“عام 1973 كان شهر رمضان مختلفًا، ففي اليوم العاشر منه حدث أمر تمناه العرب جميعًا: لقد سقط المارد الصهيوني بتحطيم خط بارليف وازدادت فرحة منير عندما أعلن الملك فيصل حرب النفط، بدأ يستمع للإذاعات العربية وبدأ يردد مع عبد الحليم عاش الحرب اللي في ليلة أصبحوا ملايين تحارب”.
درجت الأدبيات العربية على تأصيل هويتها المميزة الضاربة في أرض التاريخ، فمن ليس له ماضٍ لا يملك الحاضر ولا المستقبل، لكن هناك بعض الأعمال الأدبية التي طرحت إشكالية الهوية بشكل معاكس لما اعتدناه وهذا ما جعلنا أمام طرح جديد بشأن مسألة الهوية والإشكالية المرتبطة بها بما يكشف التحولات الكبيرة التي شهدها المجتمع العربي عامة ومجتمعات الخليج بشكل خاص.
فهناك العديد من الروايات التي تناولت قضية الهوية في المجتمع الخليجي خاصة في الحقبة التي عرفت بما بعد النفط، نذكر منهم رواية “ساق البامبو” للكاتب الكويتي سعود السنعوسي التي تحكي عن عيسى الشاب الكويتي من أم فلبينية الذي يواجه الرفض الاجتماعي في الكويت ويبحث عن هويته الضائعة الأشبه بسيقان البامبو التي لا تنتمي لتربة خاصة، ورواية “غفوة ذات ظهيرة” للكاتب السعودي عبد العزيز الصقعبي التي تتناول أيضًا مسألة الهوية لكن بشكل مختلف، ففي الوقت الذي كان عيسى يعيش فيه صراعًا بشأن ذاته الممزقة بين الكويت والفلبين، كان منير بطل رواية “غفوة ذات ظهيرة” يعيش صراعًا مختلفًا يعتمل بداخله وفي أثناء بحث منير عن هويته يسرد لنا الصقعبي التحولات الثقافية في المجتمع السعودي.
حين تجد نفسك وحيدًا وسط الجميع
تبدأ أحداث الرواية في عهد الملك سعود وتحديدًا بعد خمس سنوات من توليه الحكم، وتحكي أحداثها عن منير الذي يتركه والداه عند إحدى صديقات والدته لفترة من الوقت ويقرران الذهاب إلى مصر في فترة الخمسينيات لأن والدة منير كانت مصابة بمرض عضال لم يكن له علاج في السعودية، لكن والدي منير يذهبان بلا رجعة وفي أحد نهارات السعودية الحارة يكون منير جالسًا على عتبة دار العائلة التي تعتني به ليحترق المنزل بالكامل ويموت جميع أفراد العائلة.
وقت احتراق المنزل كان هناك رجل غريب يمر بالصدفة من أمام البيت ليجد منير جالسًا بجوار النيران فينقذه ويودعه عند الجارة اليمنية التي تسلمه لمسعود في اليوم التالي لأنها لن تقدر على تربيته مع أبنائها، ومن هنا تحديدًا ستبدأ رحلة منير الشاقة في الحياة أو لنقل أنها بدأت مع ولادته، فحتى أوراقه الثبوتية ضاعت في الحريق ولم يعرف منير أبدًا اسم أبويه وأين هما.
يعيش منير جميع تحولات المجتمع العربي والسعودي بداية من الخمسينيات، ويحكي لنا الكاتب في الخلفية عن شكل هذا التحول
يقوم مسعود بتربية منير ويعيش من أجله خاصة أنه لم يتزوج ولم يكن له ولد، وبمرور السنوات يكبر منير ويموت مسعود وترفضه عائلة مسعود قائلة له أن يشق طريقه بعيدًا عنها، يتحول منير إلى شخص بلا هوية خاصة بعد فشله في محاولات الزواج كما أنه لا يتمكن من تكوين علاقات اجتماعية بسبب ميوله إلى قراءة الأدب والاستماع إلى الموسيقى وهو الأمر الذي كان مرفوضًا في المجتمع السعودي قديمًا.
منير عبد الله: البطل الذي اختار الحياة على الهامش
“أنا هذا الغريب، حياتي جميعها أسئلة دون إجابات”.
يعيش منير جميع تحولات المجتمع العربي والسعودي بداية من الخمسينيات ويحكي لنا الكاتب في الخلفية عن شكل هذا التحول بداية من البيوت وهيئتها وحتى التغيرات السياسية والثقافية، يحكي منير عن الحقبة الناصرية وأثرها على السعودية ثم فترة حكم السادات وقد كان منير متابعًا للشأن المصري بسبب والديه، حيث نرى تأثره بنكسة 67 التي كانت فاجعة لمنير خاصة وهو يستمع إلى صوت فيرزو وهي تغني زهرة المدائن وسنرجع يومًا، نعيش مع منير بعد ذلك فرحته العارمة بنصر أكتوبر 73 ثم حزنه الشديد في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، يقول أحمد صديق منير في الرواية “أتعرف ماذا يعني فقد بيروت، يعني أن نفقد بوصلتنا الثقافية”.
تأتي بعد ذلك فترة الصحوة في السعودية لتسيطر بقوة على جميع مناحي الحياة مثل التعليم والثقافة والتربية وهنا نجد حسن جار منير يأتي إلى غرفته ويمزق صور الفنانين التي يعلقها صديقه على الحائط، وتنتشر في هذه الفترة فكرة الجهاد والالتحاق بقوافل المجاهدين في أفغانستان والشيشان وبعد مرور سنوات طويلة يتغير فكر المملكة إلى التنوير والانفتاح وفي هذا الوقت يفقد منير الثقة في الجميع بلا استثناء ويعيش وحيدًا ليكتب سيرته الذاتية حيث كان يرى نفسه يعيش في وطن يتغير باستمرار وهو لا يتغير أبدًا.
الجلوس على العتبة
كان منير يشعر طوال الوقت بأنه يعيش في واقع لا يجيد قراءته، من حوله يتغيرون باستمرار تارة يصبحون مساندين للدول العربية وتارة أخرى مناهضين لها ثم يجب عدم الاستماع للموسيقى لأنها حرام وبعدها أوقدت الدولة السعودية شعلة الحداثة، تحدث التغيرات الثقافية في المجتمع دون أن يشارك فيها أفراده كأنهم جميعًا يجلسون على العتبة وتُفرض عليها الأنماط فرضًا، يحدث التغيير أمامهم وليس من خلالهم.
بمرور السنوات تحولت العلاقة بين آل سعود وآل الشيخ إلى علاقة مؤسساتية مستمرة
لا يملك أحد من أبطال الرواية موقفًا تجاه قضية إلا ويتغير بمرور الصفحات وهنا دعونا نعود للوراء كثيرًا لنعرف السبب، منذ تأسيسها الأول كانت السعودية تستند على الشرعية الدينية وذلك بداية من تحالفها مع محمد بن عبد الوهاب في الدولة السعودية الأولى وصولًا إلى التحالف مع محمد آل الشيخ في الدولة السعودية الثالثة، لكن طوال تلك السنوات كانت السلطة الدينية والثقافية خاضعة دومًا للسلطة السياسية.
وبمرور السنوات تحولت العلاقة بين آل سعود وآل الشيخ إلى علاقة مؤسساتية مستمرة، لهذا كان دائمًا ما يؤكد الملك عبد العزيز على أهمية التحالف مع المذهب الوهابي للحفاظ على الدولة السعودية، وفي المقابل لم يتأخر الوهابيون عن دعم الدولة، لكن تغيرت الأمور كثيرًا باكتشاف النفط واختل ميزان القوة لصالح الأمير وساهم البترول في إعادة تشكيل الاقتصاد السعودي وهنا أصبحت السلطة السياسية هي الأقدر على استقطاب المحكومين وبالتالي فهي لا تحتاج إلى وساطة علماء الدين في علاقتها مع الشعب.
هنا تحولت السعودية بشكل كبير، فوسط تصفيق حار من الحضور في المؤتمر الاقتصادي الذي حمل اسم “مبادرة الاستثمار في المستقبل” أعلن الأمير محمد بن سلمان أن بلاده عانت كثيرًا من المذاهب والأفكار الصارمة وقد آن أوان محاربة تلك الأفكار والقضاء عليها فورًا، هذه التوجهات الأخيرة يمكن قراءتها أيضًا في ضوء تصريح السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة حين قال “ما تريده السعودية والإمارات ومصر والبحرين للشرق الأوسط هو حكومات علمانية”.
في النهاية، نعود مرة أخرى إلى منير لنتحدث عن علاقته بكل ذلك، منير يجسد المجتمع السعودي الذي عاصر جميع تحولات المجتمع الثقافية ليكتشف أنها لا تمثله أبدًا ولا تعبر عنه، عاش منير مع مسعود لكنه لم يكن والده الحقيقي ثم تزوج بيسرا ولكنها لم تحبه أبدًا، في طفولته تعرف على أسرة مسعود ولكنهم لم يعتبروه ابنًا لهم، وحتى في العمل ظل لسنوات طويلة دون أن يترقى أو يصنع مسارًا مهنيًا وحين تقدم باستقالته لم يمنعه أحد ولم يودعه زملاؤه، كان دومًا خارج الأحداث لم يكن جزءًا منها وحين حاول صنع هويته الخاصة كان الأمر صعبًا، فهناك دومًا سلطة أقوى وأطغى وهي فقط القادرة على فرض كلمتها.
تجدر الإشارة إلى أن عبد العزيز الصقعبي هو روائي ومسرحي سعودي صدرت له روايات “رائحة الفحم” و”اليوم الأخير لبائع الحمام” و”مقامات النساء”، هذا بالإضافة إلى المجموعات القصصية مثل “لا ليلك ليلي ولا أنت أنا” و”أحاديث مسائية” و”البهو” و”أنت النار وأنا الفراشة”، كما كتب أيضًا مسرحية “صفعة في المرآة”.