“يعيش المثقف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزحام.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقف.. يعيش يعيش يعيش”.. هكذا كتب شاعر العامية المصري الراحل أحمد فؤاد نجم واصفًا مقهى ريش القاهري.
ويعد هذا المقهى الذي يقع في شارع طلعت حرب بوسط العاصمة المصرية أحد أبرز المعالم المعمارية والأثرية في تلك المنطقة الحيوية، فهو بمثابة ألبوم كامل يحكي تاريخ المحروسة، فعلى جدرانه تُرسم مصر وتوثق معالمها، فهنا الأهرامات وبجوارها فيضان النيل، وعلى جانبيهما ميادينها العريقة، وصور لبعض رموزها وقاماتها الكبار.
من الصعب أن يمر الزائر من ميادين التحرير وطلعت حرب ومصطفى كامل دون أن يلفت نظره تلك التحفة التراثية التي يفوح منها عبق التاريخ، فبجانب أنها تعود إلى أكثر من مئة عام، فإنها كانت مسرحًا كبيرًا للكثير من الأمجاد التاريخية، حيث شهدت العديد من الأحداث التي خلدت اسمها بأحرف من نور في سجلات عجائب مصر.
وإن كانت القاهرة واحدة من أشهر عواصم العالم بمقاهيها التراثية فإن “ريش” على رأس تلك المقاهي، فهو كتاب متعدد الفصول، ما بين فن وثقافة، ثورة وسياسة، تاريخ وجغرافيا، فعلى كراسيه كُتبت منشورات الثورات، ومن ممره الواسع خرجت التظاهرات المنددة بالإنجليز تارة وبالتطبيع مع الكيان الصهيوني تارة أخرى.. فاستحق عن جدارة أن يكون فيلمًا وثائقيًا غير مكتوب.
على الطراز الأوروبي
عام 1908 وعلى أنقاض قصر محمد علي بوسط العاصمة المصرية تم تأسيس هذا المقهى بأيادي ألمانية، وكان حينها محدود المساحة، ويهدف إلى تجمع المثقفين والأدباء، لكن مع بدايات الحرب العالمية الأولى تم بيعه إلى رجل الأعمال الفرنسي هنري بير، وكان أحد الرعايا الفرنسيين في القاهرة.
وما إن اشتراه بير حتى أعطاه اسم أشهر كافيهات باريس وهو “كافيه ريش” وظل المقهى يحمل هذا الاسم حتى يومنا هذا رغم انتقال ملكيته إلى أكثر من مالك، من الفرنسي مرورًا بالألماني وصولًا إلى المصري مجدي ميخائيل الذي ما زال المقهى تحت إدارته حتى الآن.
المقهى مبني على الطراز الأوروبي، يأخذك منذ الوهلة الأولى لدخوله – وأنت تستقبله على صوت محمد عبد الوهاب يشدو علي “الجرامافون” – إلى العصور الملكية الأنيقة، حيث الشياكة والرقي والمستوى الفخم في البناء والتشييد، فخطوات قليلة تخطوها من الباب الرئيسي وصولًا إلى ممره الضيق الذي يفصل بين صفي الكراسي على الجانبين، تأخذك إلى أكثر من مئة عام من الأحداث التاريخية المؤثرة، فكل خطوة تحمل معها حدثًا تاريخيًا موثقًا على جدران المقهى.
على أنقاض قصر محمد علي بوسط العاصمة المصرية تم تأسيس هذا المقهى بأيادي ألمانية
ورغم عوامل التعرية البيئية والسياسية التي منيت بها المقاهي الشبيهة في المحروسة تحت ستار التطوير وشعارات الحداثة، فإن “ريش كافيه” ظل محافظًا على أصالته ورونقه، هذا بجانب التزامه بطقوسه التي يسير عليها منذ نشأته، وعلى رأسها عدم تقديم الأرجيلة “الشيشة” ومنع اللعب بالأوراق والكوتشينة، ليعم الهدوء أرجاء المكان لا يكسر خيوطه إلا صوت عبد الوهاب أو أم كلثوم.
ملتقى الأدباء والمثقفين
تحول المقهى إلى قبلة الأدباء والمثقفين، ليس من داخل مصر وفقط، بل شعراء وأدباء العرب كانوا يلتقون كذلك في هذا المكان الذي بات سوقًا أدبيًا للجميع، ومسرحًا لعقد الندوات وجلسات الشعر ومناقشة الأعمال الثقافية والأدبية، هذا بجانب عقد المؤتمرات السياسية بداخله كذلك.
وكان من أشهر المثقفين رواد “مقهى ريش”: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وصلاح جاهين وثروت أباظة ونجيب سرور وكمال الملاخ وكامل جاويش والرسام أحمد طوغان والمحامي الأديب عباس الأسواني وشاعر النيل حافظ إبراهيم وامام العبد ومحجوب ثابت.
ومن الأدباء العرب: العراقي عبد الوهاب البياتي والسوري حسين الحلاق السوري والفلسطيني معين بسيسو والسوداني محمد الفيتوري واليمني محمد أحمد نعمان والأمير علي عبد الكريم سلطان الحج المخلوع وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات المثقفين المصريين والمشاركة فيها.
وعلى مشارف هذا المقهى كان الملحن الشيخ أبو العلا محمد يصطحب معه كوكب الشرق أم كلثوم، وكانت لا تزال طفلة لم تتجاوز الـ12 من عمرها، حيث كان يعقد حفلاته ويعزف ألحانه وهي تستمع إليه، فيما كانت تشاركه الغناء بين الحين والآخر، حتى ذاع صيتها، وكان لهذا المكان الفضل الكبير في تعريف الناس بهذه الموهبة الصغيرة.
تاريخ من النضال السياسي
فيما كانت معظم المقاهي المصرية في ذلك الوقت تتجنب المغامرة بالدخول في أتون السياسة كان “ريش كافيه” في منطقة أخرى بعيدًا عن المألوف، فبجانب أنه كان ملتقى للأدباء والمثقفين وقاعة كبيرة للحفلات الفنية والطرب الأصيل، كان في الوقت ذاته مدرسة سياسية ثورية من الطراز الأول.
الكثير من الروايات تجسد التاريخ النضالي لهذا المقهى، الذي كان أحد أهم التنظيمات السرية في ثورة 1919
المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الرافعي في كتابه “تاريخ مصر القومي 1914- 1921” أشار إلى أن المقهى كان ملتقى لأفندية الطبقة الوسطى، كما كان مقرًا مهمًا لدعاة ثورة 1919 والشباب المصري المتحمس للنضال ضد الإنجليز، لافتًا إلى أنه كان معقلًا لمختلف الطلائع السياسية المتحررة من التعصب الحزبي الذين رغم اختلافهم السياسي، كان هم الأمة ومصالحها الوطنية القاعدة التي تجمعهم على قلب رجل واحد.
وإيمانًا من الحكومة المصرية الموالية للإنجليز في ذلك الوقت بقيمة هذا المكان، فكان دائم الانتشار لرجال الأمن من الجواسيس والبوليس السياسي، لكن لحمة الشباب الثوري ووحدة هدفه كانت حائط الصد أمام أي محاولات سلطوية لتفتيت وحدتهم وتشتيت هدفهم الأسمى وهو تحرير الوطن.
الكثير من الروايات تجسد التاريخ النضال لهذا المقهى، الذي كان أحد أهم التنظيمات السرية في ثورة 1919، حيث تحول إلى مكان لعقد اجتماعات الثوار المصريين، كما كان يطبع فيه المنشورات التي توزع على المصريين، وكان المقهى يلجأ إلى تشغيل أصوات الموسيقى بصوت عالٍ ليغطي على صوت آلات طبع المنشورات في بدرومه الخاص والمنازل الملاصقة له.
ويذكر أنه خلال زلزال 1992 الذي ضرب القاهرة عُثر على آلة لطبع المنشورات وذلك عقب شرخ في أحد جدران المقهى، فيما تم اكتشاف سرداب سفلي به منشورات يدوية وبعض الآلات المعدنية الأخرى التي كانت تستخدم في الثورة المصرية ضد الإنجليز.
دعم القضية الفلسطينية
كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في تاريخ مقهى ريش المصري، فمن على أبوابه انطلقت ثورة الأدباء الشهيرة احتجاجًا على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني عام 1972 الذي فر من فلسطين ليلقى مصيره في لبنان بعد استهداف الموساد الإسرائيلي سيارته ليفجر دمه الطاهر مظاهر الغضب العربي ضد “إسرائيل” والاحتلال الغاشم.
وعقب توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية السلام “كامب ديفيد” مع الكيان الصهيوني تحول المقهى إلى مسرح سياسي لمناقشة هذه الخطوة التي وصفها المثقفون بـ”العار”، حيث شهدت أروقته نقاشات ساخنة بين مختلف الأطياف السياسية حيال هذا الموضوع.
كما شهد أيضًا العديد من التظاهرات الرافضة لاتفاق السلام مع “إسرائيل”، رافضة التطبيع في ظل خضوع الأراضي الفلسطينية لسيطرة الاحتلال، الأمر الذي أزعج نظام السادات كثيرًا، ما دفعهم للضغط على صاحبه بإغلاقه ومنع إقامة أي فعاليات ثقافية أو سياسية بداخله تدين النظام.
واضطر مجدي ميخائيل صاحب المقهى أن يغلقه لعدة سنوات خشية ملاحقته أمنيًا في ظل قانون الطوارئ الذي يقتفي أثر أي تجمعات بدعوى الظروف الحساسة التي تمر بها البلاد في هذا الوقت، إلا أنه أعاد فتحه بعد سنوات قليلة، ليعود المقهى إلى سابق عهده مرة أخرى، ملتقى المثقفين والأدباء.
ربما لم يعد مقهى ريش بنفس الزخم السياسي والثقافي الذي كان عليه قبل عقود طويلة، لكن جلسة واحدة بداخله كفيلة أن تأخذك على جناح السرعة في رحلة تاريخية ثرية إلى قرن كامل من الزمان، حيث المحطات التاريخية المهمة في مسيرة الدولة المصرية التي كان المقهى شاهدًا على كثير منها.