لا تزال أصداء انخراط السودان في ركاب التطبيع مع دولة الاحتلال تخيم على الأجواء، ولم يستفق الشارع بعد من صدمته، فما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أول أمس كان أمرًا مستبعدًا لقطاع كبير من أبناء دولة اللاءات الثلاث (لا سلام، لا مفاوضات، لا اعتراف).
حالة من الفوضى تسيطر على المشهد السياسي الذي يحيا واقعًا من الغموض والجدل غير المسبوق منذ عقود طويلة، رفض في البداية لأي محاولات للتقارب مع تل أبيب رغم الضغوط، مرورًا بإنكار أي خطوات في هذا الشأن مهما كان الثمن، وصولًا إلى الدفاع عن التطبيع الكامل بزعم الانتصار لمصالح الفلسطينيين والسودانيين معًا.
تحرك ألقى بظلاله على خريطة البلاد السياسية، فسارعت أحزاب وقوى وكيانات من مختلف التيارات لرفض تلك الخطوة التي وصفت بأنها “ناسفة لكل مرتكزات الدولة الوطنية” وتنتهك الوثيقة الدستورية المُقرة، الأمر الذي ينذر بالدخول إلى مرحلة جديدة من التوتر بين الشارع والسلطة الانتقالية الحاكمة.
أصوات شعبية عالية تطالب المجلس السيادي والحكومة بالتراجع عن هذا القرار والارتكان لرأي الشعب الرافض للخروج عن ثوابت ومآثر سودان اللاءات الثلاث في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي يرى في الخطوة السودانية طعنة جديدة تضاف إلى طعنات الإمارات والبحرين الدامية.
أجواء ملتهبة واحتقان شعبي متصاعد، تبريرات حكومية لتمرير الاتفاق عبر دغدغة المشاعر بالإغراءات المادية والوعود السياسية، ورفض حزبي ومجتمعي بالإجماع، تحذيرات من مواجهات تعيد الأوضاع إلى ديسمبر 2018، فهل يشهد السودان حراكًا ثوريًا جديدًا؟
رفض سياسي
بيانات استنكار عدة أصدرتها عدد من الأحزاب والكيانات السياسية السودانية لرفض الاتفاق الموقع مع الكيان المحتل، وسط مؤشرات بشأن تدشين جبهة سياسية لمجابهة التطبيع والتصدي لمساعي التقارب مع تل أبيب على حساب القضية الفلسطينية.
البداية كانت من داخل الائتلاف الحاكم “قوى الحرية والتغيير” حيث أصدرت كتلة “تحالف قوى الإجماع الوطني” بيانًا اتهمت فيه السلطة (المجلس السيادي والحكومة) بخرق المواثيق المتفق عليها والخروج عن ثوابت ومرتكزات الدولة فيما يتعلق بموقفها من القضية الفلسطينية والمحتل الإسرائيلي.
وأشار البيان الصادر عن الكتلة التي تضم عددًا من الأحزاب منها الحزب الشيوعي والبعث والناصري، إلى المواقف السابقة لرئيس الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، التي رفض فيها الربط بين شطب اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب والتطبيع مع “إسرائيل”، هذا بخلاف التصريحات التالية لتوليه المسؤولية سبتمبر/أيلول قبل الماضي التي كانت ترفض أي خطوات من شأنها التقارب مع تل أبيب.
مباحثات تشكيل جبهة عريضة ضد التطبيع بدأت منذ وقت مبكر، وسترى النور قريبًا.. حزب “المؤتمر الشعبي”
التكتل استعرض بعض الخروقات التي وقعت فيها السلطة الانتقالية بهذا الاتفاق المزمع، على رأسها حين اجتمع البرهان مع نتنياهو في أوغندا، فبراير الماضي، دون تفويض أو سند من الوثيقة الدستورية، ثم الإعلان عن توقيع اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية والانخراط في مجالات تعاون مشترك دون تفويض رسمي أيضًا.
الأحزاب السياسية الأخرى اعتبرت ما حدث صفقات سرية تمت دون إرادة من الشعب والتفاف على رغباته، متعهدة بتدشين جبهات موحدة للتصدي لكل أشكال التطبيع وممارسة كل أشكال الضغط على المجلس والحكومة للتراجع عن هذا القرار المتوقع أن يحدث شروخات قوية في منظومة القيم والثوابت الوطنية للمجتمع السوداني.
وفي أول تحرك شبه رسمي لوح حزب “الأمة” القومي برئاسة الصادق المهدي، بإمكانيه اللجوء لسحب تأييده للحكومة الانتقالية، إذا استمرت في هذا الدرب، لافتًا إلى أن موقفه واضح وصريح تجاه التطبيع وهو الموقف الذي يتماشى مع الموقف العظيم والتاريخي للشعب السوداني.
الحزب وصف الهرولة للتطبيع مع المحتل بأنه تهميش متعمد من السلطة لهذا الملف الحساس الذي كان يتطلب الدراسة المتأنية والبحث المعمق قبل البت فيه بهذه السهولة، واصفًا الحديث عن مجالات التعاون المشترك والبدء فيها بهذه السرعة بأنه قرار مبكر للغاية في ظل عدم وجود أي تفويض شعبي بالمضي قدمًا في هذا الاتجاه.
الموقف ذاته تبناه حزب “المؤتمر الشعبي” الذي أسسه الراحل حسن الترابي، الذي أكد أن مباحثات تشكيل جبهة عريضة ضد التطبيع بدأت منذ وقت مبكر، وسترى النور قريبًا، مضيفًا أن تلك الجبهة ستضم الكثير من القوى والتيارات ذات الميول السياسية المتباينة، وهو الاتجاه الذي ذهب إليه “الحزب الشيوعي” كذلك الذي أكد على لسان قادته أنهم سيعملون بكامل طاقتهم لإفشال مخطط التطبيع الذي يعد ضربة قوية بحق الثورة السودانية.
حزب “المؤتمر الشعبي” في #السودان الذي أسسه الراحل الدكتور، حسن الترابي، يدعو “الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والفئوية والشعبية وسائر قطاعات المجتمع، للاصطفاف ضدّ الموقف المتخاذل من السلطة الانتقالية في البلاد، والنزول إلى الشارع لإسقاط قرار التطبيع مع” الكيان الصهيوني. pic.twitter.com/4h4rhVq0M3
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty_2) October 25, 2020
فرصة لتنحي الخلافات
رب ضارة نافعة.. هكذا ذهب فريق من الخبراء السودانيين تعليقًا على تداعيات خطوة التطبيع، لافتين إلى أن ردود الفعل حيال هذه الخطوة من التيارات والقوى السياسية تشير إلى حالة من التوافق وتنحية الخلافات السياسية والمذهبية، وهو الأمل الذي طالما كان الشارع ينشده لسنوات طويلة.
أنصار هذا الفريق يميلون إلى أن التصدي لمواجهة مسار التطبيع ربما يكون مدخلًا جيدًا لتوافق سياسي عريض، تتجاوز فيه القوى السياسية كافة، اليسارية منها واليمينة، خلافاتها التي كانت سببًا في تأزم الوضع لسنوات طويلة، ويتم وضع قاعدة مشتركة من الثوابت للانطلاق من خلالها نحو تدشين كيان سياسي قوي في مواجهة تغول السلطة الانتقالية الحاليّة على الميثاق الدستوري والالتفاف على إرادة الجماهير.
تتزايد التوقعات بشأن تصاعد مستويات رد الفعل، حيث دعت بعض الأحزاب ومنها “المؤتمر الشعبي” إلى التظاهر والنزول للشارع من أجل إسقاط قرار التطبيع مع “إسرائيل”
ويذهب الداعمون لفكرة تدشين هذه الجبهة المعارضة إلى احتمالية انضمام تيارات إسلامية، سلفية وصوفية، بما فيها تيار الإخوان المسلمين، لما تحتاجه البلاد في الوقت الراهن من توحيد صفها الداخلي وتعاظم تماسكها السياسي والديني في ظل التدخلات الخارجية القوية والضغوط التي تتعرض لها الخرطوم من بعض العواصم لا سيما الخليجية وحلفائها.
أنا المواطن السوداني أيوب النور وبكامل أرادتي في ظل غياب المجلس التشريعي الذين يمكن لمن أنتخبه فيه أن يتحدث بأسمي – فأنا أرفع أسمي كرافض للتطبيع وبرئ أمام الله وأمام كل صاحب ضمير حي مما تتخذه الحكومة من إجراءت للتطبيع مع الكيان الصهيوني ✋#سودانيون_ضد_التطبيع pic.twitter.com/xA2HdbNItV
— . (@bin_Elnour) October 23, 2020
ثورة ضد التطبيع
وفي سياق آخر، تتزايد التوقعات بشأن تصاعد مستويات رد الفعل، حيث دعت بعض الأحزاب ومنها “المؤتمر الشعبي” إلى التظاهر والنزول للشارع من أجل إسقاط قرار التطبيع مع “إسرائيل”، حيث ذكر الحزب في بيانه أنه “يدعو الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والفئوية والشعبية وسائر قطاعات المجتمع للاصطفاف ضد الموقف المتخاذل من السلطة الانتقالية في البلاد، والنزول إلى الشارع لإسقاط قرار التطبيع مع إسرائيل”.
كما طالب الحكومة التنفيذية ومجلس السيادة (وهما جناحا السلطة الانتقالية في السودان) بالتراجع عن تلك الخطوة، وعدم المضي في إقامة أي علاقات مع دولة الكيان الصهيوني المغتصب، مناشدًا السلطة بترك مثل تلك القضايا المصيرية للحكومة المنتخبة من الشعب السوداني وليس حكومة انتقالية “تسيرها السفارات والمنظمات الأجنبية”، وفق وصفه.
بعض المراقبين والإعلاميين رجحوا احتمالية أن تشهد الأيام المقبلة تظاهرات شعبية واحتجاجات ميدانية منددة بسياسات السلطة الانتقالية في البلاد، التي كانت سببًا رئيسيًا في تزايد حالة الاحتقان ضدها عقب فشلها في تحقيق الحد الأدنى من مطالب ثورة ديسمبر، هذا بجانب تخليها عن الثوابت الوطنية والرضوخ لإملاءات العواصم الخليجية والغربية.
سيناريوهات يحمل بعضها صفة الخطورة ربما تشهدها الساحة السودانية خلال الفترة القادمة، بين إصرار السلطات الحاكمة على المضي في طريق التطبيع وفق المغريات والوعود المقدمة، وتحدي الشارع لمثل تلك التحركات التي تتعارض مع مرتكزاته، وهو ما قد يجعل الباب مفتوحًا أمام كل الاحتمالات حال تمسك كل طرف بموقفه.
وعلى عكس حالة الاستسلام التي بدا عليها المشهدان الإماراتي والبحريني حيال اتفاق التطبيع مع “إسرائيل”، فإن الوضعية السودانية تختلف إلى حد كبير، فالتاريخ هنا يقول كلمته، والخصومة التاريخية بين البلدين واضحة للعيان، منذ مشاركة الجيش السوداني في حرب السادس من أكتوبر 1973، بجانب تزايد قوة ومكانة القوى السياسية والشعبية الرافضة للتطبيع، وهو ما يزيد من تأزم الموقف ويجعل من تمرير هذا الاتفاق خطوة ملغمة ربما تعيد رسم الخريطة السياسية للبلاد مجددًا وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.