاءت قبل وزارتي التربية والصحة، إذ بلغت الموازنة العامة للدفاع 1230 مليار دينار أي ما يعادل 12 مليار دولار وهي تقريبًا نفس الموازنة التي حظيت بها السنة الماضية.
رد الاعتبار لقطاعي الصحة والتعليم
الملفت للانتباه في مشروع قانون المالية لسنة 2021 أن الجزائر ضخت مزيدًا من الإنفاق في موازنتي قطاعي الصحة والتعليم رغم العجر الذي سجلته ميزانية الدولة هذه السنة، وتقدر ميزانية التربية الوطنية (التعليم) بـ771 مليار دينار بينما تقدر ميزانية وزارة الصحة بـ410 مليارات دينار، حيث سجلت ارتفاعًا طفيفًا مقارنة بالسنة الماضية التي كانت في حدود 408 مليارات دينار يليها قطاع التعليم العالي والبحث العلمي بـ370 مليار دينار.
ومنذ بداية الجائحة أولى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون اهتمامًا كبيرًا بالقطاع الصحي الذي شهد تدهورًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، حيث استثناه رفقة قطاع التعليم من خطة التقشف الصارمة التي أقرها شهر مايو/آيار الماضي بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية.
وتوقعت حكومة الجزائر استقرار إيرادات البلاد عند 5328 مليار دينار أي ما يعادل 42 مليار دولار، بينما سيبلغ الإنفاق العام 8112 مليار دينار أي ما يعادل 64 مليار دولار، ما سيرفع العجز المسجل في الموازنة من عتبة 20 مليار دولار السنة الحاليّة إلى 22 مليار دولار السنة القادمة.
لم تتضمن المسودة الأولى من موازنة السنة القادمة، ضرائب مباشرة جديدة، مقارنة بالسنوات الخمسة الماضية
وبهذا الرقم يسجل احتياطي الصرف الجزائري تراجعًا جديدًا بنحو 10 مليارات دولار في أقل من سنة، حيث توقعت الحكومة الجزائرية في موازنة سنة 2020، تراجع احتياطي الصرف إلى 6.51 مليار دولار مع نهاية العام الحاليّ.
ولم تتضمن المسودة الأولى من موازنة السنة القادمة، ضرائب مباشرة جديدة، مقارنة بالسنوات الخمسة الماضية، أي منذ الأزمة المالية والاقتصادية التي طرقت أبواب الجزائر سنة 2014، بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية.
بالمقابل توقع مشروع قانون الموازنة لسنة 2021، تراجع الاحتياطي الأجنبي إلى 46.8 مليار دولار خلال العام القادم، ما يكفي لـ16 شهرًا من الواردات والخدمات، مقابل استقرار سعر برميل النفط عند 40 دولارًا خلال عامي 2021 و2022.
وفي قراءة أولية لمحتوى نص المشروع، يؤكد خبراء ومتتبعون للمشهد الاقتصادي في البلاد إصرار السلطات العليا في البلاد على تمتين المنظومة الأمنية والدفاعية للجيش الجزائري، بسبب التوترات الإقليمية التي تشهدها بعض دول الجوار القريبة من الجزائر على غرار ليبيا ومالي والنيجر إضافة إلى التوترات الأخرى التي تشهدها منطقة الساحل.
وبحسب الخبير الاقتصادي الجزائري ناصر سليمان، فإن وزارة الدفاع وعبر كل السنوات الماضية تبقى تتربع على رأس الوزارات الأخرى من حيث الميزانية الضخمة وذلك بسبب التحديدات الأمنية الكبيرة التي تواجه البلاد، خاصة على حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية، ويقول في تصريح لـ”نون بوست” إن الوضع في مالي لا يزال متوترًا بسبب وجود الحركات المتطرفة في شمال البلاد أي مع الحدود الجزائرية والانقلاب العسكري الذي حدث في هذا البلد إضافة إلى الأزمة القائمة في ليبيا التي لا تزال تراوح مكانها رغم محاولات الاتفاق الأخيرة بين الطرفين المتنازعين (حكومة الوفاق الوطني وحكومة طبرق).
الدفاع الجزائرية تتربع على عرش الموازنة
يذكر الخبير الاقتصادي سليمان ناصر سببًا آخر يدفع الجزائر إلى زيادة هذا الإنفاق والمتمثل في التحديث المستمر لترسانة الجيش الجزائري من جهة، فبعض أنواع الأسلحة قديمة وهذا المجال يتميز بالتطور التكنولوجي المستمر، ومن جهة أخرى يشير المتحدث إلى زيادة الإنفاق على المرتبات، فالمدارس والأكاديميات العسكرية تجند الشباب باستمرار بما يتناسب مع الزيادة السكانية والمساحة الجغرافية الشاسعة للبلاد.
ويشير إلى أن موازنة الدفاع ضمن الموازنة العامة للدولة الجزائرية انتقلت من 1230 مليار دينار سنة 2019 إلى 1230.33 مليار دينار جزائري سنة 2020 أي ما يعادل 9.5 مليار دولار متفوقة بذلك على موازنتي قطاعي الصحة والتربية، ويقول إن هذه الأرقام تؤكد أن هناك زيادة طفيفة فقط في موازنة الدفاع مقارنة بالعام الماضي.
وأخذت موازنة الدفاع منذ 2009 اتجاهًا تصاعديًا، إذ بلغت سنة 2008 عتبة 2.5 مليار دولار أمريكي، وتضاعفت في العام التالي لتقفز إلى 6.5 مليارات دولار أمريكي، لتبلغ حدود 9.7 مليارات دولار أمريكي عام 2012، ثم إلى 12 مليار دولار أمريكي في موازنة 2014.
رغم العجز الكبير الذي سجلته ميزانية الدولة هذا العام، فإن السلطة أعادت الاعتبار لقطاعي الصحة والتعليم
ورغم الأزمة المالية التي طرقت أبواب الجزائر عام 2014 بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية، فإن موازنة الدفاع بلغت عتبة 13 مليار دولار عام 2015، وبعد اشتداد الأزمة اضطرت الجزائر إلى تخفيض الموازنة إلى حدود 9 مليارات دولار أمريكي خلال الخمس سنوات الأخيرة.
أقوى ميزانيات الدفاع
وفي عام 2016، كانت ميزانية الدفاع الجزائرية حاضرة ولأول مرة ضمن أقوى ميزانيات الدفاع في العالم، بحصولها على المرتبة الـ20 عالميًا بعد بلوغ حجم الإنفاق المخصص للتسليح واقتناء التجهيزات التكنولوجية الحربية خلال سنة 2016 إلى 10.46 مليار دولار.
وجاءت الجزائر مسبوقة بإسبانيا بـ11 مليار دولار، وتركيا بـ12.70 مليار دولار، بينما تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية القائمة العالمية بميزانية دفاع تجاوزت 622 مليار دولار، وبحسب الدراسة التي أجرتها مؤسسة “جاينس” المتخصصة في شؤون الدفاع ورصد ميزانيات دول العالم، فإن الجزائر حلت ثالث دولة عربية من حيث ضخامة ميزانياتها المخصصة للدفاع بـ10.46 مليار دولار، مسبوقة بالإمارات التي جاءت في المرتبة الثانية عربيًا والـ14 عالميًا بميزانية دفاع مقدرة بـ19.06 مليار دولار.
ومن جهته يقول أستاذ الاقتصاد في كلية التجارة، البروفيسور عبد القادر بريش، في تصريح لـ”نون بوست” إنه ورغم العجز الكبير الذي سجلته ميزانية الدولة هذا العام الذي يمثل 10% من الناتج الداخلي الإجمالي أي ما يعادل 10.6 مليار دولار، فإن السلطة أعادت الاعتبار لقطاعي الصحة والتعليم لعدة اعتبارات أهمها الأزمة الصحية الناتجة عن تفشي فيروس كوفيد 19، حيث يواجه القطاع عدة تحديات أبرزها الارتقاء بجودة الخدمات الحكومية المقدمة في المستشفيات إضافة إلى تحسين أوضاع عمال القطاع الذين يمثلون في الظرف الراهن خط الدفاع الأول لمكافحة انتشار وتفشي فيروس كورونا.
وصنف صندوق النقد العربي الجزائر في المرتبة الخامسة عربيًا في مجال الإنفاق العام على الصحة، بعد أربعة بلدان خليجية وهي الإمارات وعمان والكويت وقطر، ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن الحكومة ضخت مزيدًا من الإنفاق في ميزانية التجهيز وهو ما يفسر رغبتها في إنعاش الاقتصاد عن طريق تحريك الاستثمارات العمومية وإعادة برمجة بعض المشاريع وإطلاق بعضها بعدما كانت متوقفة وبرزت حاجتها وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية اليوم.