طعنة جديدة تتلقاها القضية العروبية الأهم في التاريخ الحديث (فلسطين) على أيدي الأشقاء وأبناء العمومة، وذلك حين أعلنت واشنطن عن اتفاق “إسرائيل” والسودان على اتخاذ خطوات لتطبيع العلاقات، لتصبح الخرطوم ثالث بلد عربي يقيم علاقات مع الاحتلال خلال شهرين، وخامس بلد يطبع مع تل أبيب منذ زرعها في خاصرة المنطقة.
الاتفاق جاء بحسب مسؤولين أمريكيين بعد اتصال هاتفي أجراه الرئيس دونالد ترامب مع رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك من جانب، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من جانب آخر، وذلك ليسدل الستار على سيناريوهات التكهنات التي فرضت نفسها خلال الآونة الأخيرة منذ الحديث عن بدء خطوات رفع اسم السودان من القائمة الداعمة للإرهاب.
الشارع السوداني وعلى مدار الأيام الماضية كان يتساءل عن الثمن المتوقع أن تدفعه البلاد مقابل شطب اسمها من قوائم الإرهاب ورفع الحظر عن الأموال المجمدة في البنوك الخارجية بجانب فتح الباب أمام المنظمات المالية الدولية، لكن سرعان ما جاءت الإجابة لتضيف مرحلة جديدة من مراحل الرضوخ السياسي للبلد الذي طالما عُرف عنه مناهضته للتطبيع المجاني.
عاصمة اللاءات الثلاث (لا سلام، لا مفاوضات، لا اعتراف) تنضم أخيرًا لقطار التطبيع، لتقدم نفسها قربانًا لدونالد ترامب الذي يسعى للفوز بولاية ثانية في انتخابات 3 من نوفمبر/تشرين الثاني، ليبقى السؤال: هل يتناسب المقابل البخس مع التضحية السياسية والتاريخية التي يقدمها السودان، ضاربًا بمرتكزاته القومية عرض الحائط؟
يذكر أنه قبيل هذا الإعلان كان الرئيس الأمريكي قد أبلغ الكونغرس بنيته رفع السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، وذلك بعد تحويله مبلغ 335 مليون دولار كتعويضات لضحايا هجمات القاعدة عام 1998 على السفارات الأمريكية والكينية والتنزانية، التي أسفرت عن مقتل 200 شخص، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا سودانيًا كبيرًا.
HUGE win today for the United States and for peace in the world. Sudan has agreed to a peace and normalization agreement with Israel! With the United Arab Emirates and Bahrain, that’s THREE Arab countries to have done so in only a matter of weeks. More will follow! pic.twitter.com/UHB8H6oaZc
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) October 23, 2020
السودان ليس الأخير
بحسب البيان السوداني الإسرائيلي الأمريكي المشترك فإن قادة الدول الثلاثة، تحدثوا عبر اتصال هاتفي وناقشوا تقدم “السودان التاريخي تجاه الديمقراطية ودفع السلام في المنطقة”، واتفقوا على بدء علاقات اقتصادية وتجارية بين الخرطوم وتل أبيب، تنطلق في مراحلها الأولى من المجال الزراعي.
الرئيس الأمريكي الذي حمل ملف التطبيع على عاتقه خلال العامين الماضيين، أشار إلى أن السودان لن يكون البلد العربي الأخير الذي سينضم لاتفاقات العار مع دولة الاحتلال، لافتًا إلى أن هناك 5 دول أخرى تريد الانضمام لهذا الركب، ومن بينها السعودية الذي قال إنه متأكد بانضمامها قريبًا.
نتنياهو وخلال مكالمته مع ترامب أمام جمع من الصحفيين رحب بتلك الخطوة مع السودان، لافتًا إلى أن هذا يمثل “عهدًا جديدًا” في المنطقة، فيما شكر الرئيس الأمريكي على جهوده لإنجاز تلك الخطوات التي ظلت عصية على الجانب الإسرائيلي لسنوات طويلة مضت.
مستشار ترامب وصهره، جاريد كوشنر، علق على هذا الاتفاق بأنه “انفراجة كبيرة في السلام بين “إسرائيل” والسودان”، مضيفًا “إبرام اتفاقات سلام ليس سهلًا كما نصوره حاليًّا، إنه صعب للغاية”، فيما نُقل عن مسؤولين أمريكيين أنه من المتوقع عقد مراسم توقيع للاتفاق في البيت الأبيض في الأسابيع القادمة.
الرضوخ للإملاءات
منذ الوهلة الأولى لتسريب لقاء البرهان ونتنياهو في أوغندا فبراير الماضي والحديث عن التطبيع لا ينقطع، فيما تتبارى أجهزة الدولة السيادية والحكومية للتأكيد مرارًا وتكرارًا على رفض هذه الخطوة جملةً وتفصيلًا، وذلك في أعقاب رد الفعل الشعبي السلبي تجاه هذا اللقاء الذي برره البرهان وقتها بأنه لصالح السودانيين والفلسطينيين على حد سواء.
وبينما لم تبرد الأجواء الملتهبة بعد جراء هذا اللقاء الذي وصفه سودانيون بـ”العار” حتى جاءت الزيارة المريبة لرئيس المجلس السيادي لأبو ظبي قبل أيام، التقى فيها ممثل عن دولة الاحتلال بجانب مشاركة مسؤولين استخباراتيين من مصر والولايات المتحدة.
وفي خضم التنديد الشعبي بهذه الزيارة التي قيل إنها تمهيدًا للإعلان خطوة التطبيع جاءت التصريحات لتنفي تمامًا كل ما يتردد، حتى جاء الإعلان الترامبي عن شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورغم أن ترامب لم يشر إلى مسألة التطبيع في تغريدته التي أعلن فيها هذا القرار، فإن تساؤلات عدة فرضت نفسها على الشارع السوداني تتعلق بتوقيت هذا القرار والثمن المتوقع أن تدفعه الخرطوم الذي من المتوقع أن يتجاوز حاجز الـ335 مليون دولار المقررة كتعويضات للضحايا، كما هو معلن.
المعلومات الواردة عن مصادر أمريكية وسودانية كلها ذهبت في اتجاه أن هذه الخطوة قد تؤذن ببداية التحركات نحو التطبيع العلني، إلا أن تيارات داعمة للنظام الحاكم في البلاد ارتأت أن الإقدام على هذه الخطوة تتطلب أوضاعًا استثنائية لا تتناسب مطلقًا مع التموضع الحرج الذي باتت عليه الدولة خلال السنوات الأخيرة، هذا بجانب أن تقود تلك الخطوة إلى اختلال التوازن الدقيق بين العسكريين والمدنيين وهو ما قد يعرض النظام بأكمله للخطر، وذلك في محاولة لإلهاء الرأي العام عما يدور في الكواليس.
“نون بوست” في تقرير سابق له كشف ملامح هذا المخطط الذي يستهدف تشتيت الرأي العام المحلي حيال هذا الملف، وذلك حين جاءت التصريحات الرسمية السودانية لتتمسك بمبدأ “مسك العصا من المنتصف”، فوزيرة المالية السودانية هبة محمد لم تنف بشكل قاطع وجود أي علاقة بين القرار الأمريكي وتحركات التطبيع، معتبرة أن “السودان وحده من يحدد سياسته الخارجية ويقرر بشأنها في التوقيت المناسب” وهو ما يفتح الباب أمام كل التكهنات، يقابله تأكيد جازم من وزير الإعلام، المتحدث باسم الحكومة فيصل محمد صالح، على عدم وجود أي علاقة بين قرار الشطب والتطبيع.
وبين الهرولة نحو التطبيع لتحقيق المكاسب المرجوة والتريث في الإقدام على هذه الخطوة لما تحمله من تداعيات سلبية لا تتناسب وأوضاع البلاد في الوقت الحاليّ، فوجئ الجميع بترامب يعلن اتفاق التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، ليسقط القناع عن الرضوخ السوداني للإملاءات الأمريكية نظير حفنة من المكاسب التي لا تتناسب مطلقًا مع حجم الثمن المدفوع.
هذا موقف الشعب السوداني الذين يرفضون التطبيع #التطبيع_خيانة #السودان_ضد_التطبيع pic.twitter.com/PFzqn8pYUd
— غسان abo nizar (@1m_l8) October 24, 2020
ثلاثي التطبيع
المضي في خطوة كهذه لا يمكن لها أن تتم في حال عدم وجود قيادات داعمة لها، ومنذ إعلان الإمارات عن اتفاقها مع دولة الاحتلال توجهت الأصابع مباشرة إلى الخرطوم حيث العلاقات القوية التي تربط بين ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وجنرالات السودان وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، الذي كان رجل الأمير الإماراتي في إفريقيا لتنفيذ أجندته الخارجية، ومن بين أدواتها المشاركة في حرب اليمن وتزويد جيش المرتزقة الإماراتي بالجنود الأفارقة.
الأمر ذاته ينطبق على رئيس المجلس السيادي، عبد الفتاح البرهان، الذي تربطه علاقات قوية بالنظام الإماراتي والسعودي على حد سواء، فالرجل الذي يطمح في ولاية الحكم في بلاده لا يتوانى عن تقديم قرابين الولاء والطاعة لحلفائه الداعمين والممولين له خليجيًا.
أحلام الحكم والسلطة التي تهيمن على الجنرالين، البرهان وحميدتي، حولتهما إلى أداة في أيدي مراهقي الحكم في الرياض وأبو ظبي، فباتا رقمًا في قائمة الإستراتيجيات المستخدمة لتعزيز نفوذهما داخل القارة الإفريقية، هذا بجانب استغلالهما لتعظيم حضورهما العسكري ضد ميليشيات الحوثي المدعومة إيرانيًا في اليمن.
ورغم أن رئيس الحكومة الانتقالية، حمدوك، آت من رحم الثورة التي رفعت شعارات دعم القضية الفلسطينية ورفض التطبيع، فإنه وأمام الضغوط التي تواجهه وجد نفسه مضطرًا للانضمام إلى القافلة، فبات الضلع الثالث لهذا الثالوث المتصهين الذي أسقط البلاد في أتون العار.
رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الحليف القوي لـ”إسرائيل”، ربما يكون له دور أيضًا في دفع حمدوك إلى الولوج في هذا المستنقع، في ضوء مبدأ البرغماتية والميكافيللية التي يرتكن إليها الرجل في سياساته الخارجية، هذا في الوقت الذي يعاني فيه السودان من أوضاع اقتصادية متدنية، ربما تكون كفيلة بالإطاحة برئيس الحكومة من منصبه حال تعاظم الرفض الشعبي والاحتجاجات التي تزايدت وتيرتها يومًا بعد الآخر.
الحكومة السودانية وجنرالاتها يعلمون جيدًا أن قرار التطبيع هذا ربما يكون الفرصة الأخيرة لهم لإنعاش خزائن بلادهم وتجنب الهبة الشعبية بسبب تدني الأوضاع المعيشية، هذا بجانب الإغراءات المالية والسياسية التي ربما يتعرضون لها من عواصم الخليج وواشنطن وتل أبيب في آن واحد، وهو ما أسال لعاب الثلاثة نحو الإطاحة باللاءات الثلاث التي اشتهرت بها الخرطوم في القمة العربية التي استضافتها بعد نكسة 1967ما يعد انتصارًا كبيرًا يحسب لنتنياهو وحكومة الليكود لا سيما أن لهذا الاتفاق على وجه الخصوص رمزية سياسية وعسكرية كبيرة.
رفض شعبي وإدانة فلسطينية
بعيدًا عن الترحيب المصري على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي بهذا القرار الذي يعتبره خطوة نحو تقدم عملية السلام في الشرق الأوسط، دشنت تيارات سياسية سودانية جبهة لرفض التطبيع ومناهضة أشكاله، رافضة كل التحركات التي تقودها السلطات الحاكمة، وأنها لا تعبر عن رأي الشعب السوداني.
أمين أمانة العلاقات الخارجية في حزب “المؤتمر الشعبي” الذي أسسه الراحل حسن الترابي، محمد بدر الدين، علق على هذه الخطوة بقوله “إسرائيل دولة معتدية وخارجة على القانون الدولي، ولا سبب يجعلنا نقيم علاقات معها”، معلنًا انضمام حزبه لجبهة مناهضة التطبيع، فيما تبنى حزب “البعث” الاشتراكي أحد مكونات قوى “إعلان الحرية والتغيير” الحاكمة، عن اتصالات سياسية ومجتمعية لتشكيل تلك الجبهة الشعبية، كذلك حزب “الأمة القومي”، وهو ضمن الائتلاف الحاكم، و”الحزب الوحدوي الديمقراطي الناصري”.
وعلى المستوى الشعبي خرج عشرات السودانيين، أمس الجمعة، في وقفة احتجاجية في شرق العاصمة الخرطوم، ضد الاتفاق هاتفين “اسمع اسمع يا برهان لا تطبيع مع الكيان” كما رددوا شعارات أخرى مثل “لا تفاوض ولا سلام.. ولا صلح مع الكيان”، و”لا بنستسلم ولا بنلين.. نحن واقفين مع فلسطين”، فيما أحرق بعضهم العلم الإسرائيلي على الملأ وبث ذلك في مقاطع مصورة على منصات التواصل الاجتماعي.
وفلسطينيًا.. أدانت الرئاسة في بيان لها هذا التحرك المشين، حيث جاء فيه رفض الرئاسة الفلسطينية لتطبيع العلاقات مع “دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تغتصب أرض فلسطين”، مجددة التأكيد مرة أخرى على أنه “لا يحق لأحد التكلم باسم الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية”، تعليقًا على تبريرات السودان بأن هذه الخطوة تهدف صالح الفلسطينيين.
متظاهرون يحرقون علم الاحتلال الإسرائيلي.#مليونية_21_أكتوبر#السودان_ضد_التطبيع#التطبيع_خيانة pic.twitter.com/RuWqJf6FVq
— هبةُالله???? (@Hiba_Elmekki) October 21, 2020
أما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واصل أبو يوسف فوصف القرار السوداني بأنه “طعنة جديدة في ظهر الشعب الفلسطيني”، مضيفًا “انضمام السودان إلى المطبعين مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يشكل خيانة لقضيته العادلة، وخروجًا عن مبادرة السلام العربية”.
الرأي ذاته أكدته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على لسان المتحدث باسمها فوزي برهوم الذي وصف الموقف السوداني بـ”القرار الخطأ” مضيفًا “انضمام السودان لدول المنطقة المطبعة مع الاحتلال الإسرائيلي سيكون بمثابة تشجيع وغطاء للعدو الصهيوني لارتكاب مزيد من الجرائم والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته”.
أحلام عدة تداعب الموقعين على الاتفاق المزمع بين الخرطوم وتل أبيب، بين وعود الخليج وإغراءاتهم المالية من جانب وأماني شطب البلاد من قائمة الإرهاب والانفتاح على العالم الخارجي من جانب آخر، فيما يبقى الشارع السوداني في مقاعد المتفرجين يتابع عن كثب نتائج هذه الجولة التي يعتبرها هزيمة نكراء ووصمة عار في جبين بلادهم قبل أن تبدأ.