ماذا لو استطاعت حواسيبنا الملقاة أمام ناظرنا أغلب الوقت وهواتفنا الذكية الملتصقة بنا كظلنا الإحساس بما يعترينا من بهجة ووجوم؟ ماذا لو امتلكت هذه الأجهزة البليدة لمسة إنسانية تمكنها من إحداث تغيير في ماراثون الإنسان اليومي الذي فرضته حياة عصرنا هذا!
عالمة الكمبيوتر المصرية ورائدة الذكاء الاصطناعي والحوسبة العاطفية الدكتورة رنا القليوبي إحدى أكثر النساء تأثيرًا حول العالم والمبتكرة الشابة التي استطاعت ابتكار أنظمة وتقنيات تمكن أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية من استنباط المشاعر من خلال قراءة تعابير الوجه ومعرفة ردود الفعل محدثة ثورة علمية في هذا المجال.
أواخر سبعينيات القرن الماضي ولدت رنا أيمن القليوبي لأسرة مصرية، وعاشت رنا وأختها متنقلتان بين القاهرة والكويت في طفولتهما المبكرة.
وضعت عائلة رنا القليوبي جل اهتمامها في تعليم البنات، فكان استثمار والدهما ليس في التجارة أو العقار لكن في منح بناته فرصة التعليم الجيد في مدارس رصينة، وبذلك نشأت رنا في بيئة مشجعة للعلم وتعرفت منذ طفولتها على الكمبيوتر لعمل والدتها في هذا المجال (والدتها السيدة رندة صبري من أوائل المبرمجات العربيات).
التحقت رنا بالجامعة الأمريكية في القاهرة للحصول على درجتي البكالوريوس والماجستير في العلوم منها، ومن القاهرة انتقلت رنا القليوبي إلى لندن لتسعى وراء طموحها وتكمل دراستها للدكتوراة في جامعة نيوهام، كامبريدج.
خلال وجودها في بريطانيا التقت طالبة الدكتوراة الواعدة بعراب الحوسبة المؤثرة Affective Computing روزاليندا بيكارد التي أعجبت بأفكار رنا ليتحول هذا الإعجاب إلى تعاون مشترك مؤذنًا بميلاد مشروع رنا الواعد Affectiva.
كانت التجربة القاسية التي مرت بها رنا القليوبي في غربتها والبعد عن الأهل والزوج، الحمل ورعاية الطفل بمفردها ومتطلبات الدراسة لساعات طويلة ومتواصلة تزيد على عشر ساعات يوميًا، رحم المعاناة الذي وهب رنا الإلهام لابتكارها الذي غير وجه تعامل الإنسان مع الحاسوب والهواتف الذكية.
كان شغف رنا القليوبي الأساسي متمثلًا في إضافة بعد آخر لعلاقة الإنسان بالحاسوب، ما قادها لاحقًا للعمل على تطبيق حقيقي على أرض الواقع، حيث ساهمت أبحاثها في إطلاق وتأسيس مبادرة تكنولوجيا الاتصالات والتوحد خلال وجودها لدراسة منحة ما بعد الدكتوراة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، واستطاعت بالفعل ابتكار – مع فريقها المسؤول عن “المساعدة السمعية العاطفية” – نظارة ذكية ذات كاميرا صغيرة مثبتة على النظارات تراقب تعابير الوجه وتغذي البيانات في جهاز كمبيوتر محمول باليد.
يتتبع البرنامج حركة ملامح الوجه لقراءة المشاعر وإبلاغ المصابين بالتوحد الذين يصعب عليهم فهم تعابير وجه الأشخاص والتواصل العاطفي ومن ثم مساعدة مرتدي النظارة الذكية بالشعور المقابل ليتسنى له التفاعل معه، اعتبر هذا الابتكار في حينها من أفضل 100 ابتكار بحسب نيويورك تايمز.
الدكتورة رنا القليوبي المصنفة ضمن أكثر 50 امرأة مؤثرة في مجال التقنية تمكنت خلال عملها في MIT Media Lab من ابتكار تقنيات تساعد أجهزة الكمبيوتر في التعرف على تعابير الوجه من خلال رسم خريطة لتعبيرات الوجه بتركيزها على 24 منطقة في الوجه ثم دربت جهاز الكمبيوتر لتحديد كيفية تغير شكل تلك الأجزاء من الوجه استجابةً لمشاعر مختلفة.
عام 2009 كان بداية لولادة شركة رنا القليوبي Affectiva وهي شركة فرعية من MIT Media Lab يُنسب إليها إنشاء فئة الذكاء العاطفي الاصطناعي أو Emotion AI.
رنا التي تؤمن بقوة التواصل البشري استطاعت جمع رأس مال قدره 50 مليون دولار من مستثمرين وممولين أبحاثها بشأن الحوسبة الوجدانية المبنية على تحليل أعداد هائلة من البيانات (تم تحليل 6 ملايين وجه في 75 دولة من خلال 5.313.751 مقطع فيديو للوجه، بمجموع 38944 ساعة من البيانات التي تم تحليلها أي ما يقرب من ملياري إطار للوجه) المأخوذة من وجوه البشر وتدريب الكمبيوتر على استنباط المشاعر من هذه المعلومات مما يساعد الشركات والحملات الانتخابية في اتخاذ القرار عن التسويق ومدى التأثير على المستهلك.
“المشكلة الحقيقية ليست بالتهديد الوجودي للذكاء الاصطناعي، بل في تطوير أخلاقيات نظم الذكاء الاصطناعي”.. رنا القليوبي من كتابها GIRL DECODED.
ورغم تهافت الشركات على هذه التقنية، لا تزال رنا مدافعة بقوة عن أخلاقيات استخدام مثل هذه التطبيقات وفي وضع أفضل الممارسات والمبادئ التوجيهية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
رنا التي تساهم في العديد من المنظمات مثل منظمة الرؤساء الشباب (YPO) وصندوق MIT Media Lab E14 وعضوية مجلس إدارة SIMPEDs في مستشفى بوسطن للأطفال وعضو مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في القاهرة، استطاعت إيجاد الوقت لكتابة رحلتها كفتاة مسلمة قادمة من ثقافة الشرق الأوسط إلى بريطانيا وأمريكا والتحديات التي واجهتها خلال مسيرتها تلك في كتابها GIRL DECODED الذي يعد سيرةً ذاتيةً لها.
اليوم تسعى الدكتورة القليوبي إلى إدراج الأنظمة التي ابتكرتها لتعزيز التعليم من خلال تمكين المعلمين من ملاحظة تعابير وجه الطلاب ومدى استيعابهم وإدراجها في القطاعات الصحية من خلال روبوتات مبرمجة على فهم مشاعر المرضى وبالتالي يمكنها تقديم خدمات صحية أفضل في المؤسسات الصحية.
حكاية رنا القليوبي ملهمة لكل الطلاب المغتربين عن بلدانهم وأهلهم، الساعين للنهوض بمستوى بلدانهم، بأن الغربة بقسوتها وصعابها يمكن أن تمثل فرصة واستثمار للنجاح والابتكار بفضل البيئات العلمية المشجعة.