شعر الفلسطينيون بكثير من الإهانة والمرارة خلال الإعلانات المتتابعة عن التطبيع بين دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وجمهورية السودان مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ونفرت قلوبهم من فظاعة مشاهد الانسجام والود الذي بدا على وجوه المطبعين في حديقة البيت الأبيض، وما تلا ذلك من تصريحات متناغمة دارت بين الأطراف المطبعة والراعية، التي بدت كأنها تسخر من جراح وعذابات الشعب الفلسطيني وتهين نضاله وتضحياته، وإيذانًا خطيرًا بتصفية قضيته بمباركة عربية وإسقاط حقوقه وثوابته الراسخة على مر عقود متواصلة من النكبة والاحتلال.
فقد وجه التهافت العربي على دولة الاحتلال الإسرائيلي ضربة قوية للوجدان الفلسطيني وخلف لديهم صدمة نفسية كبيرة، لما حمله بين طياته من مضامين الغدر والخيانة من الظهير العربي للقضية الفلسطينية، واغتيالًا للاءات العربية ومبادرات السلام المتوافق عليها عربيًا وعلى رأسها مبادرة السلام العربية، في مشهد انهزامي لا يقل فظاعة عن هزيمة يونيو/حزيران 1967 لكن بفارق واحد أن الشعب الفلسطيني هو الذي سيتجرع مراراتها الآن وأولًا، ثم ستدور الكأس على كل فيهٍ عربي.
وإن كانت الكثير من الأحداث السابقة قد دللت على عمق العلاقة بين دولة الاحتلال وبعض الدول العربية على رأسها الإمارات التي افتتحت موسم التطبيع والبحرين التي لحقت بها سريعًا، ليتبعهما السودان الجديد إلى حظيرة التطبيع راغبًا فيه عن طيب خاطر، ولا نستثني هنا السعودية وعُمان اللتين صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانضمامها قريبًا لحظيرة التطبيع، إلا أن انكباب تلك الدول على التطبيع مع “إسرائيل” وتلهفهم عليه إلى هذا الحد كان صادمًا وغير متوقع.
ومما زاد من التأثير السلبي على نفوس الفلسطينيين أن يتم التطبيع بهذه السرعة والقبح، فقد أشار أستاذ علم النفس بجامعة الأقصى الدكتور درداح الشاعر في حديث خاص لـ”نون بوست” إلى أن موجة التطبيع العربي الإسرائيلي المتسارعة خلقت عند الفلسطينيين شعورًا بالمرارة والخذلان والضيق والإحباط والتأزم النفسي، فالفلسطينيون كانوا يأملون أن تكون الأنظمة العربية سندًا أساسيًا وحاميًا رئيسًا لهم لا أن تكون هي من يبادر بكشف ظهرهم للاحتلال وتركهم بلا نصير يجابهون بطشه وعدوانه.
لكن ما يربط على قلوب الفلسطينيين ويصبرهم بحسب الشاعر أن جذوة حب فلسطين والتعلق بقضيتها ما زالت حية في قلوب الشعوب العربية، ويضيف الشاعر “كل محاولات التطبيع لن تستطيع أن تفصل الإنسان العربي عن الحنين إلى القضية الفلسطينية لأنها قضية معتقد في المقام الأول وليست قطعة أرض متنازع عليها”.
سُبقت مهرجانات التطبيع بهجوم إعلامي شرس على الشعب الفلسطيني وقضيته، وكانت المنصات الإعلامية المختلفة قد هيأت الطريق أمام إنجاز الاتفاقيات المُبرمة، وتفرغ لأجل الوصول لتلك اللحظة العديد من السياسيين والكتاب والممثلين وصانعي المحتوى، وتجندوا جميعًا من أجل التأثير على الشعوب العربية لتغيير مفاهيمها وقناعاتها المتوارثة عن القضية الفلسطينية وتغيير نظرتها للشعب الفلسطيني، من خلال كيل الاتهامات للفلسطينيين وشيطنتهم والطعن فيهم وفي نواياهم والتشكيك في سلوكهم وروايتهم، ذلك مع ترويج روايات مكذوبة تحمل مغالطات تاريخية وسياسية جمّة تسعى إلى تجميل دولة الاحتلال وتتبنى الرواية والتفسيرات الإسرائيلية للأحداث القديمة والحديثة وتُرغب المجتمع العربي في التعايش مع الاحتلال وتظهر “إسرائيل” كدولة حضارية راقية بينها وبين العرب قواسم ومصالح مشتركة، وتُعدد الفوائد والمكاسب التي يمكن تحصيلها بعد إبرام اتفاق سلام مع “إسرائيل”.
وإمعانًا في إيذاء الفلسطينيين انطلق أزلام الإمارات بُعيد توقيع اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي بتمجيد الاتفاق وامتداحه وامتداح “إسرائيل” وتبادلوا التهاني والمباركات وذهبوا إلى أبعد من ذلك إذ غَنوا حبًا في تل أبيب واشتياقًا لزيارتها، تلك الحملات عمقت الجرح الفلسطيني وتركت آثارًا نفسية مؤلمة في نفوس الفلسطينيين وأورثتهم شعورًا بأنهم منبوذون ومعزولون عن محيطهم العربي، وأنهم في مواجهة هجوم مُسيس ليس لهم فيه سابق ذنب ولم يكن أمام كثير منهم إلا الصمت قهرًا أمام تلك الافتراءات والإهانات.
في هذا الصدد قال الدكتور جميل الطهرواي أستاذ الصحة النفسية المشارك بالجامعة الإسلامية ورئيس جمعية أصدقاء الصحة النفسية بغزة لنون بوست: “التطبيع والحملات الإعلامية ضد الفلسطينيين يمكن أن تؤثر على الفرد الفلسطيني وتنال من نفسه ومعنوياته شيئًا، لكن العقل الجمعي الفلسطيني قوي ولا يمكن أن يفت من عضده شيء ولن تنطفئ أو تنكسر إرادته”.
مؤكدًا أن تلك الحملات من صنع أجهزة المخابرات ومختبراتها النفسية وتتم حياكتها بالتعاون مع “إسرائيل” التي تتمتع بقدرات إعلامية وفنية وتقنية متطورة، وتهدف إلى أمرين مهمين: الأول كسر إرادة الفلسطينيين لإجبارهم على التنازل عن حقوقهم ونزع رغبتهم في مواصلة النضال والمقاومة، والثاني تكوين اتجاهات جديدة لدى الشعوب العربية تجتذبهم للتعايش مع “إسرائيل” وقبولها.
وقد اتفق الشاعر مع الطهراوي في أن التطبيع يؤذي الفلسطينيين نفسيًا لكن الشخصية الفلسطينية كلما مورس عليها المزيد من الضغوط سواء كانت ضغوطًا نفسية أم اجتماعية أم سياسية أم عسكرية، زادت صلابتها واتسمت بالتحدي والعناد والصمود، مؤكدًا أن الأنظمة المطبعة تعمل على إغراق كل وزاراتها ومؤسساتها في وحل التطبيع وتحاول أن تؤثر على كل مرافق الحياة من إعلام ورياضة وخدمات صحية وفعاليات ثقافية وتكنولوجية وتعمل على إظهارها ككل واحد متوافق ومنسجم مع الحالة التطبيعية، في حين أنها في حقيقتها تنفذ أجندة النظام وتوجهاته لا أكثر ولا أقل.
وأكد الشاعر والطهراوي أن الشعوب العربية واعية وفاهمة لكنها مغلوبة على أمرها ومقهورة تحت جبروت حكامها، وأن التطبيع مرفوض من الشعوب العربية ولا يعبر عنها ولا عن تطلعاتها، فالإنسان العربي لا ينظر إلى “إسرائيل” على أنها صديقة أو جارة بل ينظر إليها باعتبارها عدوًا وأن كل من يناصرها أو يساندها أو يساهم في تثبيتها في أرض فلسطين، هو خائن ومتجرد من قيم الشهامة والمروءة، وأن الشعوب العربية لن ترضخ لفكرة التطبيع ولن تمّل من البحث في كل الوسائل والسبل التي تمكنها من تقديم الدعم والمناصرة والتأييد للحقوق الفلسطينية ولن تبخل على الفلسطينيين بأي شيء يساعدهم في نيل حريتهم وعودتهم لديارهم، وهذا بدوره يرفع معنويات الفلسطينيين ويعزز قدرتهم على مجابهة التطبيع وإفشال أهدافه.
قد يتحمل الإنسان الفلسطيني الكثير من الآلام والجراح وقد تتجاوز نفسه أصعب الأزمات والمنعطفات وهو الذي قدم بالفعل كل ما يملك من أجل نيل حقوقه، فلم يبخل بدمه ولم يكترث لسنوات قضاها وما زال خلف قضبان السجون أو غريبًا في بلاد الشتات ومخيمات اللجوء، وقد تعايش مرغمًا مع كل ما هو صعب ومستحيل، لكنه قطعًا لن يتسامح مع أنظمة قمعية ساذجة خانته وطعنته في ظهره وتآمرت عليه وتحالفت مع عدوه الذي سلب منه أرضه واستباح دمه، من أجل تحقيق مصالح رخيصة لتلك الأنظمة دون أدنى مراعاة لحقوقه المجبولة بالدم ودون أي وازع خُلقي أو إنساني.
فالتطبيع العربي الإسرائيلي كما يفهمه حتى المواطن الفلسطيني البسيط يشرع إجراءات الاحتلال ويدعم تجبرها على حقوق الفلسطينيين والاستفراد بهم ويفتح الباب أمام جنود الاحتلال لارتكاب ما يحلو لهم من جرائم ويدع الفلسطينيين مكشوفين أمام انتهاكات العدو ومخططاته التصفوية، فهو بمعنى أدق منح الاحتلال ضوءًا أخضر ليفعل بالفلسطينيين ما يشاء، وهذا بحد ذاته كافيًا ليؤثر ولو مرحليًا على نفوس الفلسطينيين ويعمق شعورهم بالعزلة والإحباط، لكنهم حتمًا سيواجهون تلك العقبات والتحديات وسيواصلون نضالهم بعزيمة وإصرار حتى انتزاع حقوقهم ونيل حريتهم.