ترجمة وتحرير نون بوست
بعد أربعة أيام من بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، تجمع مئات من الإسرائيليين وسط تل أبيب احتجاجًا على قتل المدنيين، ودعوا إلى وضع حد لحصار غزة وللاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، هتفوا حينها “اليهود والعرب يرفضون أن يكونوا أعداء”.
في نفس الليلة، حذرت حركة المقاومة الإسلامية حماس من أنها ستطلق وابلاً من الصواريخ على وسط فلسطين المحتلة في الساعة التاسعة مساءً، وفعلت!
لكن الإصابات التي مُني بها الإسرائيليون في تل أبيب في تلك الليلة لم تأت من إطلاق الصواريخ، ولكن من الاعتداء المتعمد على يد مجموعة من اليهود المتطرفين، فبينما يهتفون “الموت للعرب” و”الموت لليساريين” هاجم المتطرفون المتظاهرين بالهراوات، وعلى الرغم من أن عددًا من المتظاهرين الذين تعرضوا للضرب تطلبوا عناية طبية إلا أن الشرطة الإسرائيلية أقدمت على اعتقالهم.
الشيء ذاته حدث في احتجاج آخر للمناهضين للحرب في حيفا بعد أسبوع، هذه المرة، كان من ضمن الضحايا نائب عمدة المدينة “سهيل الأسد” وابنه، لم يقم رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” بإدانة أعمال العنف على الرغم من أنه سبق أن صرح أن شغله الشاغل هو سلامة مواطني إسرائيل.
النيل من الأقلية الإسرائلية التي لا توافق على ما يؤمن به اليمين المتطرف ليس جديدًا، فقد وقعت أعمال عنف وتحريض مماثل قبل اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995، لكن الآن، تتكاثر تلك التحريضات وتتصاعد وتنتشر.
في العاشر من يوليو، لم تظهر الممثلة الإسرائيلية المخضرمة “جيلا ألماجور” على خشبة المسرح في تل أبيب، فقد تلقت تهديدات بأنها سوف تُقتل على المسرح، كانت الممثلة قد صرحت في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت قبل ذلك بأيام حيث أعربت عن شعورها بالخجل من مقتل الطفل الفلسطيني “محمد أبو خضير” الذي اُختطف ثم أُحرق حيًا من قبل المتطرفين اليهود.
وفي مقابلة خلال حرب غزة، قالت الممثلة الكوميدية الشعبية “أورنا باناي” إنها شعرت بالأسى الشديد من مقتل النساء والأطفال الفلسطينيين، لاحقًا أُقيلت من منصبها كمتحدثة باسم شركة سفن سياحية إسرائيلية، أما الكاتب في هآرتز “جدعون ليفي” فقد استأجر حراسًا شخصيين بعد أن كتب مقالاً ينتقد فيه طياري سلاح الجو الإسرائيلي.
الإسكات العدواني لأي شخص يعبر عن رفضه للسياسات الإسرائيلية أو عن التعاطف مع الفلسطينيين هو آخر مظهر من مظاهر عقلية “نحن أو هم” التي يجيش لها اليهود المتطرفون منذ عقود، هذه العقلية تقوم على سردية أن الفلسطينيين هم الأعداء الذين يهددون السيادة اليهودية، وهم وحدهم المسئولون عن الفشل في تحقيق السلام.
معسكر السلام الإسرائيلي عاجز عن تحدي تلك العقلية، هذا المعسكر يحاول إيقاف التوسع الاستيطاني والدعوة لحل الدولتين، ويتجاهل تمامًا فشل إسرائيل في فصل الدين عن الدولة وفي ضمان حقوق متساوية للمواطنين العرب.
لم يكن المجتمع الإسرائيلي قادرًا ولا راغبًا أن يتغلب على العرقية والقومية التي أعطت امتيازات غير عادية لليهود، ويتمثل سياسيًا في حركات الاستيطان واليمين المحافظ.
القوى الليبرالية في إسرائيل ضعيفة للغاية في مواجهة الاقتصاد القوي الذي يستفيد من الاحتلال، بينما يعزز التراخي الدولي تجاه تجاوزات الاحتلال الوضع الراهن، وعندما يختار الإسرائيليون بين كونهم يهودًا أو ديمقراطيين، يختارون الأولى بالطبع.
لم يسبق أن واجهت إسرائيل حقيقة أن العرب من غير اليهود يمثلون أكثر من 20٪ من السكان، وهذا يستثني قرابة ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية، إسرائيل أصلاً لم ترسم حدودها بوضوح، مفضلة أن تكون الحدود غامضة لكي يسهل على الإسرائيليين تجاوزها، كما لم يُعرف الإسرائيلي، ولا يُميز الإسرائيلي عن اليهودي الآن؛ ما يترك فراغًا يستطيع ملئه المتطرفون القوميون والدينيون.
سمح ذلك لعقلية “نحن أو هم” أن تخترق المجتمع اليهودي الإسرائيلي، “نحن” لم تعد تشير إلى اليهود، و”هم” لا تشير إلى الفلسطينيين، لكن “نحن” هم جميع أولئك الذين يدافعون عن الوضع الراهن من الاحتلال والتوسع الاستيطاني، بما في ذلك العديد من المسيحيين الإنجيليين والجمهوريين في أمريكا، و”هم” أي كل من يحاول أن يتحدى الوضع القائم، كان ذلك حاخام أو جندي إسرائيلي معارض أو رئيس الولايات المتحدة.
ربما لا ينبغي ذلك أن يأتي بمثابة صدمة، ففي غالبية الوقت منذ تأسيس دولة الاحتلال، معظم الإسرائيليين سمحوا للدولة، باسم السيادة والأمن اليهودي، بانتهاك حقوق الفلسطينيين الأساسية، بما في ذلك الحق في الحصول على المياه وحرية التنقل والتجمع، قتل الإسرائيليون المتظاهرين العزل ولم تجر أي تحقيقات لاحقة، سمحت الدولة للمستوطنين وللجنود بارتكاب جرائمهم ضد الفلسطينيين والإفلات من العقاب، وقامت الدولة، كأي دولة فصل عنصري، بالتمييز المنهجي والمنظم ضد غير اليهود.
بعد سنوات عديدة من قمع أولئك الذين يقفون في طريق الدولة، انتقل القمع إلى استهداف الإسرائيلي اليهودي ذاته، وهذا لم يعد صعبًا، فالأقلية اليهودية التي تتحدث عن حقوق الإنسان يتم وصفهم كأعداء.
“زئيف ستيرنهيل” أستاذ العلوم السياسية والخبير في الفاشية، يعتقد أن القومية المتطرفة وصلت إلى آفاق غير مسبوقة في إسرائيل، وقال في تصريح مستنكر لصحيفة هآرتز “الحزن الآن لفقدان الأرواح في كلا الجانبين أصبح عملاً تخريبيًا في ذاته! لقد أصبح خيانة في إسرائيل”، هذا الكلام لم يعجب أحد المستوطنين فزرع قنبلة أمام منزله أُصيب على إثر انفجارها.
يبدو الآن على نحو متزايد أن الإسرائيليين غير مستعدين للاستماع إلى أية انتقادات، حتى عندما يأتي النقد من داخل “البيت اليهودي” ذاته، هم ليسوا فقط على استعداد للاستماع، لكنهم أيضًا يحاولون إسكات من ينطق قبل أن يُسمع صوته.
وفي بيت مثل هذا، سأختار أن أكون من “هم” وليس “نحن”.