ينتظر المواطنون في كل بقعة من بقاع الأرض، بالديمقراطيات الراسخة والناشئة، موسم الانتخابات البرلمانية بفارغ الصبر لمراجعة ما حققه النواب خلال الدورة الماضية ومعاودة انتخابهم لإكمال ما أنجزوه لمجتمعاتهم المحلية أو عقاب النواب على تقصيرهم ووعودهم البراقة عبر ترجيح كفة وجوه جديدة، في جوٍ لا يخلو من التنافس على استرضاء الجماهير وابتكار أساليب جديدة للدعاية.
وبالمثل، فإن هذه المجتمعات لا تخلو انتخاباتها من مخالفات أيضًا، ومحاولات لشراء الذمم والأصوات أو تزوير للنتائج، وهي ممارسات إما تكشف في وقتها من خلال الإعلام أو القضاء وإما يكشفها الصحفيون الاستقصائيون في وقت لاحق، ضمن معادلة التفاعل المفهوم في سباقات الانتخابات.
لكن، ما حدث في مصر بالأيام السابقة لبدء اقتراع المواطنين، وخلال المدة المحددة للدعاية وترويج البرامج على المواطنين، كان مختلفًا إلى حد كبير عن المتعارف عليه عالميًا، إذ يبدو أن هناك تأففًا من بعض النافذين الذين رفضت الدولة ترشحهم على قوائم الحزب الأكثر حظًا في الانتخابات، مع محاولات من النظام لضبط هذه الحالة من الغضب، خشية تأثيرها على حدود المسموح به داخليًا أو دفع المواطنين لمزيد من العزوف على المشاركة في الانتخابات.
طارق جميل
بطل المشهد الأول هو طارق جميل، محامٍ نافذ في مجاله، اشتهر بدفاعه عن موكلين في قضايا مثيرة للجدل مثل وقائع تحرش أثارت الرأي العام وضباط داخلية وجهت لهم اتهامات بقتل مدنيين في أثناء القبض عليهم أو خلال استجوابهم، ويعرف مكتبه بتقديم الاستشارات القانونية لشركات مقربة من جهاز المخابرات العامة.
نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، أطل طارق على متابعيه بمواقع التواصل الاجتماعي في مقطع مصور داخل سيارته في أثناء القيادة، أقل ما يقال عنه فيه إنه “مقطع بطاقته” على طريقة المصريين، مجازًا عن تهوره في المضامين التي حكاها في المقطع.
وجه طارق الذي يعمل إلى جوار المحاماة في أمانة حزب مستقبل مصر دائرة قصر النيل، اتهامات إلى صناع القرار السياسي في مصر بالتنسيق مع بعض المرشحين لانتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، لتصعيدهم إلى المقاعد البرلمانية، مقابل الحصول على مبالغ مالية ضخمة منهم، ثمنًا لهذا التصعيد.
عملية التصعيد هذه بلغت حدًا لا يحتمل من الابتذال، بحسب طارق، إلى درجة اختيار عضو في مجلس الشيوخ، سبق وسربت له مقاطع إباحية، متسائلًا باستنكار عما إذا كان رئيس الدولة عبد الفتاح السيسي على علم بما يحدث في كواليس اختيار نواب غرفتي البرلمان، مؤكدًا أنه قرر فضح ما يحدث في هذه الأروقة، رغم التحذيرات التي تلقاها من مقربين عن عواقب هذه الخطوة، حيث لا يحق لأحد عقابه ما دامت الخلافات في دولة ديمقراطية كما يدعي المسؤولون: “أقسم بالله بيضحكوا عليكوا، وأقسم بالله كلها فيلم كارتون، ولو أنتوا مش مصدقين أنا بقولهالكم وأجري على الله، ومش خايف”.
لا يعلم أحد ما الذي جرى في الساعات التالية مباشرةً لنقر المحامي على زر “نشر” على وجه التحديد، لكنه خرج بعد هذا المقطع بساعات قليلة، يهاجم قنوات الإخوان المسلمين في الخارج ويتهمها بإساءة توظيف مضمون مقطع الفيديو الذي نشره، مشيرًا إلى أن هناك فرقًا كبيرًا بينه، كمعارض وطني من الداخل، وغير الوطنيين الذين يتلقون تمويلات مالية من دول معادية للوطن، كما ظهر والده، المحامي أيضًا، في مداخلة متلفزة، اعتذر فيها عن إساءة فهم مقطع ابنه، مؤكدًا ولاء العائلة كلها للوطن ورئيسه، حيث يعمل أحد أنجاله عميدًا في الشرطة، ويعمل نجله الصغير طيارًا مدنيًا وأخوه مساعدًا سابقًا لوزير الداخلية، على حد قوله.
لكن، يبدو أن هذه القرابين لم تشفع للمحامي المتهور عند أرباب السلطة، فقررت نيابة أمن الدولة العليا حبسه 15 يومًا، قضى منها نحو 10 أيام وخرج بكفالةٍ ضخمة تقدر بـ300 ألف جنيه، قال بعدهم إنه سيحتاج أسبوعًا للراحة، كي يتمكن من العودة إلى العمل، ومنذ ذلك الوقت، أصبح أبعد ما يكون عن السياسة، إلا في الهجوم على معارضي الدولة.
المتحدث العسكري
بطل المشهد الثاني، رغم عدم فداحة سلوكه قياسًا على الواقعة السابقة، فإنه شخصية أكثر نفوذًا، وعلى الأغلب، كان هذا السبب وراء ردة الفعل الرسمية التي اتخذت ضده، وهو العميد محمد سمير المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة المصرية سابقًا.
يحاول محمد سمير الذي شغل منصبه الأخير في الجيش متحدثًا رسميًا منذ الأول من يوليو/تموز 2014 إلى الأول من يناير/كانون الثاني 2017، أن يؤسس، على استحياء، عرفًا جديدًا على جنرالات الجيش المصري، يشبه ما يحدث في “إسرائيل”، وهو أن يؤدي القائد العسكري دورًا سياسيًا واقتصاديًا ملحوظًا على الساحة العامة، بعد خلع بدلة الجيش.
الدور الذي يحاول أن يؤديه سمير يبدو أنه غير مألوف نوعًا ما أو أن حدوده تتجاوز سقف المسموح به في مصر حاليًّا، حيث سبق وحذف مقالٌ له في مارس/آذار 2018 من جريدة “اليوم السابع”، بسبب انتقاده حبس مؤلف ومخرج مسرحيين، بدعوى احتواء مسرحيتهما على مضامين مسيئة للمؤسسة العسكرية.
أما المقال المحذوف هذه المرة، الذي جاء متزامنًا تقريبًا مع واقعة المحامي السابقة، فقد حمل عنوان “لا تغتالوا الأمل”، وجه خلاله انتقادًا مباشرًا للأحزاب السياسية في مصر، بسبب عدم ارتقاء مرشحيها للمستوى المهني المنشود في هذه الفترة، وانتقادًا مبطنًا للسلطة السياسية قائلًا: “هذا ما يصنع مشهدًا سياسيًا عبثيًا يحمل أقصى درجات السلبية، ويستحضر من الماضي القريب ويعيد إلى الأذهان، ذكريات ممارسات فجة كرهها جميع المصريين وثاروا عليها، وتخيلوا أنهم وأدوها بلا رجعة، فإذا بأحزاب ضعيفة البنية ولا مسؤولة تقيم مزادات علنية بداخلها لبيع أماكن الترشح لمن يدفع أكثر حتى لو كان عليها ألف علامة استفهام، ولتذهب المعايير المهنية للجحيم طالما حضر المال”.
رغم عادية النقد واقتراب أسلوب الكاتب من أساليب موضوعات التعبير المدرسية، يبدو أن القائمين على السلطة لم يعجبهم خروجه من فم قيادي سابق في الجيش، فقدم المحامي المقرب من النظام سمير صبري، بلاغًا ضد المتحدث السابق باسم وزارة الدفاع والمرشح الحاليّ لانتخابات مجلس النواب تحت راية حزب “المحافظين”، يتهمه فيه بنشر أخبار كاذبة والتحريض على العنف وبث الريبة في قلوب الشعب وحث المواطنين على عدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة، وأن المقال – رغم حذفه من موقع “فيتو” – يندرج تحت طائلة القانون ويزعزع استقرار البلاد، مطالبًا بإحالته إلى المحكمة الجنائية العاجلة، فاستدعت النيابة العميد سمير للتحقيق فعلًا، وأمرت بإخلاء سبيله بعد دفعه مبلغ 100 ألف جنيه كفالة.
اغتيال الأمل
لا نعلم ما إذا كان العميد محمد سمير في مقاله المحذوف عن اغتيال الأمل يتحدث فعلًا عن إتاحة الفرصة أمام كل المصريين للمشاركة في الانتخابات البرلمانية بشفافية، مرشحين ومنتخبين، أم كان يقصد إفساح المجال لفئة معينة مقربة من دوائره جرى استبعادها من الأجهزة الأمنية، لكن رموزًا نافذين تحدثوا أيضًا، بشكل وبآخر، عن هذا المضمون، اغتيال الأمل، خلال الأيام الثلاث الماضية، بسبب استبعادهم من الدعم في السباق الانتخابي وتقريب آخرين غير مستحقين لهذا الدعم، كما حدث مع داليا زيادة وعبد الرحيم علي.
داليا زيادة هي المديرة التنفيذية السابقة لمركز ابن خلدون الذي يرأسه سعد الدين إبراهيم وباحثة سياسية داعمة للنظام السياسي المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، في الأروقة اليمينية بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
بلغة ملأها الأسى والخذلان، انتقدت زيادة مؤخرًا السماح للإعلامي يوسف الحسيني بالترشح في الانتخابات البرلمانية على قائمة “مستقبل وطن”، رغم إساءته وتهديده للسيسي ومناصريه في واقعة سابقة منذ أربعة أعوام، معتبرةً أن أشخاصًا، مثلها، كانوا أجدر بهذا الدعم السياسي، بعد ما قدموه للنظام من خدمات خلال الفترة الأخيرة.
أما عبد الرحيم علي، فهو رئيس تحرير موقع “البوابة نيوز”، وعضو البرلمان عن دائرة الدقي والعجوزة ومدير أحد المراكز المعنية بدراسة الإسلام السياسي في فرنسا، وأحد الشخصيات المقربة من جهاز الأمن السياسي في مصر، حيث اشتهر بتسريباته الصوتية التي بثها في برامجه التليفزيونية لمعارضي النظام، التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالتقرب لمثل هذه الأجهزة.
وقد حدث تراشقٌ لفظي ضمني بين عبد الرحيم الذي كتب على صفحته بموقع “فيسبوك” إنه يواجه أكبر حملة للمال السياسي في تاريخ مصر الحديث، في إشارة إلى خصميه المنافسين في نفس الدائرة: أحمد مرتضى منصور نجل رئيس نادي الزمالك المقرب من أجهزة الأمن، ومحمد أبو العينين مالك قناة “صدى البلد” وصاحب الاستثمارات الضخمة في مجال صناعة “السيراميك”، المقرب من أجهزة الأمن أيضًا للمفارقة.
تراشقٌ بينه وبين رجل الأعمال المقرب من النظام وصاحب الاستثمارات في مجال صناعة الحديد والإعلام، أحمد أبو هشيمة، حيث انتقد الأخير تصريحات عبد الرحيم علي عن المال السياسي، معتبرًا إياها غير منطقية، بسبب عدم السيطرة على الناخب الذي بوسعه أن يختار من يريد داخل اللجنة حتى لو خضع للمال السياسي، مع وجود جهات قضائية مهمتها ضبط ومراقبة إنفاق المرشحين على الدعاية الانتخابية.
رئيس مجلس الشيوخ
مشكلة كثير من منتقدي انتخابات البرلمان، المقربين من النظام، الآن، فيما يبدو، هي عدم الصبر وارتفاع الطموحات، فالكل يرغب في المقاعد وللكل ديون غير مسددة عند النظام، لكن المقاعد، بطبيعة الحال، محدودة، فلا يمكن مكأفاة الجميع دفعةً واحدة، ولا بد من عملية استبعاد وتقريب.
أحد أبرز الأمثلة على جزاء الصبر مقابل مغبة الحماقة التي نراها، هو عبد الوهاب عبد الرازق رئيس مجلس الشيوخ الحاليّ، فبعد التقصي عن سيرته الذاتية بعد اختياره لهذا المنصب منذ خمسة أيام، تبين أن هذا الرجل أسدى للنظام السياسي خدمات مهمة، منذ أن كان مستشارًا بهيئة المفوضية بالمحكمة الدستورية العليا، ثم بعد أن أصبح رئيسًا للمحكمة الدستورية العليا عام 2016.
أهم الخدمات التي قدمها للنظام، كانت حكمه ببطلان قانون العزل السياسي بعد الثورة، مما سمح لأحمد شفيق بالترشح ضد الرئيس الأسبق محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية 2012، وحكمه التالي بحل مجلسي الشعب والشورى المنتخبيْن إبان حكم الإخوان المسلمين، وصولًا إلى حكمه الأبرز بصحة التنازل الحكومي عن جزيرتي تيران وصنافير.
وبطبيعة الحال، ورغم هذه الخدمات، لم تستطع الدولة مكافأته بما يليق بجهوده إلا بعد أن خرج من السلك القضائي، فعين رئيسًا لحزب النظام الجديد “مستقبل وطن”، ثم رئيسًا لمجلس الشيوخ، معبرًا عن هذه العلاقة المتبادلة بينه وبين الدولة في أولى جلسات الغرفة البرلمانية المستحدثة بموجب التعديلات الدستورية الجديدة، مادحًا السيسي في وصلة نفاق مربكة بأنه: “فارس وطني مغوار غيور على شعبه، فوضه الشعب لإدارة دفة السفينة، وعزل من أراد الذهاب بالوطن إلى الهاوية، وها هو البطل يسير بالسفينة في بحر يتربص به قراصنة جبنوا عن المواجهة وجندوا من ضل به الطريق من أبناء الوطن”.
التصور الذي يسيطر على عقل السيسي، بخصوص غرفتي البرلمان، من خلال تصريحاته وسلوكه، أنها استحقاقات لا غنى عنها شكليًا لإدارة البلاد، فلا دولة حديثة دون مجالس نيابية، لكن المطلوب من هذه المجالس، أن تمرر وتصادق على القوانين التي تخرج من الحكومة، ومنه قبل الحكومة، دون جدال أو نقاش، مهما كانت هذه القوانين مضرة بالمواطن مخلة بمصالح الوطن، وهذه المعادلة لا يمكن أن تنجح، إلا لو كانت الاختيارات كلها محددة بعناية بحسب الأجهزة الأمنية، بالتنسيق مع الحزب الحاكم الجديد، مستقبل وطن.
لكن، بعض الشخصيات، التي ترى في نفسها أحقيةً مطلقة في الحصول على المقاعد، ونتيجةً لضعف التنسيق بين الأجهزة الأمنية هذه الدورة بعضها البعض، وبين بعض المرشحين، أحدثت انفلاتًا غير مألوف بالمشهد العام، ربما لن يساهم، بحسب معارضين، في تقليص حضور الناخبين خلال يومي الاقتراع، اليوم السبت وغدًا الأحد، بالمرحلة الأولى فحسب، بل قد يراكم غضبًا يشابه ما جرى في عهد مبارك أيام الحزب الوطني، لن يؤذي إلا النظام الحاكم، خاصة، إذا شهدت النتائج، المقرر إعلانها، بعد المرحلة الثانية، في موعد أقصاه منتصف ديسمبر/كانون الأول القادم، تزويرًا في أعداد الناخبين، على غرار ما كان يحدث في السابق.