تحذير إيمانويل ماكرون من مسلمي فرنسا الذين يُقدَر عددهم بنحو ستة ملايين ووصفهم بـ”المجتمع الموازي” وبأن الإسلام يُواجه “أزمة” في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى تصريحاته الأخيرة بأن بلاده لن تتخلى عن “الرسوم الكاريكاتورية” المسيئة للإسلام والنبي محمد، تكشف بما لا يدع مجالًا للشك درجة التعصب الفرنسي تجاه كل ما يرتبط بالدين الثاني في البلاد، وهي نابعة بالأساس من خلفية تاريخية وفوبيا سياسية ضاربة في القدم ومتمثلة في أن هذا الدين يسعى ليصبح فرنسيًا، كما جاء على لسان الباحث فانسان جاير.
تصريحات الرئيس الفرنسي تجاه الإسلام والمسلمين ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة ودعمه لمجلة شارلي إيبدو وصورها الكاريكاتورية لن ينقطع، فسياسة ساكن الإيليزيه تكشفت منذ صعوده إلى السلطة وآخرها كان قبيل جولة الانتخابات البلدية في فبراير/شباط 2018 عندما صرح بأن “جزءًا من المجتمع يرغب في استحداث مشروع سياسي باسم الإسلام”، مستخدمًا في غير مناسبة مصطلح “المجتمع المضاد”، وهي بطبيعة الحال امتداد لسياسة سابقيه كنيكولا ساركوزي وغيرهم التي تستهدف المسلمين بشكل مباشر.
.@JLMelenchon : “Les musulmans de France ne méritent pas d’être traités comme ils le sont depuis une semaine, montrés comme des suspects” #le79Inter pic.twitter.com/IxDwVqQHx8
— France Inter (@franceinter) October 26, 2020
العلاقة التاريخية
لفرنسا تاريخ طويل مع الإسلام، تراوحت جولاته بين الصراع الصريح والخفي ومرت العلاقة بينهما بأطوار مختلفة ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل ملامحه عبر رواسب ثقافية واجتماعية وسياسية بالأساس.
ولفهم هذه العلاقة، فإن العودة إلى التاريخ وتحديد مراحل التقارب بينهما قد يُمكننا من تفكيك الروابط وفق ترتيب كرونولوجي يسمح للقارئ بإدراك العوامل الرئيسية المؤثرة في علاقة البلد الأوروبي بالدين الإسلامي والمسلمين.
مخطئ من يعتقد أن الحضور الإسلامي في فرنسا كان مجرد طفرة أحدثتها سنوات ما بعد الاستقلال (الهجرة المغاربية)، بل كان للمسلمين في هذه البلاد حضور قوي ضارب في أعماق التاريخ، حيث تعود الجذور الأولى للتعارف بين الإسلام والأراضي الفرنسية إلى بداية القرن الثامن الميلادي وتحديدًا في سنة 714 ميلادية، أي 3 سنوات فقط بعد فتح المسلمين للأندلس.
ويُمكن تقسيم مراحل العلاقة بين العالم الإسلامي وفرنسا إلى 5 أطوار:
1. دخول المسلمين إلى التراب الفرنسي: تم ذلك في مطلع القرن الثاني الهجري الموافق لسنة 714م عن طريق بعثات سلمية قامت بها الجيوش الإسلامية على منطقة شمال البيريني “Nord de Pyrénées” وتحديدًا بعد فتح الأندلس.
وفي هذه المرحلة امتد التوغل الإسلامي في ذلك البلد طيلة قرنين ونصف من الزمان وبالتحديد من سنة 719م إلى سنة 972م أي مدة 253 سنة، تخللتها فترات غير مستقرة، كانت البداية من منطقة ناربون “Narbonne|، والنهاية في قلعة جارد فرينت “Garde- Freinet”، لكن المسلمين بقوا في منطقة مونبيليي (Montpellier) حتى القرن الثاني عشر، وفي تلك الفترة أيضًا وصلت قوات المسلمين إلى مشارف باريس وأخضعت كل من (ناربون أفينيون ليون تولوز نيس بوردو) إلى سلطتها.
2. سقوط الأندلس سنة 1492 ميلادية: مثلت هذه الفترة تحولًا في العلاقة بين المسلمين وفرنسا قوامها التعاون وفق المصالح المشتركة والمتمثلة أساسًا في العداء لإسبانيا الكاثوليكية.
3. فترة الحكم العثماني: برز في تلك الفترة التحالف الفرنسي العثماني (الفرنسي التركي)، هو تحالف بدأ عام 1536 بين ملك فرنسا فرانسوا الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني، يوصف بأنه “أول تحالف غير أيديولوجي دبلوماسي من نوعه بين إمبراطوريتين مسيحية ومسلمة”، وبفضله تم حماية فرنسا من طموحات كارلوس الخامس (ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، كما ازدهر في تلك الفترة التبادل الثقافي والعلمي بين الجانبين.
4. تراجع العثمانيين وحملة بونابرت: تمثل التراجع في الاتفاقيات التي وقعتها على غرار كارلو فيتبز (1677) التي تخلت بموجبها عن المجر لحساب النمسا ومدينة أوزوف بمنطقة البحر الأسود لصالح روسيا، تلاه اتفاق كجة قاينارجه عام 1774 تخلى العثمانيون عن سيطرتهم على البحر لصالح الروس.
تراجع قوة العثمانيين دفع الفرنسيين إلى إطلاق حملة بونابرت (1798-1801) لقطع الطريق أمام بريطانيا ومستعمراتها في الهند، ورغم أن الحملة جوبهت بمقاومة من المصريين (انتفاضتا القاهرة)، أخمدها الفرنسيون بقتل قادتها ومنهم الشيخ سليمان الجوسقي بعد حادثة صفعه لنابليون بونابرت الذي حاول تحييده وإغراءه بملك مصر، بحسب الأديب الكبير علي أحمد باكثير.
5. الاستعمار والاستقلال: بدأت فصول الاستعمار الفرنسي للعالم العربي والإسلامي بعد أحداث معركة نافارين عام 1827 التي دارت بين الأسطول العثماني ومعه الجزائري والمصري، والأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية من جهة أخرى، لتحتل فرنسا رسميًا الجزائر عام 1930، تلتها معاهدة باردو في تونس عام 1881، والمغرب في 1912 وسوريا ولبنان في 1920.
في هذه الفترة، أبرمت فرنسا وبريطانيا اتفاقية سايكس بيكو في 1916 لاقتسام تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وعملت فرنسا على طمس مقومات الهوية الثقافية لتلك البلدان، وباشرت حروبها الشرسة تجاه الدين بضرب المساجد والمدارس القرآنية وتشييد أول مدرسة للتبشير بالمسيحية عام 1836 (الجزائر)، وجابهت حركات المقاومة الوطنية بآلة القمع والتنكيل فسقط في الجزائر بين (1954 و1962) 1.5 مليون شهيد، إضافة إلى قتلها قرابة 1500 جزائري في مجزرة (نهر السين)، وكذلك الحال في تونس حيث ترواحت جرائمه بين استهداف المواطنين وهتك أعراض النساء واغتصابهم وكذلك قتل الرضع.
لم تكتف فرنسا باستغلالها لثروات المستعمرات العربية، بل جندت المواطنين للذود عنها في الحرب العالمية الأولى حيث شارك فيها 173 ألف جزائري و58770 تونسيًا و25000 مغربي.
ويمكن القول إن هذه الحرب كانت التاريخ الفعلي للهجرة المغاربية، فلم يكن يتجاوز قبل ذلك التاريخ عدد المغاربة في فرنسا 15 ألف، حيث أرسل شمال إفريقيا لمدة أربع سنوات 180 ألف عامل إلى فرنسا وبقي العديد منهم هناك بعد نهاية النزاع، وبدأت تتشكل أولى الأحياء المغاربية التاريخية في فرنسا على غرار “لاغوت دور” و”بوغرنال” في باريس و”فينيسيو” في ليون.
كما شارك العرب والمسلمون وخاصة المغاربة منهم في الحرب العالمية الثانية بعد أن جندتهم فرنسا قسريًا في صفوف جيشها مستغلة الحاجة والفقر، وكذلك في الحرب الفيتنامية الفرنسية (guerre Indochine)، حينما قام النزاع في الهند الصينية في الفترة بين 1946 و1954 بين قوات الاحتلال الفرنسية والمجموعات العسكرية برئاسة هو تشي منه.
اللائكية والإسلاموفوبيا
إن الحروب الدينية التي مزقت المجتمع خلال القرن السادس عشر والحروب الأهلية الدامية التي راح ضحيتها ملايين الفرنسيين، بعد صراع بين الكاثوليك والبروتستانت، وتعرف هذه الحقبة السوداء في التاريخ الفرنسي بالحروب الدينية الثمانية (1562 و1598 ميلادية)، إضافة إلى الثورة الفرنسية (1789- 1799) التي أنهاها نابليون بونابرت بانقلاب على رفاق دربه وحصل على منصب القنصل الأول، كلها عوامل أفرزت نخبًا معادية للمؤسسة الدينية بنوعيها.
بعد ذلك التاريخ، تبنَت فرنسا العلمانية كمنهج سياسي واجتماعي على أسس قد وضع لبنتها الفكرية الأولى فلاسفة الأنوار على غرار جون جاك روسو وفولتير وديدرو ومونتسيكيو، لتشرع بعد ذلك قانون اللائكية وفصل الكنيسة عن الدولة سنة 1905، وتمت إعادة صياغة التعريف ليشمل المساواة في التعامل مع جميع الأديان في عام 2004.
أما فيما يخص مصطلح “إسلاموفوبيا”، فتعود جذوره بحسب المؤرخ الفرنسي آلان روسيو لعام 1910، ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻗﺘﺮح المؤلف ألان ﻛﯿﻠﯿﺎن تعريفًا ﻻ ﯾﺰال صالحًا جاء فيه “ﻛﺎن، وﻻ ﻳﺰال، عند شعوب اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ واﻟﻤﺴﻴﺤﻴﺔ ﺗﺤﻴﺰ ﺿﺪ اﻹﺳﻼم، ﺣﻴﺚ ﻳﺮى كثيرون أن اﻟﻤﺴﻠﻢ ﻋﺪو ﻃﺒيعي وﻟﺪود ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻲ وللأوروﺑﻲ، وأن اﻹﺳﻼم نفيٌ ﻣﻄﻠﻖ ﻟﻠﺤﻀﺎرة، وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن يُرتقب ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺳﻮى اﻟﻬﻤﺠﻴﺔ وﺳﻮء اﻟﻨﻴﺔ”.
وظهر المصطلح لأول مرة عام 1997، عندما استخدمته مؤسسة بحثية يسارية بريطانية تسمى “رينميد ترست”، لإدانة تنامي مشاعر الكراهية والخوف من الإسلام والمسلمين، في دراسة بحثيةٍ هدفها تسليط الضوء على الظاهرة، بعنوان “الإسلاموفوبيا: تحدٍ لنا جميعًا”، فيما تنامت الظاهرة وتشكلت بصورة لافتة، في أعقاب الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001.
ومن هذا الجانب يُمكن القول إن “اﻹﺳﻼﻣﻮﻓﻮﺑﯿﺎ” مصطلح دخيل اللغة الفرنسية وتمت “صناعته” منذ أكثر من 100 عام، على عكس العداء للإسلام المتجذر في السياسة الفرنسية بفعل التوترات اﻟﺘﺎرﯾﺨية ﺑﯿﻦ اﻟﻐﺮب واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ طﻮال اﻟﻘﺮون الماضية وما شابها من حروب ومواجهات واستعمار ومقاومة.
الذوبان والاستبدال
هي نظريات طرحها عدد من الكتاب والفلاسفة الفرنسيين وتبنتها النخب الحاكمة والأحزاب اليمينية الفاشية وكذلك اليسار الراديكالي، ومن أهم روادها:
جيزيل ليتمان: صاحبة أسطورة “تعريب” أوروبا والمبشرة بها وهي امرأة يهودية من مواليد مصر، هربت من القاهرة إلى بريطانيا بعد أزمة السويس، ثم انتقلت إلى سويسرا، عام 1960، مع زوجها الإنجليزي.
وكانت ليتمان تكتب تحت اسم بات يائور بالعبرية “ابنة النيل”، وعبر سلسلة الكتب خُطت في الأصل بالفرنسية ونُشِرت بداية من التسعينيات فصاعدًا، طوَرت نظرية قوامها مؤامرة كبرى نفذ فيها الاتحاد الأوروبي بقيادة النخب الفرنسية، خطة سرية لبيع أوروبا للمسلمين مقابل النفط.
الفيلسوف الشهير ألان فينكلكروت: صاحب كتاب “الهوية الشقية” الذي يربط فيه بين ذوبان الهوية الفرنسية والمسلمين المتكاثرين و”الخطرين على الجمهورية”.
الكاتب رينو كامو: ابتكر نظرية “الاستبدال العظيم” التي ذاعت في الآفاق وأصبحت مصدر إلهام للكثيرين في أقصى اليمين في جميع أنحاء العالم.
ميشال ويلبيك: صاحب الرواية التي تحمل عنوان “الاستسلام” أو الخضوع التي تبدأ أحداثها عام 2022 وتقدم فرنسا في صورة الدولة المتشرذمة والمنقسمة على نفسها، حيث سيفوز محمد بن عباس زعيم حزب “الأخوية الإسلامية” (من ابتكار المؤلف) على زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعد حصوله على دعم أحزاب يسارية ويمينية على السواء.
ميشال أونفري: صاحب كتاب “الانهيار، من بن لادن إلى يسوع: حياة الغرب وموته”، حيث عالج فيه موت الحضارة الغربية بفعل هيمنة الفردانية والفراغ الروحي، وفهم الكثيرون من الكتاب دعوة مبطنة إلى إعادة بعث القيم المسيحية التي كانت في أصل نشأة الفكرة الأوروبية.
محاصرة التقارب
عملت فرنسا التي تقدم نفسها حامية للحريات الفردية وعلى رأسها حرية المعتقد على محاربة المفكرين والنخب سواء المتضامنة مع الإسلام والمسلمين أم من اعتنقه ومحاصرتهم حتى لا يبلغ تأثيرهم إلى مستويات ترى أنها تقلق هوية البلاد ونعني بها المسيحية وهو مناط الصراع الأصلي.
غياب فضيلة التسامح في فرنسا المتمثلة في المبادئ الثلاث الحرية والمساواة والأخوة، تجلت خصوصًا عندما أسلم رجاء غارودي وتمت محاكمته وهو شيخ في الثمانين من عمره، وفي إتلاف الأدلة التي تُثبت إسلام الأديب فيكتور إيغو صاحب رائعة “البؤساء”.
الأمر ذاته ينطبق على موريس بوكاي المتوفى سنة 1998 الذي لم يستطع البوح بإسلامه رغم أن كل كتابته تُدلل على ذلك، وأشهرها كتاب: القرآن والكتب المقدسة، وكذلك جاك إيف كوستو (أبرز عالم بحار في القرن العشرين).
وحديثًا، فإن إعلان السياسي ميكسانس بوتي والفائز في الانتخابات البلدية الفرنسية عن مقاطعة نوازي لوغران إسلامه، دفع حزب “الجبهة الوطنية” الفرنسي اليميني المتطرف بزعامة مريان لوبان إلى تجميد عضويته في محاولة منه لإيقاف تضامن أعضائه مع الإسلام وهو ما أكدته تصريحات ميشال شامبارد الذي اعترف بأن الكثير من مناضلي الحزب إن لم يعتنقوا الإسلام فإنهم اعترفوا بعظمة القرآن الكريم.
ماكرون والأطروحة المزيفة
إن الطرح الذي يروج إليه إيمانويل ماكرون المتمثل في “النزعة الانفصالية الإسلامية”، هي في الحقيقة مزاعم لم تقدر دولة الحريات على إثباتها إلى الحد الآن عبر أدلة تبين حقيقة مساعي المسلمين لبناء “غيتوهات” اجتماعية ومتاريس عقائدية متشددة تُهدد وجود الجمهورية الفرنسية، يحمل خلطًا مريبًا وغير بريء يُساوي فيه الإيليزيه بين الإسلام كدين سماوي وتنظيمات جهادية ونزعات انكفائية لم تلق القبول حتى في بيئتها الأم (العالم العربي والإسلامي).
وما يكشف زيف ادعاءات ماكرون بأن علمانية ولائكية البلاد مهددة من الإسلام، هو مساعيه لما أسماها عملية إصلاح العلاقة المكسورة بين الكنيسة والدولة وإعادة إحياء الإرث المسيحي ودوره السياسي، وهي مفارقة توضح أن فرنسا تعزز سياستها الثقافية والعلمانية المتطرفة الرافضة لمساعي مسلمي فرنسا الفطرية للحفاظ على هويتهم، لدعم الروابط بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية في الداخل، وأيضًا لمحاولة لعب دور فيما يسمى بحماية مسيحيي الشرق.
هذه المفارقة دفعت الأحزاب اليسارية الفرنسية لانتقاد مساعي ماكرون في هذا الاتجاه واتهامه بتجاوز قانون 1905 الذي أعلن فرنسا جمهورية علمانية، أي دولة محايدة منفصلة عن الديانات، لكن هذه الأصوات كثيرًا ما تصمت حينما يتعلق الأمر بالمسلمين الفرنسيين.
ما يعني أن الأزمة الحقيقية لا تكمن في الإسلام كما زعم ماكرون، بل فيما تعيشه الدولة الأوروبية من أزمات على المستوى السياسي والاجتماعي وفي رفضها الاعتراف بالإسلام كدين ثان في البلاد، بعكس بعض الدول الأوروبية الأخرى التي أدمجت المسلمين في مجتمعاتها وحتى مؤسساتها الحيوية كبريطانيا التي سمحت للمحجبات بالعمل في الشرطة.
محركات الأزمة
من خلال عرض مراحل العلاقة بين فرنسا والإسلام، يمكن تحديد المحركات الأساسية للأزمة القائمة وحصرها في النقاط التالية:
المحرك الداخلي: يتمثل في العامل الإيديولوجي والعقدة التاريخية للشخصية الفرنسية التي تُقدم نفسها على أساس علوية الجنس الأبيض وأحقية الشعوب السامية بالتمتع بواجب الوصاية والرعاية للشعوب البدائية المستعمرة، وهو ما تلخصه مقولة السياسي الفرنسي جول فيري (1832-1893): “العنصر الأرقى عليه واجب نقل العنصر الأدنى للحضارة”.
من جهة أخرى، فإن النازع الديني يعد من المحركات الداخلية للأزمة، خاصة مع صعود نخب وسياسيين ينادون بعودة المسيحية ويحذرون من الفراغ العقدي والروحي (صراع الهوية في عهد ساركوزي 2009)، مقابل تزايد أعداد المسلمين في فرنسا، لذلك فإن العلمانية أصبحت مطية وآلية لتهميش الإسلام والتصالح مع الكاثوليكية التي تحالفت معها خلال فترة الاستعمار.
الانتخابات الفرنسية هي أيضًا من أبرز محركات الأزمة، لذا فإن تصريحات ماكرون الأخيرة ما هي إلا مجرد محاولة لجذب الناخبين اليمينيين قبل حلول الانتخابات الرئاسية في 2022، وهي انتخابات بات الآن يخوض في سبيلها تنافسًا شديدًا مع مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني والسباقة في عدائها للإسلام، ما يعني أن هذا التنافس دفع ساكن الإليزيه للمغالاة في معاداة الدين الثاني بحثًا عن أصوات اليمين المتطرف.
المحرك الخارجي: يُعد الانسداد الاقتصادي والأمني وضيق الآفاق الإستراتيجية المستقبلية لباريس، من أهم الأسباب التي تدفع الساسة الفرنسيين لاستعمال شماعة الإسلام والتهديدات، خاصة في معركة كسر العظام التي تخوضها باريس مع تركيا على أكثر من ساحة بدءًا من الملف الليبي إلى سوريا ومؤخرًا قضية الأرمن وأذربيجان وصولًا إلى غاز المتوسط.
وهو أمر أفصح عنه عالم الاجتماع الفرنسي فنسون جيسير Vincent Geisser صراحة بقوله: “اليوم، المسلم هو كبش الفداء لإخفاء إخفاقات الديمقراطية الغربية، المسلم ليس هو الضحية المذنب، وإنما هو الضحية الذي من الممكن التضحية به لتبرير مشاكل أوروبا الاقتصادية والاجتماعية”.
ومن الواضح أيضًا أن ماكرون طوع الإسلام والمسلمين لخدمة أغراض بلاده الإستراتيجية خاصة في حربها ضد التغلغل الناعم الذي تقوم به كل من تركيا وقطر على الأراضي الفرنسية وأوجد مؤسسات تتحرك ضد النموذج الثقافي الفرنسي.
من جهة أخرى، فإن الحرب التي يقودها الساسة الفرنسيون على الدين الثاني في بلادهم لا تستهدف الإسلام كما يروج له في بلد الأنوار، بل تستهدف الإسلام السياسي كحركة فكرية، وهي حرب تشنها باريس نيابة عن الدول المضادة للثورات العربية كالإمارات ومن ورائها السعودية خدمةً لأجندتها المتمثلة في تصفية حركات تُهدد وجودها بالمعني السياسي.
وهو ما كشفته التقارير التي نشرها موقع “ميديا بارت” وجاء فيها أن دولة خليجية (الإمارات) قدمت تمويلًا في سنة 2017 قيمته 8 ملايين يورو أنقذ الجبهة الوطنية من أزمة اقتصادية خانقة قبيل الانتخابات الرئاسية.
خلاصة القول، إن معركة فرنسا لم تكن يومًا مع الإسلام ولا المسلمين، فالأزمة التي يُروج لها هي صنيعة الغرف الخلفية للإيليزيه لاعتبارات سياسية ناجمة عن التحولات الجذرية في الخريطة الجيوإستراتيجية وبروز قوى مزاحمة لها في مجال سيطرتها التاريخية وأيضًا إلى تراجع دورها العالمي، ففرنسا عرف عنها سابقًا تقاربها مع العالم الإسلامي (أنظمة) في أكثر من مناسبة بداية من نابليون الذي أعلن إسلامه من أجل إخضاع مصر ووصولًا إلى دعم باريس والرئيس فاليري جيسكار ديستان لزعيم الثورة الإيرانية (الخميني)، وتعاملها مع (الوهابية) الخليجية بحسب اعترافات ولي العهد السعودي لواشنطن بوست، بأن نشر الوهابية كان بطلب من الحلفاء خلال الحرب الباردة لدرء التغلغل السوفياتي في الدول العربية.