تحارب الدولة التركية في معارك مفتوحة على جميع الأصعدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية، وبعيدًا عن الانتصارات التي تحققها تركيا في المجالات الأخرى، نرى أنها أثبتت قوتها في مجال المخابرات خلال السنوات الأخيرة، وكانت الأيام الأخيرة خير دليل على محاربة تركيا للمؤامرات التي تُحاك ضدها.
المخابرات التركية تعتقل عميلًا للإمارات
في بداية الشهر الحاليّ، صرح مسؤول أمني كبير، هويته غير معروفة، أن مسؤولي المخابرات التركية اعتقلوا رجلًا منذ قرابة شهر يشتبه في تجسسه على رعايا عرب أجانب لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن تم مداهمة منزله ومصادرة جهازه المحمول قبل أن يعودوا لاعتقاله بعد يومين.
وقال المسؤول إن الرجل اعترف بالتجسس وقدّم مجموعة من الوثائق التي تثبت ارتباطه بجهاز المخابرات الإماراتي، ومن المتوقع ظهوره في المحكمة هذا الأسبوع، الأمر الذي يعكس حالة العداء العلني بين الإمارات وتركيا، إذ تتنافس أنقرة وأبوظبي في العديد من المجالات الإقليمية، وبدا التنافس واضحًا في ليبيا حيث دعم الطرفان الأطراف المتضادة في الحرب الأهلية.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية تقريرًا، عن تفاصيل هذا الاعتقال وخلفيات ومعلومات عن الشخص، ويدعى المشتبه به أحمد الأسطل، 45 عامًا، وهو أردني من أصل فلسطيني من غزة وكان يعمل في الإمارات ثم انتقل للعمل في وكالة الأناضول التركية بإسطنبول.
وأوضحت المصادر أن المتهم المقرب من القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، كان يتعامل مع مسؤولين عنه لم يعرفهم إلا من خلال ألقابهم، وطلبوا منه تقديم تقارير عن التطورات السياسية التركية ومراقبة المعارضين العرب الذين يعيشون في تركيا، حسبما قال المسؤول.
وقد توصلت المخابرات التركية إلى أن الأسطل الذي كان يعرف للمسؤولين الإماراتيين عنه بلقب “أبو ليلى”، أُجبر على التعاون مع المخابرات الإماراتية للتجسس قبل عقد من الزمان، حيث رفض العمل مع المخابرات في 2008 لكنه وافق بعد ذلك عندما فشل في الفحص الأمني بعد تقدمه لوظيفة وتهديده في معيشته، ودفع له المسؤولون عنه 400 ألف دولار عن الفترة التي عمل فيها معهم، حسبما جاء في التلخيص الأمني التركي.
اعتقال الأسطل يمثل المرة الثالثة التي تعلن فيها تركيا وخلال العامين الماضيين عن اعتقال أشخاص يشتبه بتجسسهم لصالح أبو ظبي
كُلف بعد انتقاله للعيش في تركيا بـ”التركيز على علاقة تركيا بالعالم الإسلامي والمبادرات في السياسة الخارجية والمحلية”، وخلال السنوات الأخيرة طُلب منه البحث عن قوة حكومة رجب طيب أردوغان التي نجت من انقلاب عام 2016 وإن كانت عرضة لانقلاب آخر.
وتبين أنه وفي مناسبة واحدة، زار مسؤول أمن إماراتي الأسطل في تركيا، في ربيع 2016 لكنه كان يتواصل مع المسؤولين عنه عن بُعد مستخدمًا برامج التواصل الاجتماعي ورسائل من خلال برمجيات على الكمبيوتر ركبها المسؤولون عنه في جهازه الخاص.
ومن مهام الأسطل التي قام بها نقل المعلومات إلى المخابرات الإماراتية عن الصحفيين والمعارضين العرب في تركيا الذين يمكن تجنيدهم للتعاون مع المخابرات الإماراتية، بما في ذلك تسجيل لقاءاته مع المعارضين المرتبطين بالإخوان المسلمين.
عاش الأسطل في منطقة سكاريا في البحر الأسود بتركيا، لكنه اختفى في سبتمبر/أيلول حسبما قالت عائلته وزملاؤه الذين اعتقدوا أنه تعرض للاختطاف، لكنه كان هاربًا لعدة أسابيع قبل القبض عليه، وبعد أن تبين تخابره مع الإمارات أبدى أفراد عائلته استغرابهم كونه كان يعلن معارضته لسياسة الإمارات ويدعم الإخوان المسلمين.
ومن الجدير ذكره أن اعتقال الأسطل يعد المرة الثالثة التي تعلن فيها تركيا خلال العامين الماضيين عن اعتقال أشخاص يشتبه بتجسسهم لصالح أبوظبي، حيث تم اعتقال شخصين في أبريل/نيسان 2019 قيل إنهما كانا يجمعان معلومات عن الفصائل الفلسطينية في تركيا.
وذكرت الصحافة التركية أن أحدهما واسمه زكي حسن، مات وهو في الاعتقال، فيما وصفته السلطات بأنه انتحار، كما جاء اعتقال الأسطل، بعد أيام من تقارير عن مراقبة تركيا لأعدائها المفترضين في الخارج.
المخابرات التركية تعتقل خلية دولية
وفي نجاح آخر أحرزته المخابرات التركية بعد أيام من اعتقال الأسطل، كشفت صحيفة “صباح” التركية يوم الأربعاء الماضي 21 من أكتوبر/تشرين الأول اعتقال الأجهزة الأمنية خلية دولية للتجسس الاقتصادي في إسطنبول، وقالت إن الخلية كانت تهرب أسرارًا عن قطاع الطاقة في البلاد.
تتكون الخلية من 6 أفراد تتزعمهم نائبة مدير شركة للطاقة في إسطنبول تدعى أمل أوزتورك، وتشغل منصب نائب مدير عام شركة طاقة كبرى (Bosphorus Gaz Corporation) في تركيا، كما يعمل جميع أفراد الخلية في قطاع الطاقة أيضًا.
راقبت المخابرات التركية هذه الخلية منذ أشهر عديدة وحصلت على معطيات خطيرة تفيد بتزويد الخلية دولة أجنبية بمعلومات عن طريق مسؤول استخباراتي في قنصلية أحد البلدان بإسطنبول، كما زودت زعيمة الخلية عن طريق البريد الإلكتروني شركة طاقة عالمية كبرى بمعلومات عن قطاع الطاقة التركي، وخاصة المعلومات السرية المتعلقة بإستراتيجية أنقرة الحاليّة والمستقبلية في هذا القطاع.
استطاعت المخابرات التركية تنفيذ عمليات ضد قيادات تنظيم “بي كا كا” الإرهابية في شمال العراق، وتم استخدام المعلومات الاستخباراتية في العمليات التي نفذتها طائرات دون طيار
فقد كانت مهمة أوزتورك تزويد الأجهزة التي تتواصل معها في دول أجنبية بمعلومات عن أسعار استيراد الطاقة وطريقة تعامل سلطات أنقرة مع الدول التي تمدّها بمصادر الطاقة، إضافة إلى جهود تركيا من أجل الحصول على مصادر طاقة بأقل كلفة، وجهودها لاكتشاف موارد النفط والغاز في البحرين الأسود والمتوسط، في الوقت الذي تسعى فيه للحصول على نصيبها وحقها من الموارد الطبيعية.
وقد طلبت سلطات التحقيق التركية محاكمة أفراد الخلية بتهمة إفشاء أسرار الدولة بشكل شهري بحجم الاستهلاك اليومي من الغاز الطبيعي في تركيا والطاقة الاستيعابية لأنابيب الغاز الطبيعي في البلاد، بغرض التجسس السياسي والعسكري، وطالب المدعي العام بإسطنبول بإصدار أحكام سجن متفاوتة على المتهمين أدناها 21 سنة، وأقصاها السجن المؤبد.
وفي خطوة مقصودة، جاء تفكيك هذه الخلية للتجسس الاقتصادي بالتزامن مع إعلان تركيا اكتشاف موارد ضخمة من الغاز الطبيعي في البحر الأسود في الآونة الأخيرة، وسعي البلاد إلى تحقيق اكتشافات أخرى في منطقة شرق المتوسط.
أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم
“إن جهاز الاستخبارات الوطني التركي من بين أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم”، هذا ما قاله الرئيس رجب طيب أردوغان في أثناء افتتاحه المقر الجديد للاستخبارات الوطنية التركية “MİT” الذي أطلق عليه اسم “القلعة” في العاصمة التركية أنقرة في شهر يناير/كانون الثاني الماضي.
حيث صرح أردوغان أن جهاز الاستخبارات الوطني الذي تجاوز كونه مجرد منظمة تقوم بجمع المعلومات والإبلاغ عنها، جعل تركيا بلدًا قادرًا على استخدام المعلومات الاستخبارية في الدبلوماسية، وأضاف “بفضل العمل الناجح لهذه المنظمة، امتلكنا القدرة على خدمة مصالحنا الخاصة، في أي مكان من العالم، دون الحاجة إلى إذن أو مساعدة من أي دولة أخرى”.
وبالفعل وعلى مدار تاريخها، خاضت وكالة الاستخبارات التركية عدة تجارب ومحطات مختلفة، لكنها شهدت في عهد حزب العدالة والتنمية حدوث نقلة نوعية حولتها من جهاز أمني ضعيف يعاني من بعض الثغرات إلى جهاز داعم ساعد الحكومة التركية في تقوية الموقف التركي في مجالات مختلفة.
كل حدث يقع في العراق يؤثر بنتائج مباشرة وغير مباشرة على تركيا، وكذلك التحالفات الإقليمية في شرق البحر المتوسط ونتائج الصراع على النفوذ هناك
وقد أحرزت المخابرات التركية العديد من النجاحات خلال السنوات الأخيرة، بدءًا من ملف محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذها عناصر يتبعون لمنظمة “فتح الله غولن” في منتصف يوليو/تموز عام 2016 وملاحقتها لهم في مناطق مختلفة من العالم، وكانت محاولة الانقلاب نقطة تحول كبيرة في عمل المخابرات التركية التي عملت على تغطية مواطن ضعفها وزيادة قوتها وإمكاناتها.
كما استطاعت المخابرات التركيا تنفيذ عمليات ضد قيادات تنظيم “بي كا كا” الإرهابية في شمال العراق، وتم استخدام المعلومات الاستخباراتية في العمليات التي نفذتها طائرات دون طيار، لإيقاع خسائر في صفوف التنظيم الإرهابي، واعتقلت أكثر من 100 شخصية من قياداته وعناصره البارزين، كما قضت على أكثر من 15 ألف إرهابي من التابعين للتنظيم في تركيا وشمال العراق وسوريا، الأمر الذي يعكس المستوى الذي وصل إليها الجهاز في الجمع بين التكنولوجيا والمخابرات.
كذلك أحرزت المخابرات التركية نجاحًا كبيرًا عام 2018، في تحقيقات مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول، إذ حازت المخابرات الوطنية تسجيلات قبل وفي أثناء مقتل الصحفي، وكشفت عن دور فريق القتل الذي وصل من المملكة السعودية لتنفيذ هذه الجريمة.
وتلعب المخابرات الوطنية دورًا بارزًا في تحديد مجريات الأحداث في ليبيا بعد أن تحدثت تقارير إعلامية عن إرسال تركيا ضباط مخابرات إلى ليبيا بعد موافقة البرلمان التركي على نشر قوات لمساعدة حكومة الوفاق الوطني الليبية في الأشهر الماضية، وهو الدور ذاته التي تلعبه في سوريا والعراق.
وهذا ما تحدث عنه أردوغان بقوله: “وبالمثل، فإن كل حدث يقع في العراق يؤثر بنتائج مباشرة وغير مباشرة على تركيا. وكذلك التحالفات الإقليمية في شرق البحر المتوسط ونتائج الصراع على النفوذ هناك، هي أمور حيوية لمستقبلنا. لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي في مواجهة هذا الوضع المعقد والمتغير الناتج عن التنافس بين القوى الإقليمية والعالمية، بل يتعين علينا تطوير خططنا الخاصة وتنفيذها”.