يقع كثير من المؤرخين العرب في خطأ تاريخي كبير حين ينسبون بداية عهد العرب بالثورات الشعبية لدول وشعوب أخرى غير التي شهدتها بالفعل، مستندين إلى تباين مفهوم الثورة وشروطها في تأريخهم لها، غير أنه وبحسب خبراء علم الاجتماع السياسي فإن أول ثورة شعبية في إفريقيا والعالم العربي هي ثورة السودان الشعبية في الـ21 أكتوبر/تشرين الأول 1964.
تعد تلك الثورة الفاصلة في تاريخ السودان أول ثورة شعبية تطيح بنظام عسكري في المنطقة بأسرها، حيث أزاحت نظام الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود وأجبرته على تقديم استقالته بعد 3 أسابيع فقط من انطلاقها، ليتسلم السلطة المدنيون فيما يعود الجيش إلى ثكانته.
وقدمت الثورة السودانية أحد أبرز النماذج في وحدة الصف السياسي وقدرته على تحقيق الفارق، حيث تحالف الشارع من التيارات كافة: الإخوان والشيوعيين والمسلمين والمسيحيين، بجانب تحالف أبناء الشمال مع أهل الجنوب في ملحمة استطاعت إسقاط نظام الجنرال في أيام معدودة.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فرغم مرور 56 عامًا على تلك الثورة، فإنها تتقاطع بشكل كبير مع ثورات الربيع العربي فيما يتعلق بدوافع نشوبها، حيث سئم الشعب من الممارسات الديكتاتورية للعسكر وسياسات تضييق الخناق وكبت الحريات ووأد الرأي الآخر التي يبدع فيها جنرالات الحكم، الأمر الذي دفع الشعب المستكين بطبيعة الحال إلى الانتفاضة بعدما فاض به الكيل رغم التنكيل والقبضة الأمنية المشددة.
فخ الاستقلال
منذ استقلال السودان عن مصر في يناير/كانون الثاني 1956 والأوضاع السياسية تتأرجح بين السخونة والالتهاب، فرغم التشجيع الدولي على هذه الخطوة التي يتخلص فيها السودانيون من قبضة النظام المصري بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، فإن النسيج السياسي الداخلي لم يكن مهيئًا بعد لتلك المرحلة.
استقر البرلمان السوداني على اختيار القيادي البارز إسماعيل الأزهري في منصب أول رئيس وزراء للبلاد بعد الاستقلال، كونه رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الفائز في الانتخابات التشريعية التي جرت عام 1953، هذا بجانب الدعم السياسي الذي كان يلقاه من بعض الطوائف والتيارات الداخلية.
لم تستمر تلك الحكومة أكثر من سبعة أشهر فقط حتى دب فيها الخلاف والشقاق، فكانت النتيجة أن انشق الحزب الاتحادي الديمقراطي إثر خلاف مع الزعيم علي الميرغني الذي غرد منفردًا مشكلًا حزبًا جديدًا تحت مسمى “حزب الشعب” لتسقط معه أول حكومة رسمية في البلاد.
وأمام هذا النزاع لم يجد البرلمان إلا “حزب الأمة” المعارض لمنحه تشكيل الحكومة، وبالفعل تولى الأميرالاي عبد الله خليل رئاسة الوزراء، وكان هذا الاختيار ضربة موجعة للأزهري وحزبه الذي سعى لترميم الشروخ التي أحدثها الخلاف مع الميرغني وتسببت في إسقاط حكومتهما.
وعلى الفور حدث تقارب سياسي واضح بين الأزهري والميرغني، ما أثار قلق حزب الأمة الذي يشكل الحكومة، خشية استعادة نفوذهما مرة أخرى، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة للتآمر مع قائد الجيش إبراهيم عبود وتسليمه السلطة بزعم إنقاذ استقلال السودان بعدما سربت بعض الصحف شائعات تشير إلى تنسيق بين الأزهري وعبد الناصر لإعادة السودان للعباءة المصرية مرة أخرى.
انقلاب العسكر
كانت الأجواء تشير إلى انقلاب عسكري وشيك وذلك بعدما سلم حزب الأمة الأمور على طبق من فضة للجنرالات، ورغم التحذيرات الصادرة من الداخل والخارج بخصوص هذا الحدث المدعوم أمريكيًا كما زعم اليساريون، فإن أحدًا لم يتحرك لإنقاذ الموقف.
وفي صبيحة 17 من نوفمبر/تشرين الثاني 1958 تحركت عدة فرق مسلحة من الجيش لتمسك بزمام السلطة، وكان أول قراراتها تعطيل العمل بالدستور وحل البرلمان وإلغاء الأحزاب، فيما أعلن الجنرال عبود تشكيل حكومة جديدة لإدارة شؤون البلاد وجاء معظمها من رجالات الجيش.
استهل عبود حكمه بقبول المعونة الأمريكية وشحنة الأسلحة البريطانية، الأمر الذي زاد من شكوك دعم الغرب لانقلابه، تعززت تلك الشكوك بالتأييد الكبير الذي لاقاه الرجل من الصحف الأوروبية والأمريكية التي اعتبرت ما حدث هزيمةً للجنرال المصري الموالي للسوفييت في هذا الوقت.
فشلت حكومة التكنوقراط المدعومة عسكريًا في التعاطي مع مشاكل الداخل، ما تسبب في تأزم الأوضاع، الأمر الذي دفع عبود ورفاقه إلى الانفتاح على الغرب للحصول على المنح والقروض، وهو ما جعل القرار السوداني مرتهنًا لإرادة الغرب في كثير من المواقف، هذا رغم النأي بالبلاد عن الانخراط في أي صراع إقليمي.
ثم جاءت مشكلة جنوب السودان لتكون بمثابة “القشة التي ستقصم ظهر البعير” وذلك حين اتخذ الرجل العديد من القرارات التي أثارت حفيظة سكان الجنوب وعززت من وتيرة احتقانهم ضد الحكومة، فطرد المسيحيين من الجنوب وفرض عليهم تعليم اللغة العربية قسرًا، وهو ما كان بمثابة الفخ الذي وقع فيه عبود وأثار العالم ضده.
وأمام مناخ التضييق والتنكيل الذي فرضه العسكر زاد الاحتقان الشعبي ضد الحكومة، ما دفع الإخوان المسلمين هناك إلى محاولة الانقلاب على حكومة عبود عام 1959 لكن المحاولة باءت بالفشل، ما نجم عنه اعتقال مسؤول الجماعة الأول الرشيد الطاهر بكر، فيما أنكرت الجماعة معرفتها بتلك المحاولة التي قالت إنه قام بها دون العودة إليها.
أحمد النقراشي.. أيقونة الثورة
في الـ21 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 عقدت جامعة الخرطوم ندوة تناقش المعالجة الدستورية لمشكلة جنوب السودان، وكان يحاضر فيها القيادي حسن الترابي، الذي كان شابًا آنذاك في العقد الثالث من عمره، وكان يحمل الدكتوراة في القانون الدستوري من جامعة السوربون.
وحضر تلك الندوة العديد من الطلاب، وفيها قال الترابي: “حل مشكلة الجنوب يكمن في حل مشكلة الشمال، ويكمن الاثنان معًا في زوال الحكم العسكري الحاليّ وقيام حكم دستوري مؤسس على الخيار الديمقراطي للشعب” وهو ما لم تتحمله قوات الأمن التي كانت تحيط المكان.
وعلى الفور نشبت مناوشات طفيفة بداية الأمر بين الأمن والطلاب المشاركين في الندوة، تطور الأمر إلى تظاهرات عارمة شهدتها أروقة الجامعة، وعلا الهتاف الذي يطالب بإسقاط حكم عبود، فيما أقدمت عناصر الأمن الموجودة على اعتقال بعض الطلاب المشاركين في التظاهرات.
وبينما كان الوضع لا يتعدى مناوشات هنا وهتافات هناك، حتى سمع صوت طلق ناري خرق الآذان، وفجأة سقط طالب يدعى “أحمد النقراشي” إثر رصاصة اخترقت جمجمة رأسه فأردته قتيلًا في الحال، حالة من الصدمة أثارتها دماء الطالب المسالة على تراب الجامعة، فيما تقهقر الأمن للخلف.
فجر قتل النقراشي ينابيع الثورة في نفوس الطلاب (كما هو حال خالد سعيد والثورة المصرية في 2011) فانضم طلاب المعاهد والجامعات الأخرى إلى طلاب جامعة الخرطوم ومعهم طلاب المدارس الثانوية وممثلو النقابات والهيئات، وبدأت إرهاصات الثورة تفرض نفسها على المشهد، وكان يوم 24 من أكتوبر/تشرين الأول البداية الفعلية لإشعال الحراك بشكل ممنهج.
خرجت الأمور عن سيطرة الجنرال، لا سيما بعد بيان مجموعة ضباط الجيش الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “الضباط الأحرار” وأعلنوا فيه تضامنهم مع الشعب وحيوا حراكهم الثوري، كان ذلك بتاريخ 28 من أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.
حاول عبود استجماع قواه قدر الإمكان، ساعيًا لمغازلة الشارع وتهدئته عبر بيانات وإجراءات عدة، أبرزها الدعوة لحوار وطني وتشكيل حكومة انتقالية، وهو ما رفضه الغاضبون الثائرون المطالبون برحيل الجنرال وتشكيل حكومة مدنية وإنهاء حكم العسكر.
وبعد 9 أيام فقط من اندلاع الثورة، وفي الـ30 من أكتوبر/تشرين الثاني 1964، وقع الاختيار على سر الختم الخليفة، الذي كان يعمل مساعدًا لوزير التعليم، رئيسًا للوزراء، وهو الحل المؤقت الذي لم يلق قبولًا لدى المحتجين الذين احتشدوا في الميادين وأمام السفارة الأمريكية حيث نجحوا في اختراقها وإحراق علمها، كما هاجموا مقر السفارة المصرية وأحرقوها بعد أن عثروا بداخلها على وثائق تثبت تحركات مصر لخداع السودانيين وإفشال ثورتهم، وكان هذا المسمار الأخير في نعش النظام العسكري.
لم يستطع الجنرال مواجهة تلك الأمواج الهادرة من الشعب الغاضب ليجد نفسه مرغمًا في 15 من نوفمبر/تشرين الثاني 1964 أي بعد 3 أسابيع فقط من اشتعال الثورة، على تقديم استقالته وتسليم السلطة للمدنيين، فيما عاد الجيش إلى ثكناته، ليقدم السودانيون واحدة من أروع النماذج الثورية في تاريخ العرب وإفريقيا.
استطاعت ثورة 1964 أن تقدم العديد من الدروس للشعوب العربية الراغبة في التصدي لأنظمتها الديكتاتورية، التي لو تم الأخذ بها في ثورات الربيع العربي لما حدث ما حدث لها، على رأسها وحدة الصف وتوحيد الكلمة ونبذ الخلاف وتجنب الشقاق، بجانب مراعاة المؤامرات الخارجية التي تستهدف إرادة الشعوب لصالح الأنظمة المستبدة وإجهاض محاولات الوقيعة والفتنة كافة، مع الإبقاء على المؤسسة العسكرية بعيدة عن الساحة السياسية مهما كانت الدوافع.