ترجمة وتحرير نون بوست
أخبرني عدد من الزملاء غير العرب السنة الماضية أثناء زيارتي لمؤتمر في سان فرانسيسكو بتلهف عن “مطعم بيت ريما”، الذي يقدم الطعام الفلسطيني. لقد أدهشتني حماسهم لتجربة الطعام الذي يقدمه مطعم فلسطيني أصيل، ما دفعني للتساؤل: كيف أصبح طعامنا التقليدي فجأة مشهورا؟ لقد أعادني ذلك إلى أيام طفولتي، عندما كان تناولي طبق الحمص أو منقوشة الزعتر في طعام الغداء في المدرسة يجعل زملائي في الفصل ينظرون إلي باستغراب.
وصفة سوزان أبو الهوى للنسخة النباتية من طبق المسخن.
يمكن الآن العثور على طبق الحمص والتبولة واللبنة وغيرها في أكثر متاجر البقالة بساطة. عندما تنشأ على فكرة أن أصلك العرقي مرتبط بالإرهاب، قد تندهش عندما تعرف أن الوجبات – التي كانت أمهاتنا وجداتنا يعملن على إعدادها بإتقان – أصبحت الآن وجبات يشتهيها زملاؤك في العمل وأصدقاؤك.
يبدو أن دور النشر قد “اكتشفت” المطبخ الفلسطيني في السنوات الخمس الماضية. ولا يرغب عشاق الطعام في تناول الطعام الفلسطيني فحسب – بل يريدون إعداده بأنفسهم في المنزل أيضًا. نُشر عدد من كتب الطبخ الممتازة، بما في ذلك كتاب فلسطين على طبق، ومطبخ غزة، والمائدة الفلسطينية، وفلسطين، وزيتون.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز في وقت سابق من هذه السنة مقالا مفصلا تحت عنوان “صعود الطعام الفلسطيني”، وهو عنوان أثار بلا شك غضب العائلات الفلسطينية. كيف لم يبرز مطبخ مجتمع يعود أصله إلى قرون سوى الآن فقط؟
أما الآن، صدر كتاب طبخ جديد تحت عنوان: “الحنين إلى فلسطين“، من تحرير الأم والابنة الفلسطينية، فرح أبو أسعد ولمى بزاري، إلى جانب الشيف الفرنسي الفلسطيني فادي قطان الذي قدم أيضًا بعض الوصفات. ولعل أكثر ما يميز هذا الكتاب عن كتب الطبخ الأخرى في أنه يروج لنفسه على أنه “حركة عالمية لجمع التبرعات”.
يندرج هذا الكتاب ضمن الجهود المبذولة لجمع التبرعات للاجئين الفلسطينيين في فلسطين ولبنان والأردن.
ينتمي الأشخاص الذين قدموا الوصفات الموجودة في هذا الكتاب إلى الفلسطينيين في الشتات، بما في ذلك دبي وعمان والكويت ولشبونة وباريس. وقدمت هذه المجموعة الموسعة التي تشمل عضوة الكونغرس الأمريكية الفلسطينية رشيدة طليب والروائية سوزان أبو الهوى والمخرج السينمائي هاني أبو أسعد تفاصيل واضحة للوصفات.
إن عائدات بيع هذا الكتاب “غير الربحي” موجهة إلى منظمة المعونة الأمريكية للاجئين في الشرق الأدنى “أنيرا“، التي تأسست سنة 1968 للمساعدة في تخفيف معاناة الفلسطينيين في أعقاب حرب 1967. وتعرف هذه المنظمة بتقديم الإغاثة والخدمات للنازحين والفقراء الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان والأردن، وخاصة اللاجئين منهم.
حسب محرري الكتاب، ستركز أرباحه على تمويل برامج التعليم والصحة والتنمية، كما يأملون أن “يوفروا فرصًا للشباب الفلسطيني، بدافع الحب والإنسانية المشتركة لإحداث تأثير بعيد المدى”.
في حين أن أقسام الكتاب تجعل منه كتاب طبخ نموذجي (يحتوي على أقسام مثل “الحساء واليخنات” و”الدواجن واللحوم” و”الحلويات”)، فإنه عند قراءته يكون مثل لم شمل لجميع الوصفات العائلية. إن تصميم الكتاب جميل ويحتوى على صور كاملة بالألوان للأطعمة التي يتحدث عنها، بالإضافة إلى صور بالأبيض والأسود لأصحاب الوصفات.
وصفة الكاتبة نعومي شهاب ناي، “حساء العدس” الخاصة بوالدها.
يحتوي الكتاب على وصفة “حساء العدس” للشاعرة والروائية الفلسطينية الأمريكية نعومي شهاب ناي. وتعود هذه الوصفة لوالدها التي ابتكرها خصيصا لها لكونها نباتية. وفي مقدمة الوصفة، تشرح ناي: “تعد اللحوم حيوانات ميتة”.
تعتقد عائلة نعومي أن جدتها عاشت وقتًا طويلاً لأنهم كانوا فقراء جدًا بحيث لم يتمكنوا من أكل اللحوم، الأمر الذي كان منطقيا بالنسبة لها عندما كانت شابة. في هذا الإطار، قالت: “بدا الأمر مناسبًا لي. تناول القليل من اللحوم وستعيش لمدة أطول”. ومن جهته، ألّف والد ناي، عزيز شهاب، كتاب الطبخ الخاص به تحت عنوان “طعم فلسطين: قوائم الطعام والذكريات”، الذي أُخذت وصفة “حساء العدس” منه.
يحتوي الكتاب على وصفات من كتّاب آخرين أيضا، من بينهم الشاعرة ليزا سهير مجاج، وكذلك من مبدعين آخرين مثل الممثلين ميسون زايد ووليد زعيتر، وموسيقيين من بينهم فرقة الثلاثي جبران.
اشتهرت عضوة الكونغرس رشيدة طليب، وهي أول أمريكية فلسطينية تخدم في مجلس النواب الأمريكي، بـ “يما” خلال حفل أداء اليمين عندما ارتدت الثوب الذي طرزته والدتها لها. وقد ساهمت طليب في كتاب “الحنين إلى فلسطين” بوصفة والدتها فاطمة لأوراق العنب وقطع لحم الضأن، وقالت “إنه الطبق الوحيد الذي جمع كل خالاتي وجدتي مفتية حول مائدة الطعام، حيث سردنا القصص وضحكنا بينما كنا نجلس ونلف أوراق العنب”.
ضمّن المخرج والمنتج هاني أبو أسعد، الذي رُشّحت أفلامه “الجنة الآن” و”عمر” لجوائز الأوسكار، وصفته لأكلة المقلوبة بالدجاج في هذا الكتاب، والتي غالبًا ما كان يطبخها عندما انتقل في ريعان شبابه إلى هولندا وشعر بالحنين إلى وطنه وإلى المأكولات التي كانت تطبخها عائلته. ويشرح قائلاً: “إن السبيل الوحيد للعودة إلى جذوري ومعاودة التواصل مع تراثي كان من خلال إعداد وصفاتي الفلسطينية ومشاركتها مع أصدقائي الهولنديين”.
من خلال قراءة الكتاب، نستطيع أن نلتمس بوضوح الانعكاسات التي تنجر عن العيش في الشتات. لقد صدمني عدد المساهمين الذين شعروا بالحنين إلى أسلوب طهي أمهاتهم، أو الذكريات التي استحضروها عند تذوق هذه المأكولات.
أوضح أعضاء فرقة “الثلاثي جبران” الفلسطينية كيف أن جدتهم، التي كانت تنحدر من قرية سرين، ألهمت وصفتهم للدجاج الفلسطيني المخبوز بالفرن، حيث قالوا: “كانت تعيش بالقرب من الناصرة، وبمجرد أن تفوح رائحة هذا الطبق، كنا نركض وننضم إليها على المائدة”.
من جانبه، كتب محمد حديد ، وهو مطور عقاري ساهم في تأليف هذا الكتاب وكان يعمل بنشاط على الترويج له: “هناك وصفتان خاصتان بي في هذا الكتاب وقد تعلمتهما من والدتي التي تعلمتهما بدورها من والدتها… كانت والدتي تطبخ للجميع”.
ضمّن أعضاء فرقة “الثلاثي جبران” الفلسطينية وصفة مستوحاة من طبق الدجاج المخبوز في الفرن الذي كانت تعده جدتهم.
يُذكر أن الكتاب يوثّق الإبداع الرائع لطعام تقليدي أثناء تطوره، ويحدث هذا التطور لأن الفلسطينيين اضطروا إلى إعادة طهي أطباقهم في بيئات جديدة، بمكونات مختلفة، أو بسبب حدوث تغيير في معاييرهم الصحية.
طبق المقلوبة بالدجاج للمخرج والمنتج هاني أبو أسعد.
ذكر هاني أبو أسعد أنه عند طبخه لطبق المقلوبة بالدجاج يقلي المكونات أقل من المعتاد على عكس الطريقة التقليدية، لجعل هذا الطبق صحيا أكثر لمن يتبعون الحميات الغذائية الحديثة.
يشتمل كتاب “الحنين إلى فلسطين” على قسم من المرجعيات المفيدة للأشخاص الذين يبحثون عن المكونات الصحيحة والأصلية، حيث أن هناك قاموسا للمكونات الشائعة، مثل لبن الجميد والزعتر والفريكة، بالإضافة إلى المعلومات اللازمة للاتصال بالشركات والمتاجر التي تخزن وتبيع هذه المكونات.
أتذكر أن والدتي كانت تزور محلات البقالة الجنوب آسيوية للعثور على الكمون والسماق، بينما يضطر العديد من الفلسطينيين في الشتات إلى الاكتفاء بالمكونات المتاحة. وبالنسبة للآخرين، أصبح الطهي وسيلة لدمج المطبخ الفلسطيني مع مأكولات أوطانهم الجديدة.
من بين أكثر السمات وضوحا في كتاب “الحنين إلى فلسطين” الطرق العديدة التي جربت بها الجالية الفلسطينية في الشتات الوصفات التقليدية. فعلى سبيل المثال، تعرض الكاتبة ومدوّنة الطعام وفاء شامي تناول أحد الأطعمة المفضلة لوالدها – القرنبيط المقلي – مع قرنبيط تاكوس.وقد شرحت قائلة: “هذه الوصفة مستوحاة من طبق والدي المفضل، إنه طبق حديث من التاكو المكسيكي ولكن بلمسة فلسطينية”.
إن “الحنين إلى فلسطين” ليس مجرد كتاب طبخ – وإنما حركة أيضًا. يقول المحررون إنه “من المفترض أن يتم تقاسم الطعام الفلسطيني مع أفراد العائلة والأصدقاء حتى يتسنى لنا الاستمتاع به باعتباره أشبه بأطباق المفتحات أو باعتباره لائحة طعام محددة”، لذلك من بين الجوانب العديدة المرتبطة بالكتاب والتي تحتفي بالشعور بالانتماء للمجتمع هي مفهوم “نادي العشاء” الذي أنشأه فريق التحرير من خلال موقعه على الإنترنت.
يُذكر أن هذه الفعاليات تستضيف مدعووين من جميع أنحاء العالم، ويتراوح عدد الضيوف فيها بين 20 و50 ضيفًا. ويشتري كل واحد من الحضور تذكرة للاستمتاع بأمسية طعام فلسطيني، معدّة وفقا للوصفات الموجودة في كتاب “الحنين إلى فلسطين”. وقد بيعت في هذه الفعاليات، التي يتضمن بعضها عروضا ترفيهية (شاركت فرقة “الثلاثي جبران” الفلسطينية في إحدى أمسيات نادي العشاء في وقت سابق من هذه السنة في دبي) الكثير من المأكولات، وقد استفادت منظمة المعونة الأمريكية للاجئين في الشرق الأدنى من جميع العائدات.
محررتا كتاب “الحنين إلى فلسطين” فرح أبو أسعد (على اليسار) ولمى بزاري (في الوسط)، جالستان مع بائعة الخضار أم نبيل (على اليمين) في سوق الخضار في بيت لحم.
في مقدمتها لوصفات سلطة التبولة، أشارت ليزا سهير مجاج إلى حياتها كأم مشغولة وتمتعها بالقليل من الحرية قائلة: “أخشى أن يكبر أطفالي معتقدين أن مأكولاتهم العرقية تقتصر على المعكرونة والبازلاء الخضراء المجمدة”. لهذا السبب، بدأت بانتظام في إعداد طبق التبولة، وتعلمت طريقة التحضير من جدتها وخالاتها، إلى أن أصبح أطفالها يحبونه.
عموما، تعدّ قصتها تذكير بأن الحياة في الشتات تحمل العديد من التحديات للفلسطينيين. ويتلخص أحدها في ضغوط تربية الأطفال في بيئة جديدة وغير مألوفة غالبا. فعلى سبيل المثال، لا يجوز للأطفال التحدث باللغة العربية أو الاستمتاع إلى الموسيقى العربية مثل آبائهم وأجدادهم. لذلك، أصبحت المأكولات الفلسطينية – سواء تم إعدادها بالطريقة التقليدية أو المعدلة – وسيلة لنشر الحب والاحترام لكل ثقافة عرقية.
المصدر: ميدل إيست آي