قبل أقل من أسبوع على موعد الاستفتاء الشعبي على مشروع تعديل الدستور، يترقب المتابعون للشأن الجزائري باهتمام نتيجة تصويت الناخبين لصالحه أو ضده، بالنظر إلى أنه قد يرسم عقيدة جديدة لأقوى مؤسسة في البلاد وهي الجيش الذي سيصبح بإمكانه المشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود في بلد رفض لعقود إرسال أي أحد من جنوده خارج تراب الوطن.
وإذا كان موقف المؤسسة العسكرية شكل دائمًا وزنًا وأهميةً في صنع توجهات البلاد خلال أي موعد انتخابي، فإنه هذه المرة سيكون أكثر أهمية مما سبق، لأن هذه المؤسسة نفسها ستكون في صلب التعديل الدستوري.
مهمة جديدة
على خلاف باقي الدساتير الجزائرية السابقة، حمل مشروع تعديل الدستور المطروح للاستفتاء الشعبي في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني القادم الذي يصادف الذكرى السنوية لثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي تعديلات ستحدث تحولًا جذريًا في عقيدة الجيش الجزائري تتمثل في مشاركته بمهمات خارج البلاد.
وشارك الجيش الجزائري سابقًا في حربين خارج البلاد ضد الاحتلال الإسرائيلي عامي 1967 و1973، وقرر بعدها عدم خوض أي مهمة خارج حدوده الترابية، بالنظر إلى قناعة سائدة في الجزائر تعتبر أن الجزائريين والعرب تعرضوا لخيانة من المصريين في حربهم ضد الصهيونيين، وبالخصوص بعد توقيع القاهرة والاحتلال الصهيوني اتفاق كامب ديفيد عام 1978.
وينص مشروع التعديل الدستوري كباقي الدساتير السابقة على أن رئيس الجمهورية هو وزير الدفاع الوطني والقائد الأعلى للقوت المسلحة ومن يتولى تعيين الوظائف العسكرية في الدولة، إلا أنه تضمن بندًا جديدًا جاء في المادة 91 مفاده أنه يقرر “إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية ثلثي أعضاء كل غرفة من غرفتي البرلمان”.
ولفت هذا البند أنظار الداخل والخارج، فقد انقسمت الآراء في الداخل بين متخوف من مشاركة الجزائر التي كانت تمنع إرسال قواتها خارج الحدود في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل، ومرحب يرى أن عقيدة الانطواء الداخلي أصبحت لا تصلح لهذا الزمان الذي صارت فيه القوات الأجنبية على حدود الجزائر، وصار الإرهاب عابرًا للحدود.
لا يخف الفريق شنقريحة أهمية هذا الاستفتاء في مهام المؤسسة العسكرية، إذ يربط دعم التعديل الدستوري ببناء الجزائر الجديدة
وشكل هذا التحول في مهمة الجيش الجزائري اهتمام وسائل إعلام وعواصم غربية، فقد تحدثت صحف أمريكية أن هذا الملف شكل جانبًا من المباحثات التي جمعت وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر بالمسؤولين الجزائريين.
وإن كان الرئيس عبد المجيد تبون قد أكد في أكثر من مرة أن مسألة مشاركة الجيش الجزائري في عمليات عسكرية خارج التراب الوطني ستكون تحت مظلة المنظمات الدولية وضمن عمليات حفظ السلام، إلا أن الأحداث التي تجري على الحدود الجزائرية، وبالخصوص في ليبيا ومالي ووجود قوات أجنبية ببماكو وطرابلس قد يفتح المجال لكل الاحتمالات بما أن الدستور لم يحدد الأسباب والشروط التي تخول لرئيس الجمهورية إرسال قوات خارج البلاد.
ترويج
رغم تأكيد رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة أن المؤسسة العسكرية تلتزم الحياد في جميع القضايا الوطنية وذات الصلة بالشأن السياسي، فإن ذلك لم يمنع الجيش من الانخراط في الترويج لمشروع الاستفتاء على التعديل الدستوري.
ويحرص شنقريحة في خرجاته الميدانية التي قادته لعدة ولايات من البلاد منها المناطق الحدودية التي من أجل أمنها والخطر الخارجي الذي قد يتهددها جاء التعديل الدستوري، على الدعوة للمشاركة في استفتاء الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني.
وقال شنقريحة: “واجب الوطنيين المخلصين اليوم وفي طليعتهم الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، هو المساهمة الفاعلة في إنجاح الاستفتاء على مشروع تعديل الدستور، من أجل تحقيق التغيير المنشود، فالكلمة الآن أصبحت للشعب الجزائري الأبي، الذي سيعرف كيف يبني دولة القانون التي لا سيد فيها سوى القانون”.
ولا يخف الفريق شنقريحة أهمية هذا الاستفتاء في مهام المؤسسة العسكرية، إذ يربط دعم التعديل الدستوري ببناء الجزائر الجديدة التي يرافع لأجلها الرئيس تبون، كونه سيحمي حدودها الترابية.
وقال شنقريحة خلال انطلاق برنامج التحضير القتالي لموسم 2020-2021، خلال زيارة عمل وتفتيش قادته إلى ولاية تمنراست الحدودية مع مالي والنيجر: “الجزائر تشق طريقها نحو وجهتها الصحيحة والسليمة وذلك بفضل تلاحم ووعي الشعب الجزائري الذي يعرف دومًا في الأوقات الحاسمة كيف يفوت الفرصة على الأعداء ويَصُون وحدته الترابية والشعبية”.
وتشكل ولاية تمنراست كغيرها من باقي الولايات الجنوبية خط الدفاع الأول للجزائر كونها متاخمةً لمنطقة الساحل التي تنشط بها جماعات إرهابية، إضافة إلى وجود قوات أجنبية على رأسها الفرنسية في مالي وقاعدة أمريكية لطائرات مسيرة بالنيجر، وهو واقع لطالما عبر الجزائريون عن انزعاجهم منه.
لا تقتصر صلة الجيش بالدستور المنتظر بالمهمة الجديدة التي حددها لها فقط، إنما أيضًا بكونه يشكل قاعدة انتخابية مهمة في ترجيح التصويت لصالح الوثيقة المطروحة للاستفتاء، لذلك يلح رئيس أركان الجيش على أن “الاستفتاء الشعبي المقبل على مشروع تعديل الدستور، يستحق منا في الجيش الوطني الشعبي، بأن نكون، كما كنا دائمًا، في مستوى المسؤولية الدستورية الموضوعة على عاتقنا من خلال، أولًا، ممارسة حقنا الانتخابي، وفقًا للقوانين السارية المفعول، ثم ثانيًا، ضمان الظروف الآمنة لشعبنا وتمكينه من أداء واجبه الانتخابي”.
بالنسبة لكثير من المتابعين، فإن الخطابات المتكررة لشنقريحة الداعية للمشاركة في الاستفتاء الدستوري تعكس التوافق بين مؤسستي الجيش والرئاسة في البلاد على هذا الملف، وهما أقوى هيئتين تصنعان التوجهات الداخلية والخارجية للبلاد، وهو ما يعكسه قيام الرئيس تبون بثلاث زيارات إلى مقر وزارة الدفاع وهو الذي لم يطفئ بعد شمعة السنة الأولى من ولايته الرئاسية.
يترقب الجميع إن كان الدستور المقبل سيبعد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية التي تقحم فيها في كل مرة، أم أن المهام الجديدة التي ستوكل للجيش ستزيد من هذا الوضع
انتقادات
غير أن مشاركة الجيش في الترويج لمشروع تعديل الدستور لم ترق لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية “الأرسيدي” المعارض ذي التوجهات العلمانية المعروف بقربه من دائرة المخابرات خلال فترة التسعينيات وأيام رئيس الاستخبارات السابق الفريق محمد مدين الموجود في السجن بعد إدانته في قضايا تتعلق بـ”المساس بسلطة الجيش والمؤامرة ضد سلطة الدولة”.
وقال “الأرسيدي”: “الملاحظ أن رئيس أركان الجيش المعروف بتكتمه وهو أمر طبيعي بالنسبة لعسكري محترف، يروج لزيارات رئيس الدولة إلى مقر وزارة الدفاع ويشارك أكثر من أعضاء السلطة التنفيذية أنفسهم في الدعاية لمراجعة الدستور، وهو موقف من الطبيعي أن يثير تساؤلات القوى السياسية”.
وبعكس كثيرين، يرى الأرسيدي أن مشاركة الفريق سعيد شنقريحة في الترويج لمشروع تعديل الدستور قد يكون راجعًا لـ”عجز الرئيس تبون عن وضع حد للصراعات الدائرة داخل دواليب النظام” ومنها أيضًا وجود مقاومة لـ”عقيدة التدخل خارج الحدود التي فرضت على الجيش في نص هذا التعديل الدستوري”.
ومهما اختلفت القراءات لموقع الجيش في استفتاء الأحد القادم، فإن موعد الفاتح من نوفمبر 2020 سيكون حاسمًا لدور ثاني أقوى جيش في القارة الإفريقية، كون تحركاته المقبلة سيكون لها أثر في الداخل والخارج، كما أنها سترسم نظرة الحكومة لوزارة الدفاع التي تستأثر بأكبر غلاف مالي في موازنة الدولة لكل عام.
ومع استمرار أصوات تنادي بعودة احتجاجات الحراك الشعبي إلى الشوارع رغم أن الخطر الصحي لا يزال موجودًا بسبب جائحة كورونا، يترقب الجميع إن كان الدستور المقبل سيبعد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية التي تقحم فيها في كل مرة، أم أن المهام الجديدة التي ستوكل للجيش ستزيد من هذا الوضع بالنظر إلى أن مفهوم الأمن في ظل هذه العقيدة سيكون مرتبطًا بسيادة البلاد وحمايتها من التدخل الخارجي ومساس أمنها القومي.