منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب عقب موافقتها على دفع 335 مليون دولار كتعويضات لضحايا هجمات القاعدة عام 1998 على السفارات الأمريكية والكينية والتنزانية، التي أسفرت عن مقتل 200 شخص، خيّم التفاؤل على الأجواء داخل الحكومة السودانية المؤقتة، ولكن ثمة تساؤلات تفرض نفسها على الشارع السوداني.
أطلت تساؤلات برأسها وسط السياسيين والإعلاميين تتعلق بتوقيت هذا القرار، والثمن المتوقع أن تدفعه الخرطوم والذي من المتوقع أن يتجاوز حاجز الـ335 مليون دولار المقررة كتعويضات للضحايا، الأمر الذي بات حديث الشارع خلال الساعات الماضية.
التصريحات الأمريكية فتحت الباب واسعًا أمام الكثير من السيناريوهات والمآلات المتعلقة بطبيعة المشهد خلال الفترة المقبلة، خصوصًا بعد التسريبات التي خرجت خلال الآونة الأخيرة بشأن ربط واشنطن قرار رفع اسم السودان من القائمة بالانضمام إلى قافلة التطبيع مع “إسرائيل” رفقة الإمارات والبحرين.
ومنذ الاتفاق الموقع في واشنطن في منتصف سبتمبر/أيلول الماضي بين أبوظبي والمنامة من جانب وتل أبيب من جانب آخر، برز اسم السودان بصفتها الدولة الثالثة الأقرب للانضمام لتلك الحظيرة التي يسعى ترامب إلى إدخال أكبر قدر من الضيوف إليها قبيل نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في محاولة لاستثمارها انتخابيًا لتحقيق حلمه في ولاية ثانية داخل البيت الأبيض.
دونالد ترامب: حكومة السودان الجديدة التي تحرز تقدمًا كبيرًا، وافقت على دفع 335 مليون دولار للأمريكيين من ضحايا الإرهاب وعائلاتهم
رفع اسم السودان من القائمة السوداء التي أدرجت فيها منذ العام 1993، بعد 27 عامًا من المحاولات الفاشلة، خطوة تحمل الكثير من الإيجابيات للداخل السوداني الذي عانى طويلًا من تداعيات هذا الإدراج الأسود الذي كان سببًا رئيسيًا في تأزم الوضع الاقتصادي وتبعاته على الجانب الاجتماعي والسياسي، لكن في الوقت ذاته هناك حالة من الترقب تفرض نفسها على بعض المراقبين حيال الثمن السياسي المراد دفعه.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد قال في تغريدة له في 19 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ أن “حكومة السودان الجديدة التي تحرز تقدمًا كبيرًا، وافقت على دفع 335 مليون دولار للأمريكيين من ضحايا الإرهاب وعائلاتهم. بمجرد إيداع المبلغ سأرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. أخيرًا، العدالة للشعب الأمريكي وخطوة كبيرة للسودان”.
تفاؤل سوداني
التصريحات الأمريكية لاقت ترحيبًا كبيرًا لدى حكومة عبد الله حمدوك الذي أشار إلى أن خطوة كهذه من شأنها المساهمة في عودة السودان إلى النظام المصرفي العالمي مرة أخرى، بما يمهد الطريق نحو الإعفاء من الديون الخارجية للبلاد التي تتجاوز حاجز الـ60 مليار دولار.
حمدوك كشف أن القرار الأمريكي برفع اسم بلاده من قائمة الدول الراعية للإرهاب تطلب عامًا كاملًا من الجهد المتواصل والتفاوض المستمر مع المسؤولين في واشنطن، لافتًا إلى أن تصنيف السودان على قوائم الإرهاب كلّفه كثيرًا وأضر به ضررًا بالغًا، دفع الشعب ولا يزال ثمنها حتى اليوم، وكانت سببًا رئيسيًا في تأزم الأوضاع على المستويات كافة.
وعن توقعاته لتداعيات هذا القرار حال تنفيذه أوضح رئيس الحكومة الانتقالية أن بلاده باتت على بعد خطوات قليلة من التخلص من أثقل تركة من تركات النظام المباد (إشارة إلى نظام عمر البشير) حسب وصفه، مخاطبًا المجتمع الدولي بقوله إن “الشعب السوداني شعب محب للسلام، ولم يكن قط مساندًا للإرهاب”.
دوليًا، أعرب الاتحاد الأوروبي على لسان وزير خارجيته، جوزيب بوريل، عن ارتياحه الكامل لهذا الإعلان، معلقًا في تغريدة له على حسابه على “تويتر” قائلًا: “النية التي أعلنتها الولايات المتحدة لسحب السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب لها أهمية بالغة”، كما أنها تعزز اندماج البلد الإفريقي في المجتمع الدولي وتساعد على انخراطه مرة أخرى في الاقتصاد العالمي.
إنجاز مشترك
يمكن لهذه الخطوة أن تعيد ضبط العلاقات المضطربة وتفتح فصلًا جديدًا بين البلدين، هكذا يرى الدبلوماسي الأمريكي والمسؤول السابق في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن كاميرون هدسون، إعلان ترامب، لافتًا إلى أنه يعتبر في حد ذاته “إنجازًا كبيرًا” لكل من الخرطوم وواشنطن في آن واحد، إذا ما تم ربطهما بالسياق الزمني للأحداث التي تواجه إدارة البلدين.
هذه الخطوة ستعزز الشعار الذي تبنته إدارة ترامب في سياستها الخارجية أمريكا أولًا
ويعتبر هدسون وفق ما لديه من دراية تامة بتفاصيل المشهد السوداني كونه كان يشغل منصب رئيس مكتب المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، أن هذا القرار وإن لم يكن له التأثير المتوقع على المدى القصير فيما يتعلق بتحقيق إنجازات اقتصادية تنقذ البلاد من مأزقها الحاليّ، لكن من وجهة نظر أخرى يعد انتصارًا سياسيًا للحكومة الحاليّة التي تعهدت بداية توليها الأمور بإزالة اسم البلاد من القائمة السوداء وفتح آفاق جديدة للعلاقات مع دول العالم المختلفة.
ويرى الخبير الأمريكي في مقاله المنشور على موقع “المجلس الأطلسي” أن شطب اسم السودان من القائمة سيشكل “آخر جائزة” للحكومة الانتقالية الحاليّة، هذا بجانب إمكانية أن يكون بوابتها للحصول على وجبة دسمة من المال السياسي، ما يساعدها إلى حد ما على تنظيم واقعها الاقتصادي المتدهور، والوفاء جزئيًا بالتزاماتها بشأن بناء مجتمع ديمقراطي لشعب لديه تطلعات كبيرة.
وعلى الجانب الأمريكي فإن هذه الخطوة ستعزز الشعار الذي تبنته إدارة ترامب في سياستها الخارجية “أمريكا أولًا” حيث 335 مليون دولار سيتم دفعها كتعويضات للأمريكيين ضحايا التفجيرات السابقة، وهو ما يمكن أن يوظفه ترامب في حملته الانتخابية الحاليّة في ظل المنافسة الشرسة من الديمقراطي جو بايدن.
ويرى رئيس مكتب المبعوث الأمريكي الخاص للسودان سابقًا أنه على الإدارة الأمريكية الإسراع وبشكل شفاف لتطبيق بنود الصفقة مع الخرطوم وذلك عبر إخطار الكونغرس رسميًا خلال هذا الأسبوع بنيتها رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، مشيرًا إلى أن ذلك قد يستغرق وقتًا طويلًا في ظل الانشغال بالانتخابات، مشددًا على ضرورة تجنيبها مصير الاتفاق النووي الإيراني.
تساؤلات عن الثمن
رغم أن الرئيس الأمريكي لم يشر إلى حدوث أي تطورات في ملف التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، فإن البعض أبدى تخوفه أن يكون هذا هو الثمن، لا سيما أن واشنطن كثيرًا ما أشارت إلى هذا الربط طوال الفترة الماضية.
المعلومات المتقاطعة من مصادر سودانية وأخرى أمريكية تذهب في هذا الاتجاه، فيما نلقت وكالة “رويترز” عن مسؤول أمريكي قوله إن هذا الاتفاق قد يؤذن ببداية التحركات نحو التطبيع العلني، غير أن تفاصيل تلك التحركات والإطار الزمني والحدثي لها ما زالت في مرحلة النقاش والدراسة.
لكن في المقابل هناك من يرى أن إقدام السودان على خطوة التطبيع مع الكيان المحتل تتطلب أوضاعًا استثنائية لا تتناسب مطلقًا مع التموضع الحرج الذي باتت عليه الدولة خلال السنوات الأخيرة، هذا بجانب أن تقود تلك الخطوة إلى اختلال التوازن الدقيق بين العسكريين والمدنيين وهو ما قد يعرض النظام بأكمله للخطر.
من السابق لأوانه الجزم بالثمن المتوقع دفعه مقابل حصول السودان على حريته الاقتصادية والسياسية
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن التطبيع كقرار ربما يكون متفقًا عليه ضمنيًا لكن تنفيذه يتطلب وقتًا وجهدًا آخرين، فالموقف السوداني يختلف كليةً وتفصيلًا عن الموقف الإماراتي والبحريني، فاتخاذ قرار بحجم التطبيع الكامل مع “إسرائيل” يتطلب وضعًا فيه استقرار اقتصادي وسياسي في البلاد، وهو ما لم يتحقق حاليًا.
التصريحات الرسمية السودانية حرصت على مسك العصا من المنتصف، فها هي وزيرة المالية السودانية هبة محمد خلال تصريح لها للتليفزيون السوداني، لم تنف بشكل قاطع وجود أي علاقة بين القرار الأمريكي وتحركات التطبيع، معتبرة أن “السودان وحده من يحدد سياسته الخارجية ويقرر بشأنها في التوقيت المناسب” وهو ما يفتح الباب أمام كل التكهنات.
وفي الجهة الأخرى أعاد وزير الخارجية عمر قمر الدين، وبعده وزير الإعلام، المتحدث باسم الحكومة فيصل محمد صالح، التأكيد على عدم وجود أي علاقة بين قرار الشطب والتطبيع، مؤكدين أن ملف إزاحة اسم البلاد من قوائم الإرهاب منفصل تمامًا عن ملف التطبيع، وأن الحكومة لم تخضع للضغوط الإقليمية والدولية للربط بين الملفين.
وعلى صعيد مغاير، يرى الأمين السياسي لحزب “الإخوان المسلمين” حسن عبد الحميد، أن التطبيع هو ثمن القرار الأمريكي، مؤكدًا في تصريحات له أن كل الدلائل تشير إلى هذه الصفقة، حتى إن تأجلت بعض بنودها كتبادل السفارات لحين تدبير الأمر سياسيًا، مرجعًا التأجيل إلى خوف الحكومة من الغضب الشعبي الرافض لهذه الخطوة، على حد قوله.
الرأي ذاته ذهب إليه القيادي في “حركة الإصلاح الآن” أسامة توفيق، الذي أوضح أن المقابل الذي ستدفعه السودان نظير رفع اسمها من قوائم الإرهاب هو الرضوخ الكامل لرغبات ترامب، وعلى رأسها الانصياع لصفقة القرن التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، مفسرًا تأكيد السلطات على عدم الربط بين القرار والتطبيع بأن الهدف منه بث تطمينات للشارع من جانب وللحاضنة السياسية الثورية “قوى الحرية والتغيير ” من جانب آخر.
الرضوخ لأهواء ترامب كثمن لإنهاء بقاء السودان على قوائم الإرهاب وفتح الباب أمامه لانفتاح اقتصادي وسياسي على العالم لا يتوقف على مسار التطبيع وفقط، بل يتطلب ذلك إعادة الحضور الأمريكي في إفريقيا عبر البوابة السودانية، في مواجهة النفوذ الروسي والصيني المتصاعد، فخطوة كهذه لا شك أنها ستنعكس على العلاقات بين الخرطوم وبكين على وجه التحديد، كما حدث في السابق إبان عهد البشير حين قطعت البلاد علاقاتها مع إيران لأجل إرضاء السعودية والإمارات مقابل منح ومساعدات مادية ووعود سياسية.
عمومًا، من السابق لأوانه الجزم بالثمن المتوقع دفعه مقابل حصول السودان على حريته الاقتصادية والسياسية، حتى إن بدت إرهاصاته تلوح في الأفق، لكن السؤال الأبرز الآن: هل يفي ترامب فعلًا بوعده أم أن ما حدث لا يعدو كونه تصريحات للدعاية السياسية فقط؟ ومن زاوية أخرى: هل تقدم الخرطوم قرابين الولاء مبكرًا لضمان تنفيذ ترامب لوعده؟ وما حدود تلك القرابين؟ سؤالان في حقيقتهما وجهان لعملة واحدة، وتبقى الأيام المقبلة هي ما تحمل الإجابة عنهما.