قبل خمسين عامًا تقريبًا كان الدخل السنوي للفرد في بنغلاديش لا يتجاوز 450 تاكا بنغلاديشية (5.3 دولارات أميركية) أما اليوم فتجاوز حاجز الـ 1800 دولارًا، في قفزات جنونية لافتة للنظر، استطاعت خلالها الدولة الفقيرة نسبيًا مزاحمة القوى الاقتصادية الكبرى في أسيا.
ولمدة عقود طويلة ظلت الدولة البالغ عدد سكانها 160 مليوناً، وهو الرقم الذي يعادل عدد سكان كل من فرنسا وألمانيا وهولندا مجتمعة، واحدة من أفقر دول العالم أجمع، حيث يضرب التخلف بشتى أنواعه في عمق جذورها حتى حول دفع الغالبية العظمى من مواطنيها إلى المغادرة هربًا من شبح الموت جوعًا.
وخلال السنوات القليلة الماضية، بات اسم بنغلاديش يطرح على موائد النقاش الاقتصادي في المنتديات العالمية، كونها أحد أبرز القوى الناشئة التي نجحت في تحقيق معدلات نمو متميزة، مقارنة بغيرها من الدول وفي ظل الوضعية التي كانت عليها قبل عقود ليست بالكثيرة.
في تقريره الدوري لشهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري وتحت عنوان “الآفاق الاقتصادية للعالم.. صعود طويل وشاق” نشر صندوق النقد الدولي نشرته الاقتصادية التي جاء فيها تفوق بنغلاديش على الهند من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد، والذي بلغ 1888 دولارا أميركيا.
اللافت للنظر في التقرير أنه قبل 5 سنوات فقط كانت الهند تحقق ناتجًا إجماليًا محليًا للفرد يفوق بنغلاديش بنسبة 40% وفق الأرقام التي نشرها موقع “مودرن دبلوماسي” (modern diplomacy) الأميركي.. ليبقى السؤال: كيف وصلت هذه الدولة الفقيرة إلى هذا المعدل في هذا الوقت القصير؟
سنوات من الحرمان
قبل البحث عن أسباب الطفرة الاقتصادية التي شهدتها بنغلاديش والتي من المتوقع أن تتصاعد منحنياتها خلال السنوات المقبلة، كان جدير بالأهمية إلقاء الضوء على الوضعية التي كانت عليها الدولة قبل هذه الطفرة، في محاولة للوقوف على حجم التحديات التي واجهت النظام الحاكم والشعب في آن واحد للخروج من الشرنقة التي قبع بداخلها البنغال عقودًا طويلة.
في منتصف القرن الماضي وتحديدًا خلال الفترة من 1960-1970 كان نصف الشعب البنغالي يعاني من سوء التغذية، هذا بخلاف الأوضاع المعيشية المتردية، فكان دخل الفرد لا يتجاوز 5 دولار فقط سنويًا، هذا بخلاف أن 17% فقط هي نسبة المتعلمين هناك.
شهدت الدولة في تلك المرحلة ركودا اقتصاديًا حادًا، جزء كبير منه بسبب السياسة الاقتصادية التي كانت تنتهجها الحكومة المركزية الباكستانية، والتي كانت بنغلاديش خاضعة لها آنذاك، وهو ما انعكس سلبا على الاقتصاد الإجمالي للبلاد، حتى تحول البنغاليين إلى أحد أفقر شعوب أسيا.
وفي السياق ذاته تعرض هذا الشعب الفقير لسياسات تمييزية مقارنة بسكان غرب باكستان الذين كانوا يسيطرون على المنح والمعونات والاهتمام الرسمي، ما عمق من مشاعر الاحتقان بداخلهم، وهو ما دفعهم للانضمام لحركة الاستقلال تحت قيادة الشيخ مجيب الرحمن، حتى حصلت بنغلاديش على استقلالها عام 1971.
بعد 11 عامًا فقط على تولي الشيخة حسينة مقاليد الأمور في البلاد حققت بنغلاديش أكبر نمو لإجمالي الناتج المحلي خلال العام المالي 2017-2018، وذلك بنسبة 7.86 في المائة، متجاوزة بذلك السقف المتوقع والذي بلغ 7.65 في المائة
الإرادة السياسية
منذ تولي الشيخة حسينة رئاسة الحكومة البنغالية في 2009 وضعت العديد من الأسس التي انطلقت منها نحو تحقيق الأهداف التي كشفت عنها مع بداية توليها وذلك وفق جدول زمني يتضمن بلوغ البلاد لمستويات دخل متوسطة عالميًا بحلول 2021، ثم تحقيق التنمية الشاملة مع 2030، ومنها إلى التحول إلى بلد متقدم بدايات 2041 ثم معجزة في 2071 وصولا إلى تطبيق الخطة الاقتصادية الأعم والأشمل والتي تسمى “دلتا” لتصبح بنغلاديش واحدة من القوى العظمى اقتصاديصا عام 2100.
أيقنت حسينة أن الاستقرار السياسي هو البوابة الأولى نحو التقدم الاقتصادي، فعملت على ذلك، معززة حضورها الخارجي من خلال دعم الشركاء الدوليين، فيما أرست سياسة خارجية انفتاحية تعتمد على لغة المصالح المشتركة وتجنب الصدام مع أي قوى خارجية.
كذلك عزفت الحكومة على وتر العنصر البشري وتنميته بما يؤهله للقيام بالمهام الموكلة إليه وتحقيق الأهداف المنشودة، مستغلة حالة الفوران الشبابي في مجتمعها، حيث أن ما يزيد عن 60% من عدد السكان من الشباب الذي يتمتع بالطاقة والحيوية، وكان لهم دور كبير في دفع عجلة التنمية.
وتزامنًا مع دعم الشباب كان التطور على المستوى الاجتماعي والتكنولوجي، ودعم المرأة ودورها المحوري، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز مشاعر المواطنة في نفوس البنغاليين، حتى تحول الجميع إلى خلية كبيرة تعمل تحت شعار واحد فقط يدور حول تحقيق النهضة لبلادهم ودفعها لمصاف القوى المتقدمة.
وكان نتاجا لمشاعر المواطنة تلك أن زاد التدفق الأجنبي من حوالات العاملين بالخارج، ليبلغ الاحتياطي النقدي الأجنبي في البلاد 33.3 مليار دولار، مسجلا نمواً بأكثر من 450 في المائة على مدى الأعوام العشرة الماضية، فيما نجحت السياسات الاقتصادية المتبعة في جذب استثمار أجنبي مباشر يقدّر بنحو 3 مليارات دولار خلال 2017-2018، بحسب بيانات البنك المركزي.
تذهب التقديرات إلى أنه خلال نهاية العام الجاري وبدايات العام المقبل سيتخطى الاقتصاد البنغالي نظيره الهندي في كثير من المؤشرات على رأسها متوسط دخل الفرد والذي يبلغ 3 أضعاف المتوسط العام في الهند
النمر الأسيوي القادم
وبعد 11 عامًا فقط على تولي الشيخة حسينة مقاليد الأمور في البلاد حققت بنغلاديش أكبر نمو لإجمالي الناتج المحلي خلال العام المالي 2017-2018، وذلك بنسبة 7.86 في المائة، متجاوزة بذلك السقف المتوقع والذي بلغ 7.65 في المائة، وهو ما أدى بحسب صندوق النقد الدولي إلى انتشال 50 مليون شخص من الفقر المدقع.
وحدة الاستخبارات الاقتصادية في لندن توقعت في تقرير لها أن تشهد بنغلاديش نمواً حقيقياً سنوياً نسبته 7.7 في المائة لإجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من عام 2018-2019 حتى 2022-2023،هذا بجانب زيادة الاستهلاك الخاص والاستثمارات والتي تعزز من هذا النمو.
وتحت عنوان عنوان «العالم في عام 2030: توقعات طويلة الأمد لـ75 دولة» كشفت مؤسسة الأبحاث العالمية لمصرف «إتش إس بي سي» في تقرير لها أن اقتصاد الدولة الأسيوية، التي كانت بالأمس واحدة من أفقر دول القارة الأسيوية، سيقفز 16 نقطة بين عامي 2018 و2030، ويعد هذا المعدل هو الأعلى بين كافة الدول على الإطلاق، فيما قدرت حجم الاقتصاد الكلي بـ 700 مليار دولار بحلول 2030 وذلك مقارنة بـ 300 مليار دولار هذا العام.
ومن نتائج هذا النمو الكبير في الاقتصاد أن ارتفع عدد الأثرياء في البلاد بنسبة 17.3 في المائة خلال الأعوام القليلة الماضية، بحسب تقرير الثراء العالمي لعام 2018، الذي يعرف الأفراد الأكثر ثراء بأنهم الذين يمتلكون أصولاً قابلة للاستثمار، تقدّر بنحو 30 مليون دولار على الأقل.
وتذهب التقديرات إلى أنه خلال نهاية العام الجاري وبدايات العام المقبل سيتخطى الاقتصاد البنغالي نظيره الهندي في كثير من المؤشرات على رأسها متوسط دخل الفرد والذي يبلغ 3 أضعاف المتوسط العام في الهند، الأمر الذي ربما يعيد ذكريات النمور الأسيوية مرة أخرى، لكنها هذه المرة عبر أليات مختلفة لا علاقة لها بالشعارات الرنانة ولا التقديرات الخيالية غير المدروسة والتي تحمل في طياتها معاول هدم أكثر من مقومات بناء.