“مبادرة السلام العربية لم تعد ضرورية”.. بهذه الكلمات كتبت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، كيلي كرافت، شهادة وفاة أمريكية لمبادرة السلام العربية التي اقترحتها السعودية عام 2002 والتي استند عليها العرب في مسار التفاوض مع الاحتلال على مدار 18 عامًا مضت، ليحل محلها “صفقة القرن” المزعومة.
السفيرة الأمريكية خلال جلسة استماع لمجلس الأمن بشأن وضع السلام في الشرق الأوسط، عقدت أمس الإثنين، بررت موقفها هذا بتصاعد موجة التطبيع مع “إسرائيل” التي تقودها الإمارات، وهو الأمر الذي ينسف المبادرة من جذورها، ويجردها من قيمتها ويجعل التمسك بها غير مجدي.
واعتبرت كرافت أن ما وصفته بـ”تجربة ترامب” قد أدت إلى السلام المنشود، في إشارة إلى قيادته لقطار التطبيع العربي الإسرائيلي، مضيفة “رؤيتنا ممكنة، وقمنا بالكثير من العمل لتقديم خطة السلام، وهي مليئة بالتفاصيل” وعليه ترى أن “صفقة القرن فتحت آفاقًا جديدة أمام الفلسطينيين”.
وتأتي شهادة الوفاة الأمريكية بحق مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز (كان حينها وليًا للعهد)، بعد أقل من شهرين على تجديد السعودية تمسكها بها، وبعد شهر واحد فقط من تصريحات العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز سبتمبر الماضي حين اعتبر أن مبادرة 2002 أساس “حل شامل وعادل” يضمن حصول الفلسطينيين على دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وتهدف تلك المبادرة إلى ربط التطبيع مع الكيان الصهيوني بحزمة من الشروط أبرزها إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، كما جاء في نصها “أن مجلس الجامعة يطلب من “إسرائيل” إعادة النظر فـي سياساتها، وأن تجنح للسلم معلنة أن السلام العادل هو خيارها الإستراتيجي”.
السعودية وسياسة التناقض
كشفت السنوات الماضية حجم التناقض الواضح في السياسة الخارجية السعودية تجاه القضية الفلسطينية، أو بمعنى أخر وتيرة الانقلاب البيًن المتسارعة في المواقف الرسمية حيال القضية العروبية الأبرز في العصر الحديث، فبينما تُرفع في الرياض الشعارات القومية المناصرة لحقوق الفلسطينين تتلقى القضية في تل أبيب طعنة تلو الأخرى على أيدي ولي العهد محمد بن سلمان المتحكم الفعلي في مجريات الأمور بالمملكة.
فقبل 18 عامًا كانت المملكة تتعامل مع القضية وكأنها شأن داخلي، تكرس لها غالب وقتها، وتضعها في مقدمة أولوياتها السياسية، وعليه تبنت مبادرتها خلال القمة العربية التي عقدت في العاصمة اللبنانية بيروت 2002، والتي هدفت في المقام الأول لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني والتمسك بحدود 1967 مع التأكيد على الإبقاء على القدس الشرقية عاصمة لفلسطين.
ولاقت المبادرة ترحيبًا كبيرًا من الجميع، حيث تم إقرارها من قبل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وباتت هي الإطار الناظم للموقف العربي والإسلامي تجاه علاقة العرب بـ”إسرائيل”، فيما تمسكت بها السلطة الفلسطينية كخطة لا بديل لها لإنهاء الصراع مع دولة الاحتلال.
لكن مع قدوم الملك سلمان وإعطاءه كافة الصلاحيات لنجله، انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، وتذيلت القضية الأولى على جدول الأعمال التاريخي مؤخرة الاهتمام الرسمي ثم الشعبي بعد ذلك، لتتخلى الرياض شيئًا فشيئًا عن مبادرتها الرئيسية حتى أُلقي بها في سلة المهملات التاريخية رسميًا.
ورغم أن المبادرة تعترف أصلًا بوجود “إسرائيل”، إلا أن العرب كانوا ينظرون إليها على أنها الضمان الوحيد الحالي لقيام دولة فلسطين عبر استعادة جزء كبير من الأراضي المحتلة، لكن سرعان ما تخلت الرياض عنها، لتتحول من أقصى اليمين الداعم للقضية إلى أقصى اليسار المُجْهِض لها.
عرًاب صفقة القرن
في 28 يناير 2020 استعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحضور رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وسفراء الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان، خطته للسلام التي تُعرف باسم “صفقة القرن”، وسط رفض فلسطيني عربي إسلامي لبنود تلك الخطة التي تستهدف تصفية القضية وإجهاضها.
اتجهت الأنظار حينها إلى السعودية، صاحبة مبادرة السلام الشهيرة، وهي آخر مبادرة يستند إليها العرب في تعاطيهم مع هذا الملف، لكن النتيجة جاءت على عكس المأمول، ففي اليوم التالي لخطاب ترامب أعلنت الخارجية السعودية عن تقديرها لجهود الرئيس الأمريكي ودعدمها “كافة الجهود الرامية للوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية”.
الخارجية في بيان لها دعت إلى بدء مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحت رعاية الولايات المتحدة، ومعالجة أي خلافات بخصوص الخطة عبر المفاوضات، وهو ما يفهم منه ضمنيًا موافقة السعودية على الصفقة رغم الاعتراضات الشديدة عليها.
الأمر تجاوز سقف المتوقع حين انخرط ولي العهد الشاب لدعم الصفقة بكل ما أوتى من قوة، مستغلًا نفوذه السياسي والمالي لتمرير الخطة الترامبية المزعومة، رغم ما تحمله من فخاخ تهدد القضية وتضع مستقبل الشعب الفلسطيني على المحك، لكن بن سلمان كان يهدف من ذلك تقديم قرابين الولاء والطاعة للأمريكان لضمان الطريق نحو خلافة والده.
الرضوخ للإدارة الأمريكية وحليفها الإسرائيلي تعاظم بشكل أكبر بعد الانتقادات الحادة التي تعرض لها الأمير الشاب، سواء لممارساته الديكتاتورية في الداخل أو سياساته العنصرية في الخارج، هذا بجانب قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في 2018 والتي لم يدخر ولي العهد جهدًا لطي صفحتها ولو على حساب مرتكزات بلاده الدينية والوطنية.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية انتهجت المملكة سياسة شيزوفرينية في التعامل مع القضية الفلسطينية، فبينما ترفع شعار التمسك بالمبادرة العربية من جانب تهرول لتمرير صفقة القرن من جانب أخر، مع العلم أن الصفقة تنسف المبادرة من جذورها، الأمر الذي أثار السخرية لدى كثير من المراقبين، ودفع البعض للتشكيك في نوايا المملكة الفعلية تجاه الشعب الفلسطيني.
هل انتهت المبادرة للأبد؟
وفق تصريحات السفيرة الأمريكية فإن خطة ترامب المبنية على إلحاق الدول العربية بقطار التطبيع دون مبادرات أو ضمانات هي البديل العملي لمبادرة 2002، وهو ما تترجمه الممارسات السياسية للسعودية على وجه الخصوص كونها صاحبة المبادرة.
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، عبدالله الأشعل، كان في تصريحات صحفية له قال إن الإمارات والسعودية ومصر “فرسان صفقة القرن”، مضيفًا أن “الإمارات والسعودية أبرز الممولين لصفقة القرن وأدواتها، وسيعملون على تنفيذها إلى جانب مصر، كما أنهم شاركوا في صياغتها مع الإدارة الأمريكية”.
وعليه فإن الحديث عن المبادرة العربية حديث يخالف الواقع بشكل كبير، لاسيما وأن صاحبة المبادرة هي من تقود المشهد الآن لتقديم البديل عبر صفقة القرن (بجانب حلفاءها حمد بن عيسى، محمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي) والتي رفضتها كافة الفصائل السياسية الفلسطينية، وهو ما يسقط القناع عن وجه الشعارات المزيفة التي يرفعها بن سلمان وأذرعه الإعلامية والسياسية بشأن دعم القضية الفلسطينية وأنها على رأس أولويات المملكة.
ثم تأتي القيادة السعودية لحملة “التطبيع للجميع”، المنعقدة حاليًا في بعض العواصم، البداية كانت مع الإمارات ثم البحرين وصولا إلى السودان، لتفند تلك المزاعم رأسا على عقب، مع الوضع في الاعتبار الحديث الأمريكي المتكرر عن قرب انضمام المملكة لقطار التطبيع خلال الفترة المقبلة.
من جهته أكد الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة “إن القضية الفلسطينية قضية مقدسة وعلى رأسها المقدسات الإسلامية والمسيحية وثوابتنا التاريخية راسخة لا تنازل عنها والقدس ليست للبيع” معلنًا في حديث لإذاعة صوت فلسطين، أمس الإثنين، أن التطبيع وخطة الضم وصفقة القرن كلها مرفوضة، وأنه لن يمر أو ينفذ شيء على حساب الشعب الفلسطيني.
وأضاف أبو ردينة أن: “التطبيع غير مقبول ومرفوض ومدان، ليس فقط لأنه مخالف للقوانين العربية والشرعية الدولية، بل لأنه يتجاوز الشعب الفلسطيني”، مؤكدًا في تعليقه على الشعارات التي رفعتها العواصم المطبعة بشأن المصلحة الفلسطينية في اتفاقات العار الموقعة أنه “لا يحق لأحد التحدث باسم الشعب الفلسطينية”.
وفاة المبادرة العربية لا تعني الكثير للقضية الفلسطينية، فثلاجة التجميد التي دخلتها منذ سنوات أفقدتها قيمتها وتأثيرها، ومن ثم ليس من المرجح أن يكون هناك تداعيات لهذا الموقف الأمريكي سوى ترسيخ واقع معاش، ومساعي فرض صفقة القرن كمسار إجباري للمفاوضات.
وفي الأخير ليس من المتوقع أن تقابل تصريحات كرافت بأي رد فعل سعودي قوي، هذا بجانب الجامعة العربية التي دخلت غرفة الإنعاش منذ سنوات، فاللغة تتناسب والواقع، تترجمه السياسات التناقضية للمملكة، لتسقط الأقنعة يومًا تلو الأخر، وتتلاشى معها الشعارات المزيفة.